الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسرار النجم الغجري

محمود يعقوب

2010 / 6 / 20
الادب والفن



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ ماذا كسبت ( نـَصْرَه ) من ( فـِعلَتِها ) في البصرة ؟ ..
ليس عندي ما يمكن قوله سوى هذه الكلمات الفجـّة بحروفها المرهفة الجارحة ، التي نزلت من لساني مثل برادة حديد ٍصدئة ٍ ، تخشخش بين شفتي بجرأة ٍ لم أعهدها من قبل ُ .
إنها أول مرة ٍ أتطاول فيها على هذا الكائن الضعيف ، وهو يقف أمامي بنظراته الخائنة ، وفي كل لحظة ٍ يُرَتـّب كوفية الذنوب العظيمة التي يلفــّها فوق طاقيته المُشـَبّكة البيضاء كما يفعل كل قوّاد ٍ من قوادي شارع ( بشـّار ) .
خـَطرَ لي أنه سوف يستقبل سؤالي بجفائه ولامبالاته ، كما كان شأنه دائما . لكنما وقدة خاطفة من انفعال سرابي لاح لي في عمق عينيه لثوان ٍ فقط لـَملم َ وجنتيه وغيّر لونهما .. انفعال خـَدَش حيائي وردّني على عقبي ..
لاحظوا .. لست جسورا ً إلى هذا الحد من الاستهتار .. إنما هذا الغجري المـُتنطس ـ عَثــَّره الله ـ
دفعني عنوة ً إلى الانزلاق في درك القول الفاسد بأفعاله المتعثرة التي نكـّست رؤوسنا وطأطأتها إلى التراب ..
كان ممسكا ً عن الجواب . يواجهني بوجهه الأملس وبتلك النقطة الخضراء الموشومة على أرنبة أنفه الأسمر النحيل .. النقطة الخضراء التي تبتسم بصمت وتبعث إيحاءاتها الجنسية الرقيقة ..

في جفول الأيام .. في الفقر المدقع .. في العمل المحيّر ، تعرّفت عليه ، واحدا ً من أبناء الرياح ، لا يملك ذرّة من التراب ، لكنما الأرض الفسيحة أرضه ..
في وغرة صيف الجنوب ، وخلف نضد النجارة ، فاجأني يوما ً ، بجسده النحيف ، وثوبه الرمادي المتخشب من كثرة العرق المجفف والغبار . يحمل كيسا ًمملوءا ً بقطع ٍ من خشب الرمـّان .

في سنوات الحصار ، نجحت مرة ً في عمل أخشاب البنادق بدقة ٍ ومهارة ٍ جعلت اسمي يتسرب خفية ً وسريعا ً من فم ٍ إلى فم ٍ ، ويصل إلى مشارف المدينة وضواحيها ويقع في أسماع الغجر المخيمين من وقت ٍ بعيد هناك .. وقع في أسماعهم مُلـَمـّعا ً ومُبـَجـّلا *..

خيـّم أولئك الغجر في مكان ٍ ناء ٍ أجرد وأملح ، يسلك الناس إليه طريقا ً ترابيا ً وعرا ً . كان إصلاح الأسلحة النارية أشهر الحرف التي عاشوا على وفرة أرباحها .. إصلاح أعطابها وتوقفاتها ، واستبدال ما يـُتلـَف فيها ، ناهيك عن تجديد أخشابها القديمة .. لكنهم في هذا الأمر الأخير لم يكونوا بارعين مـُوفـّـقين ، كان عملهم بدائيا ً غير متقن ، رأيت بعضها ، كانت مسحوجة ً برداءة ومثقوبة ً بطريقة الكي ، كانوا يثقبون بأسياخ متوجرة ٍ في النار ، وفيما بعد يطلونها بطريقة ٍ مضحكة !..
أنجزت خلال عملي في النجارة بعضا ً من تلك القطع ، أعقاب بنادق ومقابض .. بذلت لأجلها عملا ً دؤوبا ًوعناية فائقة ، كما أسرفت في الصبر عليها إسرافا ً منقطع النظير ، وأبليت في طلائها وتلميعها بلاءًً حسنا .. حتى إذا ما اكتملت صارت لا تختلف كثيرا ً عن النماذج الأصلية منها . أثارت سحابة ً من الإعجاب حولي ، وجذبت نحوي العديد من الزبائن !.. إن كل ذلك في كفة ٍ وتهاوني في أسعارها كان في كفة ٍ ثانية .
لم يكن العمل في أخشاب الأسلحة بسيطا ً هينا ً من الناحيتين المهنية والأمنية ، فعلى الصعيد المهني كان عملها بالغ الدقة والتأني .. استنساخ يدوي حَذِر ، شديد الحرفية ، وإن أي أجر ٍ يُدفع مقابلها لا يُعَد مجزيا ً . أما على الصعيد الأمني فإن العمل فيها مغامرة خطرة ومجازفة لا تـُحمد عقباها .
لكنني أستطيع القول بأن متعة الفن و المهارة التي أبديتها ، وهالة الإعجاب التي سوّرت أسمي هما اللذان جعلاني أمتزج روحيا ً مع هذا العمل وأنغمس فيه مدةً لا بأس بها خلال عملي نجارا ً ، لأجد فيه السلوان الحقيقي لضياع أيامي بين ركام الخشب وسفالات عمّال النجارة ـ الذين كنت أعمل معهم ـ وأفعالهم الفظيعة !..
سرعان ما اتصل بي الغجريون يعرضون علي طلباتهم المتوالية ، على أن يجهزوني بخشب الرمـّان ، في تلك الأيام التي ضاعت فيها كل أنواع الأخشاب . وبالرغم من أن خشب الرمـّان لم يكن مطاوعا ً وتعرقل صلابته سلاسة العمل ، لكنني انطلقت لفوري أنجز لهم طلباتهم ..

إنني في الواقع أعرف من يكون هؤلاء الغجر اليابسون ، الذين قضمت القوارض أطرافهم . بل إنني مقتنع تمام القناعة بأنهم ما جاؤوا إلي إلا ّ لأنهم يريدون خبزا ً حارّا ً ، ناضجا ً ، ورخيصا ً . ومع ذلك فان استهواء الفن ومتعته كانت تتحكم بي وتمسك بزمامي ، وتزيد من رحابة صدري أمام هؤلاء الغجر والآخرين من أمثالهم ..
في اليوم التالي أوفد الغجر رَجُـلهم ( نجم حسره ) ..
جاءني مثل غمامة ٍ ترابية .. غمامة ترابية تخنق البشائر . وضع كيسه المليء با لخشب على نضد النجارة وطلب شيئا ً من الماء . كان مساعدي ، الفتي ، متنبها ً إليه ، مصغيا ً لكل نأمة ٍ تند عنه ، ولعله اعتبر( نجم ) صيدا ً وفيرا ً جاءه إلى الفم .. صيداً انتظره بتلهف وتهور ، سرعان ما عقـّب على طلبه قائلا ً :
ـ إن الأمر ليس مجرد شيء من الماء ..
وأسرع يجرجر خرطوم الماء ، ثم فتحه ليتدفق بقوة ٍ ، وقال له متهكما ً :
ـ هاك .. خذ ْ وأزح عن كاهلك حمولة التربان التي جلبتها معك ..
بعد أن نفضه جيدا ، ًرفع ( نجم ) أطراف ثوبه وغرزها في حزامه الجلدي العتيق ، بانت ساقاه نحيفتين سمراوين خاليتين من الشعر . راح يغتسل على مهل ٍ ، ثم مدّ رقبته ووضع خرطوم المياه فوقها ، وحينما انتهى من ذلك لمعت مثل علبة برونز عتيقة . وأنهى اغتساله بأن ملأ فمه بالماء وتغرغر طويلا ً، ثم مج ّ الماء بصوت ٍ عال ٍ نافثا ً إياه إلى مسافة بعيدة ، الأمر الذي أثار نزق مساعدي وحدا به أن يصرخ صرخة تعجب خرقاء ويضحك ضحكا ً صبيانيا صاخبا ً، قفز بعدها فجأة ليقف جنب الرجل وأخذ يقيس بقدميه طول المسافة التي قذف فيها الماء ، ثم التفت إليه ضاحكا ً وهو يقول :
ـ أعتقد أنك حطمت الرقم القياسي في قوة المج ..
إن صنـّاع النجارة مشاكسون ..كنت أعرفهم مهنيا ً فاسدون بطبعهم ..
كانت تلك أول مشاكسة لنجم ، وابتداء ً منها وإلى النهاية كانت رحلة ( نجم حسره ) عبارة عن مشاكسة حقيقية .. مشاكسة لا تنتهي .. تجعلني أفتكر في أغلب الأحايين بأن رحلة الحياة ، ليست لنجم وحسب ، بل لنا جميعا ً رحلة مشاكسة محفوفة بالمخاطر ، تختلف حدّة إثارتها من واحد ٍ لآخر !..
كان ( نجم ) يعمل عند صيقل أسلحة غجري ، اشتهر جيدا ً بإصلاح بنادق الصيد .. تلك البنادق التي تـُطلق الكثير من الخراطيش وتـُعـْطـَب سريعا ً، كان يعمل في خيمته الواسعة نفر ٌ من الغجر يصنعون خراطيش الصيد يدويا ً، وعلى الرغم من تدني الدقة والإتقان ، وعلى الرغم من أن بعض الناس يميزون هذه الأعمال بعبارة ( دَقْ النجف ) إلا ّ أنه كان العمل الأنسب والأرخص والأوفر أمنا ً ، لأنه يغنيك عن مخاطر البحث بعيدا ً ..
اعتاد الغجريون أن لا يبعثوا ( نجم ) إلى المدينة إلا بعد أن يضعوا في راحة يده أجور سيارات النقل ، إلا ّ أنه كان يفضل إنزال تلك الأجور في جيوبه ويسلك الكيلومترات الخمسة ماشيا ..
إنه يفعل هذا الأمر كل مرة ٍ . حالما يصلنا يجلس ساندا ً ظهره إلى الخشب ، لا يتبادل سوى القليل من الحديث . إنه رجل معتاد ومقتنع بالقليل القليل .. يأكل قليلا .. يشرب قليلا .. ينام قليلا .. يدخن قليلا !.. يسترخي استرخاء القطط ، ويلبث نائما ًنوما ً قلقا ، ثم بعد تلبثه يفتح عينيه ثانية ً ويرفع صوته بالغناء .. يغني بصوت ٍ شيخوخي عذب مبحوح .. يغني تلك الأغاني المضمخة بأحزان الغجر واضطرام الهيام في حشاشاتهم .. الأغاني التي تتبدى لي سمراء مالحة ً .. الأغاني التي ترتعد فيها الأحاسيس وتفوح منها رائحة العرق المجفف والغبار . حقيقة لم يكن الرجل يغني بقدر ما كان ينوح نواحا ً أنثويا ًيقطع نياط القلوب . كنت أعشق ذلك النوع من الغناء ، أسمعه مطرقا ًً وأنسجم معه وأستسلم إليه بكل جوانحي .. على عكس مساعدي الذي لا يحب غناءه ولا يتفهمه ، ولولا خشيته مني واحترامه لمشاعري لكان قد استقبل غناء ( نجم ) بأقوى عفطة ٍ من عفطاته المتسربة بلا حدود ..
أحيانا ً حين يطبق ( نجم ) جفنيه مسترخياً ، ينبهني ذلك المساعد قائلا ً :
ـ أحرص على أن لا توقظ طيرك المغرد ، إنه يغط في نومه ..

تردد( نجم ) على محل عملي وقتا ًكافيا ً لكي تتوثق علاقتي به . كان من النوع الأليف والوديع ، يشبه طيور البر ، يطمأن له القلب سريعا ً، مسكين يحمل في وجهه أسى ً لا يريم ، ويغشي الشرود ملامحه ..
كان رجلا ً برّيا ً ، فيه بساطة البرّية وتواضعها ، وتزهـّدها ، وقناعتها ، وروحها الساكنة ، وعفويتها . يبدو وكأنه لا يحتفل بالآخرين ، أو لأقل بشكل أوفى أنه رجل قليل الفضول ، غير لبق ، مقتضب العبارة ، يسأل ويجيب بأقل عدد ممكن من الكلمات ، غير ميّال إلى المجاملات .
يتكلم بفتور مزعج.. يتكلم مثل أمين صندوق يجلس منعزلا ً ونعسان بين رزم الأموال ، ولولا جدران الزجاجٍ التي تحيط به داخل المصرف لما أمكن للعين أن تقع عليه ..
كان ذلك يغيض الفتيان الذين عملوا معي ، الذين تفانوا في ازدرائه ، و حاولوا مرارا ً جعله مادة ً لتندرهم ، يلتمسون التسلية معه ، مستغلين طيبته وفطرته المشوبة بشيء من السذاجة . ولعل ما كان يغيظهم أكثر تلك الصداقة المستوثقة بيننا ، وذلك الاهتمام والترحاب الجميل الذي كنت أتلقاه به . حقيقة كنت أشفق عليه وأرعاه ، بعكس أولئك الفتيان الذين يسخرون منه وينكرون علي صداقته ، ويسألونني باستخفاف :
ـ أين عثرت على هذه اللقية الثمينة ؟..
ولعل ما يخفى عليكم من أمر هؤلاء الصنـّاع ، أنهم يتلهفون إلى استقبال جميع الناس في محل عملهم ، ما خلا أولئك اليابسين ، من أمثال ( نجم ) ، من تحجـّرت أياديهم وكفـّت عن الاندساس عميقا ً في جيوبهم وإخراج بعض النقود منها ، ومن ثم فإن أي لوم أو تقريع يُعَد غير مجد ٍ معهم ..
توثقت علاقتي به و أخذت أصطحبه معي إلى البيت ، أحمله على الاستحمام ، وأطعمه ، وكثيرا ً ما أجعله يبيت معي حتى أُتِمَّ له في اليوم الثاني أخشابه .
أثار هذا العمل حفيظة عمـّال النجارة ، والأكثر منهم حفيظة زوجتي ، التي كانت تشمئز من أوساخه ومن ذكرى تلك القملة التي عثرت عليها وهي تدب فوق وسادته !..
وكانت تخاطبني بقسوة ٍ كلما رأتني أصطحبه :
ـ كيف تجرأت وجلبت لنا عش القمل هذا ؟..
كانت تشعر بأنه عبء ثقيل على المنزل .. ثقيل بأعقاب سجائره التي يحذفها كيفما اتفق .. بروائحه الطاردة .. بثوبه المتخشب جراء التعَرق والغبار .. الثوب الذي يعظـّه الكلب ثم يعوي كما تقول ساخرة ً . إنها كلما تقف أمامي وتؤنبني على إحضاره ، فإنها تعكش وجهها و تتنفس باشمئزاز ، وكأنه لم يزل واقفا ً حيالها بأوساخه . إنها تعتقد أنني عثرت عليه في البرية وجلبته معي . بينما أقسم أنا بأغلظ الأيمان أن الصدفة وحدها هي التي جمعتنا ، وإنني لم أقصد جلب الأذية لأحد ٍ ..
كنت أعاتبها دائما وأقول لها ( يا امرأة إنه ليس طاعونا ً ولا جدريّا .. إن اصطيادك قملة ً أو قملتين من فوق وسادته لا ينبغي أن يذهب بصوابك إلى هذا الحد .. ) .
طمأنتها برحيله في وقت ٍ ما ، وكنت أصرّ أمامها على أنه وردة .. وردة ًبريّةً حتى لو كان عطرها يحبس الأنفاس . لكنها كانت تطبق طرف إبهامها الأيمن على طرف سبابتها وتهزهما هزا ً عنيفا ً في الهواء وهي تلعنني وتلعن اليوم الذي عرفتني فيه ..

كنت أردّ ُ عليهم جميعا بمرارة ٍ وعصبية ٍ قائلا ً :
ـ لا جُرم في مرافقته وصداقته ، إنه رجل فطري ، ما قصتكم مع هذا الإنسان الطيب الفقير ، الخفيف الظل ؟.. أريد أن أعرف لماذا ترونه مثل الصخرة الجاثمة على قلوبكم ؟.. هل تودون أن أمسك به وأدفنه في حفر الباطن ؟.. أم أذهب وأغرقه في رأس البيشة ؟..** إن أمركم لعجيب حقا ..
لم أسمح لأحد ٍ منهم أن يكرر الأقوال المأفونة عنه ، لم أسمح لأحد ٍ منهم أن يسبه ويسب أباه وأمه أو يسب الغجر حتى سابع ظهر أمامي ..
دافعت عنه دفاع الصديق المخلص . ذكرتهم كثيرا ً أن روحه روح ٌ حلال ، وأنه طين ٌ نقي ٌ ٌ لم يتلوث بعد بالحيلة والخباثة ، وأكدت لهم إنه ليس همجيا ً ولا إنسانا ً منبوذا ..
لم أسمح بتعنيفه أمامي على أي حال ، وعلى العكس ، أوقدت شرارة الغيرة في نفسه ، وشجعته أن يرد الصاع صاعين لهم ، وأن لا يجعل الوقر يملأ مسامعه وهم يكيلون السخرية له .. شجعته فعلا ً ، حتى سمعته يتصدى إلى مساعدي الغر ، الذي كان يحمل أسما ً مثل أسم رئيس البلاد في وقتها ، ويطلق الادعاءات جزافا ً ضد ( نجم ) ، لقد ردّ عليه ردا ً حصيفا ً نال إعجابي عندما قال له :
ـ أسمع ، إنك شؤم ، وإن أسمك خال ٍ من البركة !..
سكت الجميع دهشة ً ، وعقد الخوف ألسنهم ، ذلك لأن أسم السيد الرئيس كان فوق كل الأسماء المقدسة . لم تمض مدة قصيرة حتى عاد مساعدي يُذ َكرني متسائلا ً :
ـ هل قلت أنه خامٌ بلا حيلة ٍ وخباثة ؟.. ألم تسمعه كيف أقحم الكلام في السياسة ؟..
كان لا يطمئن إلى صنـّاع النجارة ، مثلما لا يطمئن إلى الناس الحضريين الذين يتسكعون جلوسا ً عند أبواب بيوتهم ، وهم يكنسون الطرقات بمكانس غيبـَتِهم ونميمتهم !.. ولطالما قال بوثوق أن عظام هؤلاء لا تنفع سوى في السحر الأسود ، أو مقابض للسكاكين .. إن الغجر يدركون مثل هذه الأمور أفضل من غيرهم ..
رغم كل ما جرى ، ما انفك ( نجم ) يؤكد لي دائما ً قبيل انصرافه بأنه يمضي وقتا ً ممتعا ً معي ، يتمنى أن يطول ويتكرر باستمرار ..
واظب يتردد على محل عملي ، يجلب تلك الأشياء المخيفة .. الأشياء التي تمثل تهديدا ً لأمن عملي ومستقبلي ، وعلى الرغم من أنني حملت ذلك في الحسبان ، لكنّ خيوط الهواية وبريق الفخر ونشوة الإبداع ، أضف إليها كلمات الإعجاب المنثورة فوق طريق عماي ،ما يجعلني أغض الطرف عن كل خطر وتهديد !..
كنت أبدع وأزخر في العطاء ، وصارت تلك الأشياء ترخي علي سبل العيش في أيام عصيبة عجاف .
لا أنسى هنا أن أذكر أن ( نجم ) شخص لا يجلب الشبهات ، فهذا الرجل الصموت الذي لا ينطق الكلمات إلا ّ بالمثاقيل ، والذي لا يخالط الآخرين ، كان يسلك في رواحه وغدوه طريق تراب ٍ متعكر ، يغرف ترابه بنعله الجلدي وحيدا ً كالدرويش ..
يا لهؤلاء الغجر ويا لأسرارهم العجيبة !.. إنك لا تعرف حتى أين يدفنون موتاهم .. في أي أرض .. في أي سماء ؟ !..
إنهم قوم غريبو الأطوار ، ليس من السهل مخالطتهم وجذبهم إلى دوائر الاهتمام . وإضافة ً إلى أفكارنا المتواضعة عنهم وما يقال بحقهم ، فإن الله مذ خلقهم وإلى الأبد سوف يُبقيهم منشورين على الطرقات الريفية مثلما تنشر في الهواء الطلق الغزول المصبوغة بالألوان الطبيعية ، البرّاقة الجميلة ، الصافية ، تلك الألوان التي يحلو لنا جميعا ً تسميتها بالألوان العطـّارية !..

عرفت الكثير عن ( نجم ) ، الذي كان يَزهُف به العمر إلى الثلاثين ، عرفت لماذا كانوا يسمونه ( نجم حسره ) ، إنهم كانوا ينادونه باسم أمه ، المغنية الغجرية التي ماتت منذ طفولته ، أما والده فلا وجود له في حياته ، هجرهم مبكرا ً هبّ مع الرياح ، بعد أن لدغته أفعى الغرام الغجري . لم يفكر فيه ( نجم ) لحظة ً واحدة ً ، وما اشتاق إليه في يوم ٍ من الأيام ، وإن كان في شوق ٍ لشيء ، فإنه في شوق ٍ وعطش ٍ غريب إلى أن يغرز خنجره في قلب ذلك الغجري الغدّار !..
ملامح ( نجم ) شاردة ، تتعثر في حيرتها ، يغض عينيه الدعجاوين عند الحديث دائما ً .. يغضضهما على نحو ٍ بائس ٍ ..
أقول مرة ً أخرى ، إن لا مبالاته الاستفزازية الحادة ، تجعلني أعتقد أنه شخص مستعد أن يغمض عينيه ويموت في أية لحظة !.. ربما كان يشعر أنه مخلوق فائض ، أو أن خطأ ً ما كان قد اقتـُرِف خلال خلقه !..
كانت له طريقة مسمارية واخزة في التصدي إلى سخرية الآخرين وكلامهم التافه .. غالبا ً ما يتظاهر بأنه لا يسمع شيئا ً ، تجعله مثل جليد يقذف على ألسنة اللهب المندلقة من أفواههم . إنهم ما فتئوا يقولون أنه لا يشتري كلام أحد ٍ بفلس ٍ أحمرَ واحد .
لم يتربَ على فنون الغجر جيدا ً، بل إن ومضات كانت تخطف في داخله ، تسلبه لبه ، وتتركه فريسة أحلام ٍ وخواطر مزخرفة تتماوج بين عينيه بخوف وقلق .. كان يحلم بالتحليق بعيدا ً .
تلك الأحاسيس كانت تجعلني أغمره بفيض أكبر من الحنو والشفقة .
إن من يسمعني وأنا أتكلم هكذا عن سيرة هذا الرجل ، ووفق هذه التصورات ، سوف تذهب به الظنون إلى أنني أتكلم عن شخص ٍ مهزوم .. مهشم .. عن خرقة ٍ بالية ٍ لا نفع منها !..
كلا أبدا ً .. أنا لم أقل ذلك . إن ما يتبادر للأذهان من صورته الخارجية شيء يختلف تماما ً عن دواخله الغائرة .. يختلف عن تلك الأعماق السحيقة المليئة بالطباع الغجرية الجامحة ، التي تجعل منه رجلا ً مقداما ً ، سرعان ما ينهض من كبوته ولا يستسلم أو ينحني للأنواء .. وإن الحيرة التي تتلاعب بأفكاره سوف تترنح وتسقط أمام عزمه وتوثبه .. إنه ابن الرياح التي لا تهجع ولا يوقفها سكون ..
في إحدى الليالي التي كان يبيت فيها ( نجم ) معي ، أعلن بشكل مفاجىء عن نيته في الرحيل ، قال إنه عزم على هجر ذلك المعسكر الشاحب ، الذي وجد نفسه مدفونا ً منذ طفولته في آلامه وتجهمه ، والرحيل إلى مدينة كبيرة رحبة يلعب هواءها في أُبطيك .. كبيرة مثل البصرة ، والعيش في زحمتها !.
في تلك الليلة فتح ( نجم ) مغاليقه وثرثر طويلا ً .. ثرثر بمرارة ٍ وصدق . لأول مرة ٍ أسمعه ينطق كل ذلك القدر من الكلام دفعة ً واحدة ً!.. وأصغيت له بقلب ٍ صدوق ..
قال إنه يريد أن ينخرط في الحياة ..يريد العيش في المجتمع كما نعيش نحن .. أن يعمل ويتزوج وينجب .. أن يمضي دون أن تطارده النظرات الشزرة وسهام الكلمات المسمومة الغادرة ، التي يسددها إلى ظهره أقزام البوشمن المتخفين في غاباتهم المظلمة . لقد عزم على هجران الحياة الغجرية والذوبان في مدينة ٍ كبيرة ٍ .. مدينة يضيع فيها الماضي ، ولا تعيش سوى أماني الحاضر حرّةً طليقة ً ..
كان متشبثا ً بذكرى أحد معارفه ، الذي هاجر من قبل إلى إحدى المدن ، وقطع كل صلة ٍ له بهم ، ولم يعد أحد ٌ يسمع شيئا ً من أخباره ، سوى أنه صاحب دكان ٍ وعائلة ٍ وحياة ٍ رغدة ٍ ..
استمتعت لسماعه ، ارتحت وباركت هذه الأفكار الجميلة ، وذاك الطموح السامي ، ثم سألته :
ـ ما الذي يمنعك الآن عن الرحيل ؟ ..
أجاب بمرارة :
ـ الهوية والوثائق الشخصية .. الوثائق الشخصية السخيفة التي قيدتني وكسرت جناحيّ ..
قاطعته لفوري مستفهما ً :
ـ إن جميع الغجر حصلوا على هذه الوثائق ؟..
أجاب : ـ نعم حصلوا عليها منذ الثمانينيات ، كنت يومها صغيرا ً يتيما ً بلا أبوين ، لم تحرص العجوز التي اهتمت بإيوائي على أن تكون لي وثائق مثلها ..
كانت نبرات الحزن الأليم تغشي صوته وهو يعبّر عن تعطشه للحياة الكريمة .. وفيما هو يحدثني شرع بإغماض عينيه قليلا ً ، مسترخيا ً ومتأملا ً في مصيره ..( ما من أمريء يمكن أن
يحس بهويته الحق إلا ّ وعيناه مغمضتان ) .** *
يا لوحشته المريرة وفراغ حياته الكبير الخالي من الأحباب و الأصدقاء .. ويا لتلك الحياة القاحلة الفقيرة التافهة المعاني .. تافهة ٌ لا تتعدى خمسة كيلومترات من السباخ القاتل !..
شرعت بأخذ قسط من التفكير والبحث المخلص عن حل ناجع لما يعانيه ، ثم ما لبثت أن ندهت عليه وطلبت منه الجلوس . حينما فعل ذلك بادرته قائلا ً :
ـ سأجد لك هوية وكل ما ترغب فيه من الوثائق غدا ً ..
وكأن إبرة وخزت مؤخرته أثناء جلوسه ، إذ إنه هبّ واقفا ً وهو يلتهمني بنظرات تثور فيها كل الانفعالات ، وصاح بشهقة ٍ :
ـ حقا ً ؟ ..
ـ حقا ً .. ولِمَ لا ؟ .. أجبت .
وبقليل من الاطمئنان أردف متسائلا ً :
ـ وهل الأمر صعب ؟ ..
ـ كلا سهل .. إن تعبك على فلوسك فقط . أجبته وأنا أبتسم له .
رحت أشرح له بالتفصيل كيف يبيعون ويشترون تلك الوثائق في المدينة ، مقابل مبالغ محددة لكل نوع ٍ منها .. وثائق مزيفة ولكنها حقيقية ، تحمل الأختام والمواصفات عينها لتي تجعلها تعبر وتمر في أغلب دوائر الدولة !..
في صباح اليوم التالي ، قدته إلى ( سعد الأعور ) ، وأنا واثق تمام الثقة بأننا سنعثر تحت عينه العوراء على آلاف الوثائق وبطاقات الإثبات .. وثائق من كل صنف .
إن ( سعد الأعور ) للذين لا يعرفونه ، ربيع ٌ معشب ٌ ومزهر ٌ ، خيرٌ وفير ٌ ونضارة ..نضارة تتفتح وتتضوع ، حالما يتشمم رائحة النقود فإنها تنسكب قي صدره ومجاري دمه كالمصل الدوائي والحبوب المُسَكِنة ، تجعله يهتز ، يبتسم ، يركض سريعا ً ، يتمتم بعبارات الأخوة والعمل الإنساني الشريف . وليست هي سوى دقائق يغيب فيها ، ثم لا تلبث الأرض أن تنشق عنه لتجده أمامك ، واضعا ً بين يديك أصعب الوثائق وأكثرها دقة ً !..
إن أشد ما يجذب الانتباه هنا ، هو قيامه بفتح عينه الأخرى على وسعها ، و يتوسل إليك أن ترد النقود إلى جيبك ، وأن تعتبر هذا العمل عملا ً أخويا ً لا يهدف من جرائه أي مساومة ٍ نقدية .. إنه يقول لك هذا في الوقت الذي يخطف من يدك النقود ويدسها في جيبه !..
أعطيت ( سعد ) أجرا ً جيدا ً وأنا أتسلم منه الوثائق كاملة ً ، بعد أن تصفحتها مليا ً ، انحنيت وقبلته ، وقلت له :
ـ الله يسلمك يا سعد فقد جعلت لنجم أبا ً أسمه سلمان !..
في غمرة سرورنا ، احتفلنا بهذه الوثائق ، دلفنا إلى إحدى المقاهي وشربنا الكثير المشروبات الغازية ، وتجشأنا بأعلى أصواتنا . كنت أقلـّب تلك الوثائق متمليا ً صورة ( نجم ) المفزوعة ، التي يبدو فيها كأنه يريد أن يدفن رأسه في آلة التصوير . ثم شرعنا بعد ذلك اليوم ننفرد مطولا ً نخوض في أمر رحلته واحتمالاتها . وليس قليلا ً هو الوقت الذي تبادلنا فيه تلك الأحاديث .

مذ عرفته ، لم أجده اقتحاميا ً مندفعا ، بل كان مترددا يطيل التفكير . لكنه ما إن احتفظ بتلك الوثائق المزيفة في جيبه حتى أُفعِمت روحه بالجرأة والرغبة اللحوحة على الرحيل .
مازال يحلم بالتحليق عاليا .. مترعا ً بالأحلام والخواطر الجميلة .. الخواطر المرتعشة الخائفة الخجولة ، التي تخطر بثياب براءتها السابغة !..
واجهت عزمه على الرحيل بأفكار نجّار ،قلت له ( بإمكانك أن تبدأ بداية ً سهلة وبسيطة تساعدك على النهوض . إن أفضل عمل ٍ يمكنك تدبيره ، حسب علمي ، هو عمل الشاي ، إذن تستطيع أن تجلس وتبيع الشاي فوق أي رصيف في وسط المدينة .. الناس يحبون الشاي .. سوف تعمل الكثير منه وتبيعه ، كن سَبُعا ً ، وشـُدْ حَيلـَك يا نجم ، من السهل أن تعثر على مكان ٍ مناسب لعملك خلال أيام قليلة من التجوال . إنني واثق من نجاحك ، فأنا أعرف كم أنت خدوم ، وكم تفيض بالحيوية وأنت تقدم الخدمة للآخرين ) ..
ظلت خططنا تحوم في أفق واحد .. أفق واسع المدى ، أزرق َ صافٍ .. أفق المستقبل بأحلامه الندية ، رغم المنغصات التي واجهتني شخصيا ً من قبل زوجتي ومساعدي النجّار .
كنت متفائلا ً بأنهما ما أن يسمعا بأمر تأهبه للرحيل حتى تغمرهما الفرحة ، ويرقصان طربا ً لهذا الخبر . سوف يرتاحان أعمق الارتياح من تلاشي طيفه المضجر .. إنما أنا حقيقة ً سوف أرتاح أكثر ، ولا أسمع مستقبلا ً أي غلظة ٍ وتقريع .. لكن ما إن دنا رحيله ، وسمعا بذلك حتى ثارَ في وجدانهما النبل الإنساني العميق وطفح فيهما العطف والشفقة !.. أدهشتني وطارت بي فرحا ً تلك الانفعالات الجياشة ، الرقيقة ، المنبثقة من أعماق ٍ صادقة نقية ..
انفعل مساعدي انفعالا ً عصبيا ً جعله يتميز غيظا ً و يقول لي :
ـ ما الذي سوف يفعله هذا المسكين هناك ؟.. إنه رجل لا ينفع ولا يضر ، ولسوف يقتله الجوع ما لم يسرع في العودة . إنه مهما يعمل لا يمكن تصنيفه إلا ّ ضمن الأيادي العاطلة ..
وأضاف ساخرا ً :
ـ ما الذي سوف يعمله هذا الغجري القادم من وراء ظهر المدينة ، والمليئة مؤخرته بالرمل ،والذي لم يزل حتى اليوم لا يعرف كيف يستعمل إبريق الماء في الاغتسال ؟.. صدق ٌ أم كذب ٌ ماذا فعلت ؟..كيف أعطاك قلبك أمر تشجيعه على الرحيل ؟!.. هل تتوقع منه حصد الأمجاد بثوبه المهلهل وقمله الكثيف ؟.. والله إنك بتشجيعك هذا إنما ترسله إلى أجله المحتوم .. يهيب بك أن تردعه عن هذا العمل ..
وكانت زوجتي تذكرني كل حين قائلة ً :
ـ إن عملك لا يفعله إنسان ٌ عاقل . لقد أوقعت الرجل في ورطة جراء خواطرك البرّاقة الخادعة ..

يا إلهي كم كانت مدينة البصرة تخيفهم ، إن مجرد ذكر اسمها أمامهم كافيا ً ليلقي الروع في نفوسهم ، وكأنها بحر مدلهم طام ٍسوف يبتلع ( نجم ) ويغرقه !..
كنت أردّ عليهم بحماس قائلا ً :
ـ دعونا نترك الرجل يجرب حظوظه في هذه المدينة الواسعة الطيبة ، ليذهب في حال سبيله . ماذا سيخسر إن جرّب ذلك ؟ .. إنه بالتأكيد لا يخسر قيرا ً ولا مسامير ، وإن فشل فبإمكانه العودة ثانية ً لذرع الكيلومترات الترابية الخمسة كل يوم .. ماذا جرى لكم ؟.. إن البصرة لا تأكل البشر، من منـّا لم يَرَ عشرات الصعاليك وهم يتسكعون فيها متوحدين تائهين ؟..
إن الرجل اختار أن يُرسي آماله في البصرة ولا أحد منا قادر على ثنيه عن عزمه هذا ويثبط همته..


لم يطل الوقت حتى رحل ( نجم ) .. رحل في يوم شتوي معتم . اصطحبناه أنا ومساعدي إلى مرآب السيارات ، وهو يحمل حقيبته القماشية المطرزة عليها وردةٌ حمراء كبيرة ، يمشي بيننا منتصبا ً وقد زرّ ثوبه حتى آخر زر ٍ فيه وكأنه يتهيأ للطيران .
جلس ( نجم ) في السيارة صامتا ً ، وردته الحمراء الكبيرة في حجره ، وقد عاد الشرود إلى محياه . وأخذ يمسح رشحه بخرقة ٍ تشبه قماش ثوبه . كانت شفتاه متقلصتين وبارزتين في شكل ملحوظ جعلت رأسه يبدو مثل رأس فرخ البط !..
شددت على يديه الباردتين وأسمعته كلاما ً معنويا ً دافئا ً ومريحا . ثم ودعناه وداعا ً تأثريا ً واضحا .. ودعناه وداعا ً صامتا ً كما يُوَدَع الجنود عادة ً . حالما أُوصِدَ باب السيارة دونه ، تلاشى سهوم عينيه ، وغمرت سحنته طمأنينة ٌ عابرة .. تلك الطمأنينة المؤقتة التي يوفرها الصوت المَلـَكي الأنيق حينما يُغلق الباب عند الشروع في الانطلاق .. عدنا في جو ٍ غائم ٍ أفل فيه النجم الغجري ..
في البرد الغامر .. في عتمة الشتاء ، رحل ( نجم ) برفقة قملاته المدلـّلات إلى الموعد الذي انتظره طويلا ً . .

خلال الأيام الأولى كانت تصلنا أخباره .. تصلنا متثائبة ، باردة ، بطيئة . كل ما هنالك ، ( نجم ) يبيع الشاي في البصرة ويعيش ..
بعد وقت ٍ قصير ٍ انقطعت تلك الأخبار تماما ً ..

جلس ( نجم ) مدة طويلة على ظهر الأرصفة ، مبحرا ً هائما ً في الهواء . جعل يعمل من أول الصباح حتى المساء . كان لطيفا ً ودودا ً . جذب بعض الأشخاص الذين أصبحوا يفضلون شرب الشاي عنده عادة ً . المشكلة الوحيدة التي عانى منها هي العثور على سكن ٍ منفرد ، لا مثل تلك الغرفة الصاخبة التي يشاركه فيها خمسة عمّال كثيري السعال والبصاق . إن السلـّم الذي يقود إلى تلك الغرفة يشبه تسلق الجبال ونزولها عنده ، إنه لم يعتد التسلق ، ويقول أن الدوخة تجعل رأسه يدور عند منتصف المسافة ..
سرعان ما راح يتخلص من النبرة الغجرية التي يطفح بها لسانه ، وكانت كلمة ( حَبوبي ) لا تنزل عن لسانه مطلقا ً . إن المعاملة السلسة ، والألفة الشعبية في هذه المدينة ، حفـّـزته للإقبال
على الحياة ببشاشة .. بشاشة أسرعت في تورد وجنتيه قليلا .
تفتحت عيناه على مشاهد جميلة ، وأفغمت صدره طيوبها . أخذ يستحم ويرتدي ثيابا ً جديدة ً ، بل يمكنني القول أن الرثاثة راحت تختفي من مظهره ، وإن تلك الوردة البريّة بدأت تنقع في العطر الزاكي !..
إلى القرب ًمن مكان عمله ، ينفتح على الشارع زقاق موغل في القدم .. زقاق واسع ٌ صاخب ٌ . على ناصيته تجلس امرأة متوسطة العمر ، تبيع أشياءَ تافهة ً .. أفضل ما ميز منها العلكة والمناديل الورقية . لم يلحظ ( نجم ) أحدا ً تقدم واشترى شيئا ً منها ، بقدر ما كان يلاحظ غالبا ً شبانا ً متأنقين ، تفوح عطورهم ، يسألونها وهم يتغامزون عن شيء ما . كانت تهب من جلستها وتقودهم إلى قلب الزقاق سريعا ، وتعود بعدها لتأخذ مكانها ..
في ذلك الوقت ، أصبحت هذه المرأة ، التي يدعوها الناس ( أم غائب ) من زبائنه الذين يفضلونه ، والأكثر من ذلك ، أن هذه المرأة حملت بضاعتها وصارت تجلس إلى جواره ، وتودعها لديه حينما تنهض لتدل الشباب في الزقاق !..
ولم يطل الوقت حتى أصبحا متآلفين ، يتبادلان الكثير من الأحاديث والثرثرة . وما عرفته عن شخصه مجرد أنه إنسان وحيد ويبحث عن سكن منفرد ، وفيما عدا ذلك فان ( نجم ) لم يغامر قط في فضح شيء ٍ من سيرته .
إن الإرث النزر الشحيح والخبرة الهشـّة التي كان يتسلح بهما ( نجم ) لم تسعفاه في الصمود طويلا ً أمام هذه المرأة الخبيرة ، التي كانت تقارع الرجال على الأرصفة مثل السيف المُجَرّب .
فما هي إلا ّ أيامٌ معدوداتٌ لتقوده أمامها إلى بيت ٍ عتيق ٍ في الزقاق ، وهنالك تفاجأ ( نجم ) حين وجد أن البيت مكان دعارة ٍ ليس غير !..
حاول أن يتراجع على أعقابه لولا أن ثلاث بنات جميلات أليفات أحطن به .. فتيات في غاية الطراوة رحن يجرجرنه في الكلام المليح ، بشكل أيقظ ذكورته من نومها العميق ، ورفع رأسه بينهن ينظر إلى هذه ويعطف البصر إلى تلك ، ويرد على مزاحهن اللطيف !.. مبهورا ً بأجسادهن المائعة ، التي تكاد تنسكب فوق الأرض كوثرا ً وعنبر ، وراحت تتردّد بين جوانحه رعشة أحاسيس غريبة ولذيذة ، لم يعهدها من قبل !..
لقد وجد أن البيت لا يضم سوى ( أم غائب ) وأولئك الفتيات. من أول لقاء أحببن طيبته وبساطته ، وتردده المحتشم إزاء مداعباتهن الخليعة .
كانت الأيام التالية متكفلة بتوثيق عرى الصداقة بينه وبين أولائك الفتيات . لم يكن بمقدوره رفض الدعوات المغرية ، التي ما فتأت ( أم غائب ) تعرضها عليه من آن ٍ لآخر ، إذ تقول له ( نجم .. الليلة عشاؤك عندنا ) أو ( البنات اشتقن إليك ويرغبن في رؤيتك ) !..
تـُوِجت تلك الصداقة وذلك التآلف بقبول ( نجم ) السكن معهن في البيت نفسه ، في غرفة ٍ منفردة ، فوق السطوح .

لا أعتقد أن من المفيد الخوض مفصّلا ً في كل الأمور اللاحقة التي أثمرتها هذه الصداقة وذلك الود . لا أريد الكلام عن الغناء الغجري المضطرم آناء الليل ، الذي تطايرت فقاعاته القزحية الساحرة وزيّـنت سماء البصرة ، ولا عن المزاح المعربد الضاحك الذي ليس له حدود ، ولا نكهة شراب ( نومي البصرة ) كل مساء .. إن ( شط العرب ) لن ينس َ النزهات النهرية المبهجة المشتعلة بالتبذل والطرب !..
لكن من المفيد القول بأن هذه الصداقة رُسِخت عميقا ً إلى الحد الذي وجد ( نجم ) فيه نفسه جالسا ً على كرسي في مجاز البيت مشرفا ً على دخول وخروج الزبائن منه !.. غير أننا لو وضعنا العبارة الأخيرة بين قوسين صغيرين لجعلتنا قادرين على أن نقول أن الصداقة اللطيفة مع فتياته الجميلات خلعت عليه أخيرا ً كوفية القوّاد .
سريعا ً تغيرت أحواله تغيرا ً جوهريا ً . انتفخت جيوبه مثلما انتفخ كرشه . وأصبح له أصدقاء خطرون .. خطرون لا يحلم المرء بمصادفتهم ، مغامرون مفتولو العضلات ، وضعوا جسارتهم طوع يديه ، وموظفو دولة بارزون كانوا مستعدين لخدمته ومده بالعون .. تخيلوا أمرَ هؤلاء وغيرهم يعرضون صداقتهم على ( نجم ) ويتملقونه !..

لا أفهم كيف اختارت له الأقدار هذا الدور الخسيس . إن أحدا ً لا يستطيع إعطاء الجواب الشافي لذلك . هل هو العِرق الغجري الدسّاس النابض في أعماقه ؟.. أم الحرمان الذكوري ؟.. هل عثر فجأة على السرب الذي يطير معه .. أم أن غربته وتفرده ورغبته في الثروة قادته ؟.. ألَمْ أقل لكم يا لهؤلاء الغجر الغريبي الأطوار ؟..

انتهى ما ينيف على سبع سنوات ٍ على استقراره في البصرة ، دون أن ترد عنه أية أخبار ، إلاّ لماما ً ، وما ورد كان مستحيا ً وسرّا يتسرب خفية ً عن طريق بعض الشبان الذين تمرغوا في ملذات بيته صدفة ً . أن أصغر المدن وأكبرها لا تستطيع حجب الأسرار . كنا نسمع بعضها مقتضبا ً ، لكنها جعلتنا نستحي أن نسأل عنه فيما بعد ، إن شعورا ً عاما ً بالانتكاس خيّط ألسننا ، لذا توقفنا عن ذلك ونسيناه ..

في اليوم الذي سقطت فيه الحكومة على يد المحتلين ، سقط ذلك البيت وتهاوت أمجاده سريعا ً .
و مع أنه بقي مفتوحا ً أمام زبائن يغشون المحل سرّا ً ، ويستقبلهم ( نجم ) خفية ً ، ويدبر شؤونه بطريقة ًحذرة ٍ ، ورغم توفر الحماية الطارئة التي راح يقدمها أولئك الأصدقاء ، إلا ّ إن عمله تعثـّر و بات يعرض خدماته يوما ً ويحجبها أياما ً أخرى ، يجلس متحفزا ً خلف ستارة المجاز الثقيلة ، يدقق في وجوه زبائنه بإمعان ٍ كما كان يدقق في أعقاب البنادق الخشبية على نضد النجارة ..
في إحدى الليالي ، تفاجأ ( نجم ) باقتحام البيت من قبل عناصر المليشيات المسلحة ، خلعوا الباب الخشبي القديم بعنف ، وأسقطوا الزخارف الجصية التي كانت تعلوه ، والتي كُتِبَ في وسطها ( المُـلك لله ) ، تدافعوا إلى داخل البيت وهم يطلقون الرصاص عشوائيا ً ، بينما انزوى ( نجم ) في المجاز مرعوبا ً تيبست أطرافه هلعا ً ، ولم يشعر إلا ّ بقيام أحد المسلحين بركله على مؤخرته ركلا ً موجعا ً ، وجد نفسه على أثره مرميا ً في الزقاق ، فتنبه إلى نفسه ، وأطلق ساقيه للريح ، لائذا ً بالفرار !..
تلك الليلة الليلاء لا تـُنسى ..ليلة ٌ عصيبة ٌ تشبه ليالي الحرب ، الهيعة الصاخبة المفزعة ، جعلت أطرافه تهتز خوفا ً ، وجسده يسعر ألما ً ، يكاد أن ينكب على وجهه من شدة الإعياء . طاش فكره ، لا يدري ماذا حل ّ بمدللاته الصغيرات . قادته أقدامه إلى مكان آمن لاذ فيه مختبئا ً أياما ً وليالي ، لا يأكل شيئا ً ولا يشرب ، ولولا عثور أصدقائه ـ الذين كانوا يبحثون عنه ـ عليه لبقي هناك حتى يجف و يلفظ آخر أنفاسه !..
لقد عرف من خلالهم أن ( أم غائب ) انطلقت بالفتيات إلى إحدى دول الخليج ، وأن البيت أمسى مهجورا ً..
جلبوا له هاتفا ً جوّالا ً، وجعلوه يتصل بهنّ بعضا ً من الوقت ، ويبادلهن الدموع الساخنة والزفرات ..
الويل لي !.. كلا ، الويل لصنـّاع النجارة .. دعهم يأتوا ليروا بأعينهم القصيرة النظر ، وليسمعوا بآذانهم المليئة بنشارة الخشب ، كيف يبعث ( نجم ) آهاته ويطلق أحكامه عبر الأقمار الصناعية !.. ليأت ِ ذاك الذي ثرثر طويلا ً عن إبريق التنظيف .. ليأت ِ ( سعد الأعور ) بغطرسته ويبصر الأقدار ماذا صنعت ؟.. بل لتأت ِ زوجتي ولترَ بوضوح ، ثم دعها تحاول مرة ً أخرى أن تطبق طرفي سبابتها وإبهامها وتهزهما في وجهي .. دعها تحاول ذلك ولسوف ترى ما أفعل !..

هاهو الآن قد انتهى به المطاف أمامي ، إثر عودته المتخفية ، المفزعة ، والمثيرة .. ها هو شخص ٌ آخر تماما ً .. شخص ٌ أعشب بعد طول يباب . توارى كل شيء كان موجودا ً في وجهه سابقا ، وحتى فرخ البط ذاك الذي كان في شفتيه .
كنت مغمورا ً في دهشتي ، غير مصدق أن سبع سنوات فقط يمكن أن تغير الإنسان على هذا النحو !.. أنشأت أنعم النظر إليه في لمحات ٍ فيها الكثير من الألم والأسف . كنت معتقدا ً أنه عاد نادما ً ، متسربلا ً بآثامه ، يلهج بطلب الغفران . لكن ، إذا أردتم الصدق ، فأنني لا يمكن إلا أن أقول بأنه كان واقفا ً أمامي بخيلاء مكبوح وعزة نفس ٍ هادئة ..وكلما شخصت إليه وجدته فوق التنازلات التي تخايلني .. إنه الآن أمامي لون ٌ عطـّاري صاف ٍ من ألوان الغجر ِ ..
أمضيت بضع دقائق صامتا ً.. ضاع لساني ولم أكن أعرف بماذا يمكن أن أحادثه . لم أجد شيئا ً مناسبا ً أكلمه فيه عن أوضاعه الراهنة ، لذلك اخترت بعض الأمور القديمة التي يسهل التطرق إليها ، وطرحت عليه سؤالا ً :
ـ هل استفدت من وثائقك الشخصية في البصرة ؟..
رفع نظره نحوي بشيء من السخرية وقال :
ـ إذا كنت تقصد تلك الأوراق المزيفة ، فإنني سرعان ما تخلـّصت منها ، وأصبحت أعتمد الوثائق الأصولية الرسمية. وهنا مدّ يده إلى جيب الصدر وسحب منه بطاقته الشخصية المختومة بذلك الختم الفسفوري الفضي . أطرقت إطراقة منهزمة ولذت بالصمت مرة ً أخرى ..
بعد هنيهة سألته ثانية ً :
ـ ماذا تنوي أن تفعل الآن ؟..
أجابني إجابة ً واثقة ً مباشرة ً :
ـ أنا ذاهب إلى الخليج .. لو أن تيارا ً كهربائيا ً مسّني في تلك اللحظة وأطاح بي أرضا ً ، لما خضّ دمي وهزّ كياني وخرّب توازني مثل جوابه البتـّار هذا !.. لم يكن جوابا ً وحسب ، إنما كان سلسلة ركلات ٍ تلقيتها دونما ذنب . وغبت في تصوراتي بعض الشيء .. ( نجم الذي يقطع الكيلومترات الخمسة سابحا ً في التراب ًيذهب إلى الخليج ) ؟!...
كنت أتلعثم وأنا أسأل نفسي هذا السؤال ، بل كنت أتلعثم وأنا أسأله مرة ً أخرى :
ـ هل تستطيع الحصول على جواز سفر ...
وقبل أن أنتهي من سؤالي ، مدّ يده بحركة ٍ ظافرة ٍ وأخرج من جيبه كيسا ً بلاستيكيا ً صغيرا ً ، فتحه وسحب من داخله جواز سفر ، ثم قلـّب صفحاته ليريني تأشيرة الأذن بالسفر . وكان الجواز من النماذج التي تم إصدارها حديثا ً !..
ليس من الصعوبة عليه أن يحس بجفائي وصدودي أثناء لقائي معه ، لذلك لم يطل المكوث ، إذ سرعان ما أخرج نظـّارة سوداء من جيوبه ووضعها فوق عينيه وقال وداعا ً .. بلا تهيؤ ٍ ولا استعداد أسقطني في الوحل ورحل! ..
على حين غرة مرّغني في وحل الندم .. الندم المرير الذي ما برحت أجترّه منفعلا ًجراء سؤالي السخيف.. سؤالي السطحي .. سؤالي الذي خلا من كل معرفة ٍ ،حين استقبلته قائلا ً ( ماذا كسبت ( نـَصرَه ) من ( فـِعلـَتِها ) في البصرة ؟. ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : هذا النوع من الأعمال نادر جدا ً ، لا يعمل فيه سوى قلة من الناس . مارسته أثناء عملي في النجارة ، خلال حقبة الحصار الاقتصادي .
** : حفر الباطن ورأس البيشة أماكن عراقية نائية .
***: هرمان ملفل ، الروائي الأمريكي الكبير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا