الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قشور بحجم الوطن (رواية 2)

ميثم سلمان
كاتب

(Maitham Salman)

2010 / 5 / 29
الادب والفن


نساء...
برغم قلة النساء اللواتي اصطحبتهن من البار والشارع، إلا إني سئمت هذه العلاقات الرخيصة والسريعة التي تشبه وجبات المكدونالدز. تشبع بيد أنها غير صحية. فالعاطفة أيضا تصاب بالسمنة والترهل جراء تعاطي العلاقات الرديئة.
علاقات البار كالصحون البلاستيكية التي نستخدمها لمرة واحدة. تنمحي آصرتي بفتاة البار قبل أن تذوب الوردة التي أهديها لها. وليس كل من أنوي التعرف عليها تمنحني الفرصة، فهناك من تنزلق من يدي وتتركني في وحشة تثير السخرية في داخلي.
لطالما هزئت من ذاتي وأنا أعرض نفسي بطريقة صبيانية على فتاة تصغرني كثيراً محاولاً تزويق وزخرفة الكلام لإثارتها والقبض على نزقها. عندما تفشل محاولاتي باعتذار الفتاة مني بكياسة، أسمع قهقهة عالية تصدر من عيني الفتاة وكأنها تصرخ: "أغرب عني أيها الأقرع المسكين".
لا يحزنني عدم استجابة الفتاة قدر الألم من عدم الرضا على نفسي، فأنا مولع بتقريعها، حتى صار تعذيب النفس مثل لذة أمارسها عندما أنتهي من يومي وبعد أي شيء أقوم به. ولو نجحت في استمالة فتاة ما تراني أبحث بعدها عن أي خطأ فيها، أو في كلامي أو تصرفاتي معها لأعاقب نفسي بالتأنيب.
ذاك السأم جعلني أبحث عن علاقة حب حقيقة مع امرأة تعشق أخطائي وتصبر على تناقضاتي وتفهم تاريخي المثقل بالوجع. امرأة تبعث الندى في حياتي اليابسة. فكان الانترنيت عوني الكبير بالتعرف على عدة نساء. معين يضاهي البارات كما أنه لا يكلف شيئا، ويمنحني وقتاً كافياً في التفكير بما سأقوله.
قادني صندوق العجائب إلى امرأة في نهاية عقدها الثالث، ذات شعر أحمر وعينان عسليتان تنحدر من أصول أوربية لكنها مولودة في كندا. لها ولدان. عمر الكبير ثلاث عشرة سنة والآخر تسع سنين. تسكن في ولاية سسكاجوان التي تحد ولاية ألبرتا من ناحية الشرق. تعلقت بها ليس لود نشأ بيننا وليس لميزة فيها، بل لأنها الوحيدة التي اقتنعت بمواصفاتي حينها. صرت لا أفارق كمبيوتري إلا للذهاب إلى العمل، أو عندما تنشغل هي في أمور البيت حيث إنها متفرغة لتربية ولديها مستفيدة من المعونات الحكومية. نجلس لساعات أمام الثقب الذي أرى منه العالم، نتبادل كلمات الكترونية مشحونة بالشبق. وفي بعض الأحيان نتحادث ونرى بعضنا بكاميرا الكمبيوتر. بعد أن أشتد تعلقي بها طلبت لقاءها بإلحاح.
وصلت لمدينتها بعد رحلة في الحافلة جاوزت الثمان ساعات. كانت تنتظرني في المحطة. لمحتها وأنا محشور بين النازلين من الحافلة وصدمت لرؤيتها جالسة على كرسي متحرك، وكأنها أمام شاشة الكمبيوتر.
لماذا لم تقل لي أنها مشلولة؟.. لماذا وافقت على أن آتي إلى ولايتها البعيدة قبل توضيح حقيقة مرضها؟.. هل تريد إحراجي لأرضخ للأمر الواقع؟.. هل آخذها بالأحضان وأتصرف على أني أعرف كل شيء خوفا من جرح مشاعرها أمام الناس، وأمام ابنها الذي يدفعها؟.. لماذا لم تأبه لمشاعري؟.. لماذا لم تك حقيقية وصادقة معي؟.. كيف سأثق بها بعد الآن؟.. هل علي استعطافها ومعاملتها كمريضة تحتاج لعناية خاصة أم معاملتها كحبيبة؟... الصدق ماء الحب، إن فقد يذبل. والثقة هواء الحب، إن قلت يختنق. آه، كم أنا أختنق!
بحركة سريعة رفعت نظاراتي وقبعتي ووضعت يدي على خدي الأيمن وكأني أعاني من ألم في أسناني. صوبت نظري نحو بوابة الخروج ولم ألتفت ناحيتها. ربما لمحتني أو صاحت ورائي، غير واثق من ذلك، لأني كنت أصغي لصراخ روحي: "لا تعذب إنساناً آخرا، فأنت مشلول أيضا". فعجزي عن ممارسة ذاتي والشعور المتنامي بالفراغ والفشل وانعدام قيمة ما أقوم به ومسخ هويتي والعمل بآلية قاتلة وجفاف أيامي وتكرار صدى الموت في رأسي كلها عوامل تتظافر لتعطيل ذهني وتضييع جدوى البقاء وتصيبني بالشلل حتى لو حركت أطرافي.
ضياع...
تجولت في تلك المدينة التي أزورها لأول مرة. شاهدت رجلا يتبول على جدار متجر وهناك شرطي يحاول إيقافه. أثارني المشهد فدفعني الفضول كبقية المارة للتفرج عليه عن كثب. كان ثملا وهو من السكان الأصليين. والشرطي بملامح آسيوية. طلب الأخير الأوراق الثبوتية من الرجل كي يكتب له غرامة مالية على فعلته المخالفة للقانون لكن الهندي الأحمر استمر بالتبول ساخرا منه: "هراء، يأتي من الصين ليمنعني من التبول على أرضي! إنها أرضي وأنا حر لأفعل ما أشاء".
- عليك إبراز بطاقتك وإلا اعتقلتك.
- Bullshit(هراء).
حاول الشرطي تكبيل الهندي بالأصفاد لكنه تلقى دفعة قوية منه مما أضطره لرش الهندي برذاذ الفلفل الحارق. هاج وصرخ من الألم مغمضا عينيه ثم حبا على أربع باتجاه الشارع. لم تستغرق تلك المأساة أكثر من خمس دقائق حتى أصبح الهندي مضروسا تحت سيارة مارة.
أرعبني ذاك المشهد الدامي متسائلا مع نفسي: "هل ذنب الشرطي الذي يريد تطبيق القانون أم الهندي الذي يعيش في أرضه وله كل الحرية بفعل ما يريد؟".
كلاهما كان على حق. الهندي لا يرى البناية إلا كونها حجرات فرضت على أرضه والشرطي هو مجرد شخص غريب يعمل لحماية هذه البناية، فما شأن صاحب الأرض بها؟ وكأنه يقول: "أنتم أخذتم أرضي وشيدتم هذه البنايات عليها، وزيادة عليه تصادرون حقي بالتبول في وطني!". أما الشرطي فهو ينفذ قانوناً يسري على جميع المواطنين بكل الألوان. وهو غير مسؤول عن تاريخ تحاول كندا طيه بعشرات المواثيق التي منحت بموجبها الحقوق للسكان الأصليين والامتيازات الخاصة منذ أكثر من مائتي عام. احترت بتحديد من هو المذنب؟
حيرة...
سؤال أيقظ حيرة في داخلي ما كفت عن إرباكي، فهي لا تخفت حينا إلا لتثور مجددا. سؤال تبرعم في أحشائي مذ قص لي حسين تاريخ العراق (ما عمق جذوري في العراق؟). فكوني أحمل دين ولغة الفاتحين أعد مثل هذا الصيني (المستعمر الغريب) في نظر الهندي (المواطن الأصلي). حيرة تضاعفت بهجرتي إلى كندا حيث أصبحت مجددا غريبا على أرض ليست أرضي، والفرق الوحيد هو أني لم أولد في كندا. أنا مثل جدي الأول الذي قد يكون هاجر إلى العراق من جزيرة العرب، وبعدها أنجب سلالة دمجت مع هوائه وترابه فصارت الذرية جزءً من وطن المهجر، لكنها في نظر المواطن الأصلي غريبة.
سألت أبي مرة عن أصل جدي الأول، قال: "هو عربي قح، جاء من جزيرة العرب".
- يعني أنه غريب على أرض الرافدين!
- الزمن يمحي الفوارق مابين الأصلي والوافد.
طبعا لم أقل له أن هذا ليس عدلا. جاوبته بالصمت، وتركت انطباعا مريحا في داخله بأن ما قاله كان شافيا.
هل جاء جدي فعلا مع الفاتحين العرب؟ أم أنه من القبائل العربية القليلة الساكنة أرض الرافدين أم من السكان الأصليين الذين أجبروا على تغيير ديانتهم تحت حد السيف، ورضخوا فيما بعد لضغط الواقع وانضووا تحت لواء قبيلة عربية وافدة للحصول على مكاسب اجتماعية، كما يؤكد بعض المؤرخين؟
حيرة تجعلني أشعر بأني مواطن لقيط. حتما سيرث أبنائي هذه الاستفسارات المشوبة باللوعة سواء عشت في كندا أم في العراق. إدراكها يجعلني آصرة ناشزة في سلسلة مستمرة منذ ما يقارب ألف وأربعمائة عام. لوعة تساؤلات الهوية ستنبثق حتما، يوما ما، في رأس ولدي أو حفيدي. والهجرة، النفي، الاحتلال، القمع عوامل تنشط هذه الأسئلة على الدوام.
لو تزوجت من كندية وتشرب أبنائي الثقافة الكندية بكل ظواهرها، ثم يكون لهم أبناء من كنديات أو كنديين، هل ستكون ذريتي من السكان الأصليين أم أن ملامحي ستطاردهم؟ هل ستنطبع على جباههم لصقة الوافد أو المهاجر أو الغريب أم لا؟
ربما سيظهر عنصر من سلالتي يقترب بالملامح والثقافة من الفرد الكندي، لكنه حتما سيحمل سؤال مرجعيته الأصلية في جيناته حتى بعد مئات السنين طالما إنه ينحدر من سلالة وفدت من وطن آخر، وطالما أن هناك من يذكره بأنه يساهم بتغيير سحنة الأرض الكندية، وإضفاء قشرة غريبة عليها.
إن اخترت طريق الزواج من كندية سيضيف إلى لوعتي حسرة جديدة وهي تبخر ثقافتي وقيمي وكل موروثاتي بل حتى اسمي الذي سيلفظه أبنائي وأحفادي بلكنة انكليزية. أما إن تزوجت من عراقية وعشت في كندا للحفاظ على أرثي الثقافي ستكون مشكلة الانتماء للأرض أكبر لديهم. هذا إذا ضمنت اقتران أحفادي بزوجات أو أزواج عراقيين للحفاظ على أصالة النسل. حتما سيبقون مهاجرين إلى الأبد.
يبقى خيار أخير وهو الرجوع للوطن والزواج هناك من عراقية للإبقاء على نفس الخط السلالي وعدم تغيير مساره. إنه الحل الأفضل لكنه أيضا لا يغير من حقيقة كوني أنحدر من نسب عربي وليس رافديني يكرسه تحدثي بلغة الفاتحين وتدين قبيلتي بدينهم.
لكن كيف لي العودة وأنا هارب من البلاد؟ وبأي اسم سأعود، المزيف أم الحقيقي؟ كيف لي تغيير الجذور، ففيها تكمن العلة؟ أحلم بالخلاص من كل الأقنعة التي تراكمت على سحنتي، أو على الأقل أن يكون لي ولد خال من أي قناع، متصالح كليا مع ذاته. لا يعرف شيئا من تلك الغربة. لا تمزقه تناقضاتي أو قشوري: اسمي ليس اسمي.. وطني ليس وطني.. مهنتي ليست مهنتي.. بيئتي ليست بيئتي.. لغتي ليست لغتي...
أقنعة...
بعد أن غرفت قدرا يكفي من كلمات إنكليزية في المدرسة لتمضية يومي كيفما أتفق هجرتها للعمل في مهن عدة: غاسل صحون في مطعم شاورمة لبناني، منظف في قاعة للعب البنكَو تحت إمرة رجل عراقي كردي، حارس ليلي في سوبر ماركت ضخم، حمال في مخازن مواد غذائية، عامل في مصنع زجاج مع حميد تحت إشراف رجل هندي، عامل في معمل دجاج... إلخ. عانيت في جميعها من الالتزام بمواقيت الدوام الذي لا أطيقه سيما عند ممارسة مهنة مقيتة.
نصحني حميد للعمل كسائق تاكسي: "على الأقل هناك مرونة في تحديد ساعات العمل وعدم وجود مسؤول مباشر عليك". بعد جهد ثلاث محاولات تمكنت من اجتياز اختبار معرفة خارطة المدينة وتم تعييني في إحدى شركات سيارات الأجرة.
رغم إضافتها قناعا جديدا يدفن ملامحي واسما آخرا لأسمائي (كابي) إلا أن مهنة سائق تاكسي منحتني متعة ولوج عوالم الآخرين، وإمكانية إعطاء دروس تاريخية مجانية للزبائن. أستلذ بالحديث عن تاريخ العراق. أسرد للزبائن قصصاً عن العراق وكأني ألقي دروسا على طلابي، حلم عصي التحقق. كلما زادت دقائق عمري، تراكمت أحلامي المستعصية فأحلامي بذور متناسلة في واقع بور.
كانت عربتي كسفينة تمخر عباب بحار الناس من مختلف الأجناس. رحلة التاكسي فاصلة سريعة في عمر الزبون. تبرق في فضائي كومضة تحمل شفرة تاريخ كائن ما. أندفع بقوة الفضول للإبحار في تاريخ هذه الشفرة. منهم من يتبرع بمجانية لسرد قصة حياته، وآخر يلقي متاعبه اليومية على مسامعي وكأنه يتغوط كابوساً مزعجاً في المرحاض، وآخر يريد مني نصيحة ما، وآخر يستعرض متبجحا نجاحاته، وآخر يريد التعرف على ثقافة وطبيعة البلد الذي قذفني، وآخر يجرد أعماله اليومية وكأنه مطالب بذلك، وآخر يستنكف الحديث معي لأني ذو بشرة سمراء أو لأن أنفي كبيرا أو ربما لأني مجرد سائق التاكسي، وآخر يقضي الوقت محدقا بالعداد، وآخر يراقب مسار الرحلة تحسبا من سلوك طريق طويل، وآخر يتململ قبل الوصول تأهبا للهروب من دفع الأجرة . وهناك من النساء من تعرض بعض الخدمات بدل الأجرة، وغيرهن تسألن عن جمالية مظهرهن وتسريحة شعورهن للتأكد من كونهن مازلن مثيرات، وأخريات يبدأن حديثهن بلعن الرجال ووو.
قيادة التاكسي درس جيد في تعلم طبيعة أي مجتمع. الزبائن يقولون لسائق التاكسي ما لا يقولونه لأي شخص آخر لأيمانها بعدم لقائه ثانية. رست سفينتي على موانئ شخصيات غريبة وطريفة ومقيتة وغبية وشرسة ومجرمة الخ، كما التقيت في رحلة الإبحار أناس عرفتهم سابقا.
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في