الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
النزعة الماسوشية في العقلية العراقية
فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
2010 / 7 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لماذا يسوّغ الناسُ الظلمَ الاجتماعي في حالات كثيرة، بل ويسبغون عليه المقبولية أحياناً، ويبررونه "منطقياً" ويجدون فيه عدلاً أو قصاصاً منصفاً من نوع ما؟ ولماذا يلومون الضحيةَ ويتناسون جلادها، إلى الحد الذي تتشبع فيه الضحية بمشاعر الذنب والخزي وتقريع الذات لأنها لم تعمل بما فيه الكفاية لتجنب الأذى الذي لحق بها؟! ولماذا يعاقبون أنفسهم على "ذنوب" لم يرتكبوها بل "ارتكبها" أجدادهم؟ ولماذا تتخلى مجتمعات محرومة بأكملها عن نزعة الاحتجاج والاعتراض، وتدمن بدلاً عن ذلك ماسوشيتها الاجتماعية، أي أن يستعذب مواطنوها لذةً مَرَضية تنجم عن تنكيلهم بأنفسهم جسدياً ونفسياً نتيجة دوافع لاشعورية دفينة في حقب تاريخية معينة؟!
لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، ابتدع عالم النفس الكندي "ميلفن ليرنر" Melvin Lerner في ستينات القرن الماضي، نظريةً مشوقة غطت مساحة تفسيرية واسعة من السلوك الاجتماعي عبر بحوثها المختبرية والميدانية الممتدة لحد اليوم، صارت تُعرف بنظرية "الاعتقاد بعدالة العالم" Belief in a Just World Theory. يقول "ليرنر" إن الناس مدفوعون (عند مستوى ما قبل الشعور Subconscious) للاعتقاد "واهمين" بأنهم يحصلون على ما يستحقونه، ويستحقون ما يحصلون عليه في عموم حياتهم، إذ لا بد لهذا العالم أن يكون "عادلاً"، وإلا كيف يمكن تحمل كل هذه المظالم دون أن يكون هناك وهمٌ بأنها (أي المظالم) وجه مستتر من أوجه العدل الذي يكمن خلف كل الأحداث، والذي سيتحقق عاجلاً (في الدنيا) أو آجلاً (في الآخرة). إنه وهم تكيفي يجعل الناس أقل توتراً وأكثر رضى عن حياتهم "البائسة". فالفقراء صاروا فقراء لأنهم "كسالى" لا يبذلون أقصى جهودهم، والتفاوت الاجتماعي ليس إلا نتاجاً "معقولاً" لفروق فردية في الذكاء والقدرات، والضحية المغتصبة جنسياً "تستحق" ما لحق بها لأنها سارت لوحدها في الطريق ولم تكن محتشمة بما فيه الكفاية!! وتخلص النظرية إلى الاستنتاج بأن هذا الاعتقاد (الوهم) بعدالة العالم هو أحد عوامل التعطيل السيكولوجي للحراك البشري الجمعي الإيجابي نحو الاحتجاج والتغيير والإصلاح.
وقد اتخذ هذا الوهم تعبيراً لفظياً مباشراً لدى فئات عديدة في المجتمع العراقي بما فيهم بعض المثقفين، عبر المقولة النمطية الماسوشية الواسعة الإنتشار: ((حيل بينا، إحنه العراقيين مو خوش أوادم))، والتي تُترجم إلى لغة علم النفس بالقول: ((تستحق الضحية ما يحل بها عقاباً على "آثامها" السابقة، فهذا العقاب عادل في جوهره وإن كان يبدو ظالماً في مظهره)). وقد اتسع تداول هذه المقولة الشعبية بعد نشوب الحرب العراقية-الإيرانية 1980م وامتدادها لسنوات طويلة تجاوزت كل التوقعات، إذ ما الذي كان يبرر عودة آلاف الضحايا المتفحمين، مقطعي الأوصال، ملفوفين بالعلم إلى ذويهم، سوى "ذنوب" ارتكبها أجدادنا "الآثمون" نحن العراقيون؟! ثم اشتدت الحاجة النفسية لاعتناق هذا الوهم إلى أقصاه خلال حقبة العقوبات الاقتصادية الدولية (1990-2003)م، فلا شيء كان يمكن أن يعقلن سرطانات الأطفال، والانهيار المفاجيء في دخل لأسرة العراقية، والإنتشار الطوفاني للجريمة، والإنقلاب القيمي المتسارع، والإثراء السادي العصابي للسلطة على حساب الجياع، سوى إننا العراقيين ارتكبنا "معاصٍ" جسيمة في تأريخنا الغابر والحديث، نستحق عليها هذا القصاص "العادل"!
إن مشاعر الذنب الجمعي Collective Guilt في حال بروزها في مجتمع معين، تعمل في العادة عند المستويين الاجتماعي والديني على حد سواء، علماً إن العامل الديني يبقى في جوهره النهائي عاملاً اجتماعية - تأريخياً. فالنزعة الماسوشية التي تحرك طقوس إيذاء الجسد واستعذاب آلامه في أي دين، هي في أصولها التكوينية إزاحة لاشعورية لطاقة الاستياء لدى المحرومين وتوجيهها عدوانياً إلى هدف ذاتي بديل (أي الجسد)، بدلاً من توجيهها لمقاومة المسبب الواقعي لحرمانهم (أي عوامل السياسة والاقتصاد والاجتماع). فالأمر هنا يشبه نزوع الطفل لتوجيه اللكمات والصفعات لدميته "الضعيفة" كلما تجمعت لديه طاقة الإحباط والغضب الناجمة عن ضغوط الآخرين "الأقوياء" واضطهادهم له. إن إبدال هذا الهدف الجوهري الموضوعي بهدف مظهري ماسوشي، إنما يخضع لآلية سيكو-دينية تشتد فاعليتها كلما نأت المؤسسة الدينية عن وظيفتها الإصلاحية العدالوية واستغرقت في رتابة أدائها الطقوسي المحض.
ومع إن التعبير الطقوسي الديني ذي الطابع الإيذائي للجسد، قد بلغ مديات واسعة من الحرية والانتشار في العراق منذ نيسان 2003م وحتى اليوم، إلا أن فئات مهمة من العراقيين، ومنهم بعض ممارسي هذه الطقوس أنفسهم، قد بدأ بالتحول، وصار يلقي باللائمة خارج إطار جَلْدِ الذات، إذ بات لسان حاله يقول: ((ليس العراقيون وحدهم "مو خوش أوادم"، بل الأمريكان والأحزاب والميليشيات والحكومة الحالية والنظام السابق ودول الجوار "مو خوش أوادم" أيضاً)). وصار البعض يذهب إلى التسليم بأن هؤلاء الآخرين لو تركوننا وشأننا نحن العراقيين، لعُدنا إلى طبيعتنا قوماً مسالمين ومتحضرين ومتّحدين، ولأصبحنا طليعةَ شعوب المنطقة عمراناً وازدهاراً!
وجاءت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في حزيران الماضي 2010م، التي انطلقت من البصرة مروراً بالناصرية والكوت والرمادي والحلة وكربلاء والكوفة وبغداد، ضمن ما صار يُطلق عليه بـ"انتفاضة الكهرباء"، لتؤكد أن ثمة انحساراً إضافياً للنزعة الماسوشية في العقلية العراقية، في مقابل بروز وعي جمعي عميق وتفصيلي بالمظالم الاجتماعية عبر عزوها إلى أسبابها الواقعية المباشرة دونما أوهام أو تزييف لاشعوري للحقائق، إذ جاءت الهتافات واللافتات ووسائل التعبير الرمزي الأخرى في هذه التظاهرات، لتقدم جميعاً إطاراً تشخيصياً مختزلاً للأزمة العراقية بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فلا انتقاص من الذات العراقية أو اتهام لها أو بخس لقيمتها أو تبرير لحرمانها، بل توقير لكبريائها وإعلاء لكرامتها وإشهار مباشر لمظلوميتها بوجوه ظالميها ممن جرى تحديد مسمياتهم الصريحة بحناجر المتظاهرين، في مشهد عراقي غير مسبوق، قدّم فيه المحتجون دراما سياسية فريدة اختلطت فيها فصاحة الوعي المعارض باللغة الدارجة المتحدية، على نحو يبرهن صواب ما ذهب إليه "غرامشي" حول لا نخبوية الثقافة، حينما كتب في "كراسات السجن": ((كل الناس مثقفون، لكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع)).
إن جدل الصيرورة الاجتماعية لا يتوقف ما دام البشر منهمكين في تفاعلاتهم المجتمعية، فظلمة المشهد الآني لا تعني أن الضياء لا يتفاعل في أعماق الظلام. وإذا كان لدموية السنوات السبعة الماضية من مزية أو فضيلة، فهي إنها أسهمت في إزاحة الوعي الاجتماعي العراقي درجة نحو الأعلى في نظرته التقويمية لتأريخه السلوكي، إذ قايس العراقيون بين "رذائلهم" المفترضة ورذائل الآخرين المفروضين عليهم فاستعادوا جزئياً الوعيَ بكونهم ضحايا لا يستحقون اللوم بل الإنصاف.
قد يحتاج العراقيون عقوداً أخرى ليتخلصوا من عقدة "الذنب الجمعي" تماماً، إلا أن انعتاق المظلوم من وهم تبرير مظلوميته قد بدأ !
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - حول نشر التعليقات
شوكت خزندار
(
2010 / 7 / 11 - 09:41
)
بداية توجه سليم وجاد حول نشر التعليقات .. ولكن بعد فوات الاوان .. وكلامي موجه للأستاذ رزكار عقراوي تحديدا أتمنى أن يتقبل ذلك بحسن النية ، فإني كنتُ دوماً مع النقد وليس ( النقض ) كما صورتم ذلك
لقد شطبتم بعض من ملاحظاتي الجادة ، ورميتم عدد من كتاباتي في سلة المهملات دون العناء لقراءة المادة مما شكل لديّ خيبة الأمل وعدم مواصلة الكتابة .. مع كامل تقديري لشخصكم الكريم وجهودكم القيمة
شوكت خزندار
2 - جهد علمي
عبد الحسين سلمان
(
2010 / 7 / 12 - 12:50
)
استاذ فارس
مع احترامي وتقديري لجهودك العلمية .. الا ان واقع الحال يختلف عن نظرياتك
العراق خرج من ديكتاتورية فاشستية علمانية ودخل في ديكتاتورية فاشستية ثيوقراطية وتحت الاحتلال .. ماذا سيكون وضع الناس بين هذين القطبين؟
بلد منهار كليا ..بل ومدمر كليا حتلى هذه الساعة.. كل البنى الفوقية والتحيتة اختفت... الدولة نفسها اختفت.. المؤسسات الحكومية هي حارات وازقة للمافيا.. وانت علم مني بهذا..ماذا تتوقع ان يكون انعكاس هذا على الناس؟؟
مع تحياتي
.. الجمعية الوطنية الفرنسية تدين -مذبحة- 17 أكتوبر 1961 بحق جزا
.. سامي الطاهري: الاتحاد العام للشغل أصبح مستهدفا من قبل السلطا
.. الجزائر تعين قنصلين جديدين في الدار البيضاء ووجدة
.. لبنان: هل بدأ العد العكسي للحرب مع إسرائيل؟ • فرانس 24 / FRA
.. هجوم بسكين يثير حالة من الذعر في قطارات لندن | #منصات