الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل ابتدأ عصرُ الاحتجاجات الجمعية في العراق..؟!

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2010 / 6 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


هل ماتت فكرة الثورة وتراجع خيار الاحتجاجات الجمعية Collective Protest؟ وهل دُفنت حقاً مقولتا "كارل ماركس" الخالدتان: ((الثورات هي قاطرات التاريخ/ العمال ليس لديهم ما يخسرونه سوى أغلالهم)).

لعل من أبرز الخصائص الدالة على إيجابية الطبيعة البشرية وحيويتها هي نزعتها للاحتجاج، أي ميل الإنسان للاعتراض على ما يراه ظلماً أو عدم إنصاف يُفرض عليه. ولولا هذه النزعة لما تقدم الوعي البشري بفكرة الحق خطوةً واحدة، ولما أمكن إنجاز التغيرات الاجتماعية الهائلة بالانتقال من مجتمعات الرق إلى دول المواطنة والحقوق المدنية والضمانات الاجتماعية.

اتخذ الاحتجاج أنماطاً متعددة مارسها الناس عبر التأريخ عن وعي أو لاوعي. وهو يصنف أكاديمياً بحسب وظيفته إلى "احتجاج سلمي" كالتصويت في الانتخابات والانخراط في جماعات الضغط وتقديم العرائض إلى السلطات وكتابة رسائل احتجاج إلى الصحف والإضرابات والاشتراك في التظاهرات السلمية، و"احتجاج عنفي" كتدمير الممتلكات العامة وأعمال الشغب والخطف والاغتيالات والتفجيرات وحرب العصابات والثورات؛ وبحسب اجتماعويته إلى "احتجاج فردي" كامتناع الفرد عن الشراء من بقال معين لارتفاع أسعاره، و"احتجاج جمعي" يظهر لدى أفراد جماعة اجتماعية معينة على نحو تزامني كإضراب عمال نقابة معينة أو اعتصام طلبة إحدى الكليات؛ وبحسب أهدافه إلى "احتجاج محافظ" كالحركات الرجعية والفاشية والأصولية الدينية، و"احتجاج تحرري" كحركات المرأة والسلام والبيئة والحركات العمالية.

أما عن كيفية نشوء الاحتجاج وماهية القوى الدافعة له، فتفسرها منظورات نفسية اجتماعية ونفسية سياسية عدة، تتصدرها نظرية "الحرمان النسبي" Relative Deprivation التي ترى أن إدراك الفرد (بصرف النظر عن مدى موضوعية هذا الإدراك) لانخفاض الموارد في حياته (كالدخل والتعليم والصحة والخدمات والضمانات والمكانة الاجتماعية) بالمقايسة مع موارد الآخرين يجعله يعتقد أو يشعر بحرمان أو استياء يدفعه للتحرك فردياً أو ضمن جماعة، لاستعادة ما يظنه حقاً له. وتصح هذه النظرية غالباً في الدول التي لم تتطور الديمقراطية الاجتماعية فيها، أي تلك التي تعاني الفقر والفساد والاستبداد. وكنتُ قد توصلتُ إلى هذه النتيجة تفصيلياً في دراسة أجريتها في العام 2007م على عينة كبيرة من العاطلين عن العمل في بغداد، إذ اتضح أن تفاعل الحرمان النسبي مع الهوية الوطنية العراقية لديهم يؤدي إلى التنبؤ باحتجاجاتهم الجمعية بدرجة معينة.

أما في الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة، فأخذت نزعة الاحتجاج ترتبط على نحو متزايد بالوعي الأخلاقي المعارض لدى النخب المرفهة، إذ يحتج الموسرون لأجل تعزيز حقوقهم أو للدفاع عن حقوق الآخرين، لا لإنهم محرومون بل لإنهم مالكون للموارد المالية والإعلامية والمعلوماتية التي تتيح لهم التصرف بعقلانية. وقد انبثقت نظرية "حراك الموارد" Resource Mobilization لتفسير هذا النوع من الاحتجاج.

وقبل التمعن بنزعة الاحتجاج لدى الفرد العراقي، يجدر التمييز أولاً بين "سلوك الاحتجاج" و"نزعة الاحتجاج"، إذ يعني الأول قيام الفرد أو الجماعة فعلياً بإجراءات اعتراضية ملموسة تتراوح بين السلمية والعنفية للتعبير عن رفض الموقف؛ فيما تعني الثانية امتلاك الفرد أو الجماعة لتوجهات احتجاجية كامنة قد تترجم إلى سلوكيات أو قد لا تترجم فتبقى نزعة داخلية فحسب. وتفيد الملاحظات المتراكمة تأريخياً عن شخصية الفرد العراقي بتأصل نزعة الاحتجاج لديه حيال الأوضاع العامة، إذ تراه في أحاديثه الخاصة يتداول النكتة السياسية ويكثر من التذمر والنقد حيال السلطة والأداء الحكومي في كل العهود والظروف. أما سلوكه الاحتجاجي الجمعي الفعلي فظلّ على الدوام محدوداً لا يتناسب مع نزعة الاحتجاج القوية الكامنة تلك، لأسباب سنأتي إليها في السطور القادمة.
فقد اتسمت الأربعون عاماً التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921م، ببروز الاحتجاجات الشعبية نزوعاً وفعلاً على مستوى التظاهرات والانتفاضات والإضرابات والصحافة المعارضة وتأسيس الأحزاب الراديكالية الفاعلة جماهيرياً؛ فيما امتازت الحقبة التي أعقبتها ابتداءاً من انقلاب البعث في شباط 1963م وحتى اليوم بوجود نزعة قوية كامنة للاحتجاج في مقابل سلوك احتجاجي ضعيف يكاد أن يكون معدوماً إذا ما استثنينا الكفاح المسلح بشقيه العربي والكردي في أراضي كردستان وانتفاضة مدن الجنوب في العام 1991م، ثم نشوء الصحافة الحرة بعد العام 2003م بوصفها شكلاً نخبوياً لا شعبياً للاحتجاج.

ويعزى هذه التباين بين الحقبتين إلى درجة شعور الناس بفاعليتهم السياسية المرتبط بمدى تنامي وعيهم التغييري للمجتمع، إذ شهدت الحقبة الأولى تأسيس نظام سياسي "علماني" نوعاً ما جمعَ بين القيم المدنية التي أتى بها الاحتلال البريطاني وبين القيم الإقطاعية الموروثة عن الاحتلال العثماني؛ فيما احترقت الحقبة الثانية بنار الفاشية والحروب و"معصومية" الحزب الواحد، ولاحقاً بنار الاحتلال الأمريكي وما أنتجه من إحباط ويأس وعجز وعدمية ولامعيارية في عموم المجتمع عبر توظيفه لتكنيكي "الإرهاب الديني المستورد" و"الطائفية السياسية المحلية".

ولنا أن نجتهد بالقول أن حقبة ثالثة لاحت ملامحها الأولى في أواسط حزيران الحالي 2010م، حين ابتدأت بالتبلور تقاليد جديدة للاعتراضات الشعبية متمثلة بما صار يعرف بـ"إنتفاضة الكهرباء"، ابتداءاً من البصرة ومروراً بالناصرية والحلة وكربلاء والكوفة والرمادي والكوت وبغداد، احتجاجاً على التغييب شبه التام للطاقة الكهربائية في درجات حرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية؛ ثم اتسعت لتعبّر عن السخط والاستياء الشديدين من حالة الفقر والبطالة وانهيار الخدمات ونهب المال العام التي يعاني منها محرومو العراق، فضلاً عن التنديد بأنانية الأحزاب الفائزة بالانتخابات النيابية الأخيرة في آذار 2010م وانشغالها العصابي بتفاوضات سياسية اجترارية لا نهاية لها لتقاسم المناصب السلطوية السيادية.

ويلاحظ أن هذه الاحتجاجات امتازت بكونها مزيجاً من أداء عنفي محدود مارس تنفيساً انفعالياً بمهاجمة بعض المحتجين لمقرات حكومية بالحجارة، ومن أداء سلمي واسع النطاق ممثلاً بتظاهرات حماسية استخدمت فيها وسائل تعبيرية غير مسبوقة كالهتافات السجعية المزدرية للأداء الحكومي، والتلويح بالمهافيف والفوانيس وسكراب المولدات الكهربائية المنزلية، وحمل نعوش رمزية للكهرباء ولـ"ضمير الحكومة"! كما امتازت بكونها حركة عدالة اجتماعية عمادها المسحوقون اجتماعياً أكثر من كونها حركة حريات سياسية أو مطالب ليبرالية إصلاحية، مما يكشف بوضوع عن جوهر الصراع المجتمعي المستتر في العراق بين الأكثرية الفاقدة والأقلية المالكة.

ما يزال الوقت مبكراً لإجراء تحليلات للبنية النفسية وحتى الجمالية لهذه الاحتجاجات، فرزاً وتبويباً وتنبؤاتٍ، إذ لا تتوافر بعد معلومات كافية عن كيفية انبثاقها وما إذا كانت قصديةً مخططاً لها من جهات سياسية معينة أم حدثت بطريقة الشرارة العفوية والعدوى الانفعالية! إلا أن المراقب النفسي للحدث يجد نفسه أمام ظاهرة احتجاجية "نزوعية – سلوكية" غير مألوفة عراقياً، تتطلب تسليط الضوء على دينامياتها واحتمالاتها.

إن ما يمنع أو يعوّق أي جماعة مضطَهَدة من التحرك والاحتجاج لمقاومة المظالم الواقعة عليها بضمنها محرومو العراق، يمكن إيجازه بالنقاط الآتية منفردة أو مجتمعة:
1- رؤيتها بأن النظام الاجتماعي القائم غير مسؤول عما يصيبها من مظالم.
2- اعتقادها بشرعية الأوضاع القائمة ووجوب استمرارها.
3- عدم امتلاكها لدوافع أخلاقية كافية تحثها على الاعتراض.
4-توقعها بأن الأخطار والتكاليف الناجمة عن الاحتجاج تفوق فوائده وأرباحه.
5- اعتقادها بعدم فاعليتها الذاتية، أي عدم امتلاكها لقدرة النجاح بتحقيق أهدافها المرجوة.
6-اعتقادها بعدم إمكانية تغيير الأوضاع.
7- عدم توافر إطار "ثقافي-اجتماعي" لإدراك الظلم ومقاومته.

وتشير الشواهد العيانية التي رافقت التظاهرات الأخيرة إلى أن المحرك الأساسي لإرادات المحتجين كان اعتقادهم بأن الحكومة مسؤولة عما يصيبهم من حيف، وطعنهم بشرعية النخب السياسية الحاكمة، وامتلاكهم دوافع أخلاقية قوية للخروج إلى الشارع، وتوقعهم أن أخطار الاحتجاج لن تفوق فوائده وبإن خسارتهم الكبرى تتمثل في سكوتهم وخنوعهم. ولم يكن من الواضح ما إذا كانوا يعتقدون بامتلاكهم القدرة على النجاح بتحقيق أهدافهم، أو ما إذا كانت الأوضاع القائمة قابلة للتبدل من وجهة نظرهم. إلا إنه من شبه المؤكد إنهم كانوا يفتقرون إلى إطار "ثقافي-اجتماعي" محدد لإدراك الظلم وكيفية تقويضه على نحو مبرمج بالرغم من امتلاكهم لوعي عفوي به، ما يجعل استمرارية هذه الحركة وديمومتها أمراً بعيد الاحتمال، إذ قد يتراجع زخمها قريباً في ضوء عدم وجود إدارة تنظيمية فكرية تتماهي بها الجموع المحرومة للانتقال بها إلى أفق التغيير والإصلاح.
كما يشير سياق الحدث إلى أن الطابع المعتقدي لأولئك المحتجين هو مزيج عفوي من خلفيات يسارية ودينية ومستقلة، ما يؤكد من جديد ما دعوتُ إليه مؤخراً حول الإمكانية الواعدة لقيام كتلة تأريخية "علمانية-دينية" نواتها اليساريون والشيوعيون والصدريون وكافة الحركات الدينية المتنورة، ذات صبغة احتجاجية تتبنى قضايا المحرومين بوصفها الغاية القصوى للعمل السياسي الإصلاحي، عبر إرساء أسس ثقافة شعبية تتصدى للظلم الاجتماعي، إذ تصبح عندها الاختلافات الايديولوجية بين مكونات الكتلة سبباً لإثراء العمل الاحتجاجي وتعميقه.

إن ما أبداه المشتركون في هذه التظاهرات من حيوية نفسية وعزم على التغيير وحس كوميدي أسود ونقد جريء بالغ العمق لفساد السلطة والدولة، إنما يضع الحروف الأولى لعصر عراقي قد يطول مخاضه ريثما تنضج تقاليده الاحتجاجية المنظمة فكرياً وأدائياً، ليتقدم حينذاك الفعل الإيجابي على التذمر السلبي، والوعي الديناميكي على الخنوع الساكن، وإرادة العدل على واقع الظلم. وأخيراً، والأهم من كل ذلك، ستزحف العقلانية الشعبية المنبثقة من ضرورات الجدل السوسيولوجي، لتقضم شيئاً فشيئاً التراثَ الرجعي الظلامي اللاعقلاني الذي خلّفته كل أنواع السلطة التي حكمت العراق طوال الخمسين عاماً الماضية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلام جاد
نسرين السامرائي ( 2010 / 6 / 30 - 22:44 )
بالتأكيد اخي فارس ، دفنت مقولتا كارل ماركس ، طالما ان هناك من يدعوا الى قيام كتلة تأريخية قوامها الشيوعيون والصدريون
فلتذهب كل طروحات ماركس الى مزبلة التأريخ ، نحن نعيش الآن عصر نهوض ( الممهدون ) أولئك الرجال حملة المثاقب الكهربائية التي توشح هاماتهم الأكفان البيض وهم يقودون الجماهير العريضة نحو النور والتنوير
نعم ستزحف (سوسيولوجيا ) الأمام قدس الله سره وتكنس كل القوى الرجعية وعندها ستردد الجموع ( ديمقراطية وسلام عيني أبو درع للأمام ) انه كلام جاد عزيزي فارس


2 - كم يعجبني تحليلك العلمي الرصين
نادية فارس ( 2010 / 7 / 1 - 09:38 )
كم يعجبني تحليلك العلمي الرصين المطعم باليسارية


3 - الثورات هي قاطرات التاريخ
عماد البابلي ( 2010 / 7 / 1 - 20:27 )
الأستاذ فارس المحترم
أولسنا رواق ظله انقطاعات خفقان راجف ؟؟؟؟
تحليل اكاديمي رائع لأخر المظاهرات في الشارع العراقي ، لكن مانسبة دور
الأيادي الخفية التي حركت الدمى على المسرح ؟؟؟؟؟ خيوط دقيقة جدا تكاد لا ترى !!! هل تتفق معي ؟؟؟ لا أريد هنا ذكر أسماء أو تيار محدد لكن تعرفهم جيدا أولئك الخونة العهرة الذين قسموا الوطن في لحضة ســكر في مسجد الشيطان !!! عموما تحياتي لك واتابعك بشغف كبير
اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
أن الذي رآه آدم في صبيحة اليوم الأول
هو المعجزة
ثم تدريجياً ، الوجود العاري
هكسلي / تجربة المخدر

اخر الافلام

.. أهلا بكم في أسعد -أتعس دولة في العالم-!| الأخبار


.. الهند في عهد مودي.. قوة يستهان بها؟ | بتوقيت برلين




.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تزداد في الجامعات الأمريكية..


.. فرنسا.. إعاقات لا تراها العين • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أميركا تستفز روسيا بإرسال صورايخ سراً إلى أوكراينا.. فكيف ير