الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواطنون أم رعايا أم رهائن ؟

عبد الرحمن دارا سليمان

2010 / 5 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


منذ نهاية العقد السادس من القرن الماضي، طغت في الأدبيات السياسية العربية مفاهيم المواطنة ودولة القانون وحكم المؤسسات، في محاولة من محاولات المراجعة الداخلية العميقة للفكر السياسي السائد حينذاك من أجل إستيعاب ودراسة أسباب نكسة حزيران 1967 وتحت تأثيراتها الفكرية والنفسية وإنعكاساتها الإجتماعية والسياسية المتعددة .

وإن كان صواب التشخيص في أن الأصل في الهزائم الخارجية هو كامن في بنية الدولة وهزيمتها الداخلية وعجزها عن مواجهة الأزمات المختلفة بالأساليب العقلانية السليمة، ومسؤولية النخب السياسية الحاكمة منها والمعارضة ودورها ومساهمتها في الفشل والخراب العام الذي نتذوق اليوم ثماره المرّة أفرادا وجماعات وعلى كافة الأصعدة والميادين الإجتماعية والإقتصادية والثقافية، فإنّ الإستمرار في إنسحاب الدولة عن دورها الإجتماعي وعن ضمان أمن وسلامة مواطنيها وتحسين شروط حياتهم ومعيشتهم، وتخلّيها في المضمون عن مسؤولياتها الإجتماعية، يؤدي بالضرورة الى إنفصال الدولة عن المجتمع وتفرّغ العديد من نخبها ورجالها للإثراء والمنافع والإمتيازات الشخصية المصاحبة للقيادة السياسية ومواقع المسؤولية والتي أصبحت منهجا وعرفا في تلك الأوساط ، وتوشك أن تكون القاعدة التي لا إستثناء لها في السلوك السياسي العام .


ولايمكن أن يكون ذلك الإنسحاب من قبل الدولة والإستقالة الأخلاقية للقائمين والمؤتمنين على سيرها، هو المخرج والحّل الصحيح للإنفجارات والأزمات العميقة في المجتمع والسياسة معا، بل على العكس تماما هو مؤشر بالغ الأهمية ونذير للمزيد من الهزائم والإنكسارات المقبلة والتدمير الداخلي المنظّم رغم وعي النخب السياسية بالعواقب والنتائج الكارثية التي سوف تنشأ عن إضطراب العلاقة بين النخبة الحاكمة والمجتمع بدلا من السعي الى تنظيمها على أساس من العدالة وحفظ المصالح وتوازنها، لأنّ معرفة الداء ليس بحدّ ذاته دواءا بل قد يكون سببا إضافيا للتلاعب والإحتيال بحالة المجتمع المريض .

وكما كان لإنفصال الدولة عن المجتمع ومصادرة السياسة التي ينبغي أن تكون نابعة منه في دولة المواطنة وحكم القانون والمؤسسات، إنعكاسات إجتماعية خطيرة تجلّت في تهميش الدولة المستمر وإقصائها المتعمّد للمخالفين في الرأي والإعتقاد وملاحقتهم وتصفيتهم بشتّى الطرق والأساليب وتصنيف المواطنين على مقاسها الحزبوي والسياسي الى موالين وغير موالين، وتأثيرات ذلك في المسارات السياسية والإجتماعية اللاحقة، كان أيضا سببا جوهريا في عودة الجماعات الدينية بقوّة لملئ الفراغ الناشئ في الساحة الإجتماعية وإستثمار السخط والإستياء العام وتوظيفه في صراعاتها للوصول الى السلطة، كما كان مادّة خصبة للجماعات المتطرفة منها لتوظيف اليأس والإحباط وإنسداد الآفاق الناجمة عن تلك السياسات، في الإرهاب الذي بات ينظر من خلاله لكل عربي ومسلم في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر على وجه الخصوص .

هكذا تعاملت دول العشائر والعساكر مع مفهوم المواطنة وأفرغتها من بعدها الإنساني والشامل حيث ينبغي فيه أن تكون الدولة مظلّة الجميع دون تمييز، وقامت نظريا وعمليا خلال عقود طويلة على تفتيت المجتمع وتكريس إنقساماته وتحويله تدريجيا الى جماعات أهلية متنافسة ومتخاصمة ومن ثم الى مجرد أفراد معزولين لا يربطهم مع بعض حسّ المسؤولية والتضامن وشروط العيش المشترك رغم أنهم يتكلمون لغة واحدة ولهم تاريخ واحد ويعيشون على رقعة جغرافية واحدة .

وهكذا أيضا تعاملت حركات الإسلام السياسي مع مفهوم المواطنة أينما تمكنت من إحتلال مواقع لها في السلطة السياسية أو الإجتماعية، وعادت بالمفهوم قرونا الى الوراء، وإستبدلته عمليا بمفهوم الرّعية حيث لا تقوم المجتمعات في إعتقادها على مبادئ الحقوق والواجبات المتساوية للأفراد وحريتهم في الإختيار ومساواتهم أمام القانون، وإنما تقوم تلك المجتمعات على مبدأ أخوة الدين والإيمان الذي لا علاقة له إطلاقا بمعنى الدولة الحديثة ووظيفتها، وهو إعتقاد لا ينشأ عن الإفتقار الى معرفة الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة فحسب وإنما عن خطر الإعتراف بالحرية والمساواة وحق المشاركة في صنع القرار السياسي والشأن العام أيضا .

إنّ علاقة الأفراد بالدولة ينبغي أن تكون علاقة مباشرة ولا تمرّ عبر وسيط ديني أو غير ديني، وكل فرد هو مواطن ومسؤول وله حق المشاركة في تقرير المصير العام، لكي تصبح الدولة إطارا وطنيا وسياسيا وقانونيا جامعا، يعبّر عن الإرادة الكلّية ويعكس وحدة المجتمع وتنشأ بين أفراده مصالح مشتركة .

وما يعطّل العمل على تحويل الدولة الى ذلك الإطار الجامع في العراق الحالي كأفضل مثال على ما ورد، هو السعّي الدائم للجماعات السياسية المتنافسة الى خلق مراكز قوى متضاربة داخل كيان الدولة والإدارة العامة وتعمل بالتعاون مع شبكات المصالح المرتبطة بها على خدمة الأغراض الضيّقة وما يختفي وراءها من مصالح أنانية وشخصية، وهو ما يلغي تماما إمكانية نشوء دولة وطنية حديثة، ويفسّر في حقيقة الأمر جوهر الصراع الأساسي على الدولة ومناصبها العليا بإعتبارها الأداة الأمثل والسلاح الأمضى في يد جماعات المصالح للتحكّم بالمصير العام وتحويلها الى إطار لتقاسم المغانم وتنمية المصالح الخاصة بهذه الجماعة السياسية أو تلك .

وكما لا يمكن للفوضى السياسية أن تخلق أو تسمّى نظاما، فهي لا تعيد الاّ إنتاج نفسها بمرور الوقت، الأمر الذي لا يعني سوى إستمرار العنف والتوتّرات والنزاعات التي تتغذى من نزعة الإستئثار والإحتكار حيث كل صيغة من صيغ التوزيع للمغانم سيفرضها ميزان القوىالمركّب والمتحوّل أبدا، وسيكون من الصعب الخروج من هذا المأزق ما لم تنجح الدولة في التحوّل الى فضاء عمومي قانوني وإنساني يتّم في إطاره تجاوز المصالح الخاصة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد