الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث الجمالي والبحث العلمي

ساطع هاشم

2010 / 7 / 20
الادب والفن


تاريخ العلم فرع جديد نسبيا من فروع المعرفة , تأسس بعد الحرب العالمية الثانية , جزئيا بسبب الامتعاض والسخط الدولي من تفجيرات القنبلة النووية , وقد اصبح جزئا من نظام التعليم الاكاديمي العالي في اوربا وامريكا منذ اواخر الاربعينات وبداية الخمسينات , وقد ازداد عدد المشتغلين بهذا الفرع زيادة ملموسة في العشرين سنة الاخيرة ويقف هؤلاء وراء انتاج المئات من الكتب والدراسات والبرامج الاذاعية والتلفزيونية والافلام والشروحات العلمية المبسطة لغير المختصين , وزاد تأثيرهم في الوعي العام وتوجيه السياسات والسلوك اليومي في الحياة العملية في كل دول العالم .
وتتحول شيئا فشيئا مايطلق عليه – الفروع الانسانية – مثل الفنون والاداب والتربية وغيرها الى علوم صرفة وربما ستتحقق هواجس وتنبؤات بعض المفكرين قبل خمسين او ستين سنة من ان الفن سيمسي علم الفن , وعلم الادب , وعلم الشعر .......وذلك لاعتمادنا المتزايد على ابتكارات واكتشافات العلوم المختلفة سواء كان ذلك في حياتنا العملية او في افكارنا وتحليلنا للظواهر او في وجهات نظرنا المختلفة .
ينقسم تاريخ العلم الى قسمين :
الاول الذي يسمى بالعلم الكلاسيكي او النيوتني (نسبة الى العالم الانكليزي اسحاق نيوتن 1643 – 1727) وتوصيف الكلاسيكي هنا ليس له اية علاقة بالمراحل المألوفة في تاريخ الفن او الادب , فهذان شيئان مختلفان , وليس هناك رابط الا بالتسمية . ويبدأ هذا القسم مع ابحاث كوبيرنيكوس وغاليلو وتايكو وكبلر ونيوتن , وينتهي مع بداية القرن العشرين (بمعنى تراجعه من الصدارة وليس موته), ويتميز هذا العلم بكونه يتعامل بشكل عام مع الاشياء والاحداث التي يمكن لنا رؤيتها ولمسها (وهذا مهم للتذكر) .
القسم الثاني وهو العلم الحديث , ويتميز هذا القسم بالبحث في الاشياء الواقعية الحقيقية التي لايمكن لنا رؤيتها او لمسها لكنها تؤثر على حياتنا كلها مثل الطاقة الكهرومغناطيسة والقوى النووية العظمى والصغرى التي تربط اجزاء الذرة وغيرها , ويبدأ عمليا مع صدور النظرية النسبية الخاصة للعالم الالماني البرت اينشتاين سنة 1905 , (رمزيا في ديسمبر سنة 1900 عندما نشر العالم الالماني بلانك بحثه في الكوانتم-الكم ) وبعدها النسبية العامة سنة 1916 , لتنطلق في اواسط العشرينات فيزياء الكم , ولتكّون مع النظرية النسبية الاساس العلمي للانسان المعاصر في فهم الكون والعالم المحيط , والنظرية النسبية تبحث في اللامتناهي في الكبر ونظرية الكم في اللامتناهي في الصغر , ولم يتوصل العلم بعد الى طريقة لجمع هتين النظريتين في كل واحد , (اضمحلت في القرن العشرين غالبية الافكار والنظريات والايدلوجيات والعقائد الاوربية التي نجحت في القرن التاسع عشر لاعتمادها على علم زمانها (الكلاسيكي ) في التحليل , وفقدت قيمتها وقوتها بعد انتشار مفاهيم وفتوحات العلم الحديث ولم تتمكن من التكيف معه) .
كل اختراع لالة جديدة يؤدي الى تغيير واكتشاف لعالم مجهول ومن ثم يؤدي اما لتطوير نظرية قائمة او ابتكار نظرية جديدة تنفي سابقتها , ومن ثم تقديم مفهوم ورؤية جديدة عن العالم . هذه ظاهرة يعرفها كل العاملين بالعلم والفنانين المجددين ايضا (اختراع غاليلو للتلسكوب ساعده على رؤية الكون ابعد قليلا من الاخرين , واكد له بان كوبيرنيكوس على حق في ان الشمس ثابتة والكواكب حولها متحركة), فمنذ انطلاقة الثورة الصناعية من اوربا قبل قرنين من الزمان , والعالم يعيش في حالة اكتشاف واختراع وتحول وتفاعل مستمر بين مختلف حقول المعرفة ومنها الفن طبعا .
يعود اهتمام وولع الفنان الحديث بالعلم الى قرون ماضية خلت , قبل دخول الغربيين الى العصر الصناعي وقيادتهم السياسية والثقافية للعالم في المئتين سنة الاخيرة بكثير . اول اشارة على هذا الاهتمام كان بحدود سنة 1413 , عندما ابتكر المعماري الايطالي (برُنيلسشي 1446 - 1377) مجسما صغيرا وقاعدة بسيطة بالرسم لتجسيد عالم ثلاثي الابعاد على لوحة من بعدين , وقد سميّ هذا الابتكار-بيرسبكتيف / كلمة ايطالية - المنظور , وهو عبارة عن قاعدة رياضية يمكن من خلالها رسم اي مشهد بابعاده التي تبدو امام العين , وايضا من خلال هذه الطريقة يمكن معرفة الابعاد الحقيقية والمسافات وارتفاع البنايات في اللوحة المرسومة , وهذا هو الاختلاف الثوري بين ماجاء به هذا المعماري وبين ماكان حتى ذلك الحين يرسم للايحاء بالبعد الثالث , حيث لانتمكن من معرفة المسافات بالمشاهد المصورة كما في جداريات بومبي من العصر الروماني مثلا او لوحات جيتو في القرن الرابع عشر , فكل اللوحات الفنية المرسومة قبل (برُنيلسشي) لتصوير البعد الثالث (العمق) مبنية على اساس الملاحظة والحدس والتخمين , اما مابعد 1413 فهي مبنية على اساس رياضي بشكل واضح , وهذا يعني ان (برُنيلسشي) قد صاغ افكاره على شكل – نظرية / قانون شامل – مستمد من ارقى معارف زمانه في الرياضيات والحساب وعلم الجبر , ويمكن تطبيقه في كل زمان ومكان .
وقد تعمقت اهمية هذا الابتكار وتطور باستمرار على مدى القرون الاربعة التالية وانجزت بواسطته روائع الفن الاوربي التى لاتضاهى , وسميت التقاليد التي رافقته وطرق الرسامين واساليبهم الفنية المبنية على اساسه بتقاليد عصر النهضة , والتي ظلت سارية كمثل اعلى للجمال عند الغربيين حتى القرن التاسع عشر عندما اكتشفوا اصل الحضارات والمُثل والابعاد الجمالية العليا في الحضارات القديمة العظيمة في دول المستعمرات , خارج حدود قارتهم ودولهم , فانتقل اهتمامهم منذ نلك الحين الى ثقافات الشعوب اللااوربية وكذلك فنونهم الاوربية لماقبل النهضة .
بيد ان دخولهم الى عالم الصناعة والتكنلوجيا قد وسع من افق تفكيرهم كثيرا ايضا , وتجذرت نزعة الشك والتفكير العقلاني عند مفكريهم وراحوا يناقشون ويحاكمون كل شء في معتقداتهم السابقة ويدخلونها تحت مجهر الفحص والبحث من جديد , فكان الفن جزءأ هاما من هذا التفكير والنقاش والبحث , فمثلا بعد مرور اكثر من مئة سنة على نشر نيوتن لمؤلفه في علم البصريات (نشرها سنة 1703) وتحليل الضوء ورسمه لخارطة الوان الطيف الشمسي (دور – برُنيلسشي - بالفن يشبه الى حد ما دور نيوتن بالعلم , لان كل المشتغلين بالعلم قبل نيوتن لم يستطيعوا صياغة استنتاجاتهم في نظريات او قوانين شاملة ( الابشكل محدود جدا ) بينما هو قد صاغها , ومازال الناس في العالم يستخدمونها في حياتهم العملية ودراستهم , لذلك استحق عن جدارة كل ذاك الغار والتهليل ) , قام النساج الفرنسي ومدير احد مصانع الاقمشة شفرول بابتكار طريقة جديدة لتحديد التناسق والانسجام (الهارموني) بين الالوان اعتمادا على نظرية نيوتن هذه , لغرض تطوير التصميم في صناعة النسيج , نشرها فيما بعد مع الكثير من الرسوم الايضاحية والشروحات للالوان الاساسية والثانوية وتراكيبها المختلفة , في مؤلفه –قانون التضاد اللوني المتزامن سنة 1862 (صار انجيل الانطباعين لاحقا) وقد اسهمت ابحاثه ومحاضراته عن الالوان في منتصف القرن التاسع عشر في دفع الكثير من الفنانين الفرنسيين للاتصال به ودعوتهم له في مراسمهم و بالاهتمام الجدي بنظريات العلم وتطبيقاتها العملية , فكانت ابحاث شفرول قد اثرت على ديلاكروا مثلا (خاصة اعماله المتأخرة) واخرين من جيله ومن ثم على كل جيل الفنانين الانطباعيين , حيث طبقوا على ارض الواقع افكارا علمية صرفة في بحوثهم الجمالية بالرسم .
المؤثر الاخر في الفن الحديث جاء من ابتكار تكنلوجي فرضته الضرورة او الحاجة , فقد كان الفنانون بالغرب وحتى منتصف القرن التاسع عشر يصّنعون اصباغهم بانفسهم او اعتمادا على بعض الحرفيين من اصحاب حوانيت بيع الادوية , ولم يكن بامكانهم الاحتفاظ بهذه الاصباغ لاكثر من ايام معدودة ولايستطيعون استعمالها خارج مراسمهم , وكانوا يستعملون اكياسا جلدية لهذا الغرض , حتى تمكن الرسام الامريكي (جون.ج.راند) من ابتكار علبة من مادة الرصاص للاحتفاظ بالاصباغ فترة طويلة من الزمن وتُمكِن الرسام من استعمالها داخل المرسم او عند التنقل بالطبيعة اوالمدن او في اي مكان , وقد حصل على انجازه هذا على براعتين للاختراع الاولى من بريطانيا لانه كان يقيم فيها والثانية من بلده امريكا سنة 1841 , وبدات الشركات بانتاج عصارات الاصباغ منذ سنة 1845 والى يومنا هذا , وقد احدث هذا الاختراع ثورة عظيمة في تقنيات ومدارس الفن حتى ان رينوار (احد اهم رواد الانطباعية) قال لابنه انه بدون عصارة الاصباغ (التيوب) لم يكن هناك امكانية لوجود سيزان او بيسارو او شئ اسمه الانطباعية .
هذه الانجازات التقنية /العلمية منها اوالفكرية وهذا الولع بالعلم ومكتشفاته تطور على قدم وساق وجنبا الى جنب مع التحولات الاجتماعية العاصفة التي عاشتها المجتمعات الغربية عامة , ثم نقلتها الى سكان العالم لاحقا واثرت على كل المفاهيم المحلية لشعوب العالم بدون استثناء , وايقظت فيها رغبة البحث في الذات والهوية والتاريخ , وطبعتها والى الابد بطابعها الدولي , فكان من نتائجها علينا وصول فكرة استلهام التراث , او ربط المعاصرة بالتراث , هذه الفكرة العالمية التي عاصرها الفنان العراقي الحديث ,هي واحدة من افكار الثورة الفنية الاوربية الاكثر شهرة وتسمى في تاريخ الفن بفكرة - استلهام تراث الشعوب اللاوربية والعودة الى المنابع – وكان رموزها الاساسيين في العالم مازالوا على قيد الحياة عندما بدات تتشكل الجماعات الفنية بالعراق في الاربعينات والخمسينات .
حتى سنة 1960 لم ينتج الفنانين العراقيين اعمال فنية من اي نوع يمكن مقارنتها بالمستوى الدولي للفنانين الاوربيين ولكن بعد هذا التاريخ برزت الاعمال النحتية الضخمة واللوحات ذات المستوى النوعي المتميز , وتعمقت التجارب التقنية والافكار فصار لنا المستوى المقبول عالميا , وزاد عدد المحترفين للفن كماً ونوعاً ومعهم ازداد جمهور الفن ايضا , واصبحت فكرة استلهام التراث هي الفكرة السائدة في معظم التجارب الفنية وسيطرت على عقول غالبية الفنانين , ولم تتمكن اي فكرة اخرى من منافستها بجدية ولم يتمكن اي فنان له وجهات نظر معارضة من كسب اتباع وطلبة وبناء اتجاه فني مختلف وتقديم مفهوم جديد خارج هذه العقيدة التي امتزجت ومنذ البداية بالحس السياسي الوطني / القومي والشعور الديني فيما بعد .
ورغم الجهود التي بذلها بعض الفنانين من الذين تاثروا بافكار الحداثة في الستينات والسبعينات في الاجتهاد لتقديم افكارا اكثر معاصرة وحيوية الا ان قرارات السلطة في منتصف السبعينات في حل والغاء الجماعات الفنية , والتبعيث القسري للفنون وللمجتمع , قد قضى على كل امالهم مرة واحدة والى الابد , واستمرت فكرة التراث واحياء المجد الغابر وعلى اساس شوفيني رجعي وبدعم وتمويل حكومي غير محدود بلا منافس على الاطلاق .
من اشهر المحاولات المعارضة لهذه الفكرة من تلك الفترة كانت – واقعية الكم , للفنان محمود صبري – والتي مازالت لغزا في اذهان الكثيرين رغم بساطتها وسهولة استيعابها وتنفيذها , ولكن الفجوة الواسعة مابين الفن والعلم في طريقة تفكير الفنانين والمثقفين العراقيين عامة وعدم معرفتهم بالقواعد الاساسية لعلوم كالفيزياء والكيمياء والرياضيات واعتبارها معارف لاتمت الى الفن بصلة , والاشاعات التي تقول بان العلم يقتل الحس , وتبني السلطة للافكار القومية والشوفينية المبتذلة وفرضها بالقوة والارهاب والبطش على العراقيين وغيرها من اسباب , حال دون نجاحها انذاك .
لقد توصل محمود صبري الى افكاره عن طريق دراسة الفن من خلال تاريخ العلم بدرجة رئيسية ومقارنته بتاريخ الفن بدرجة اخرى , وهذه طريقة جديدة للرؤية كانت مبتكرة حديثا جدا في اوربا , عندما بدأ بتطبيقها في بحثه الجمالي عن طريق العلم اواخر الستينات , وهي الان الطريقة السائدة في دراسة الفن الحديث ومبتكراته .
ويمكن لنا ايجازها على النحو التالي , لقد واكب الانتاج الفني الانجاز العلمي حتى القرن التاسع عشر , عندما كان الفنان يرسم مايمكن رؤيته ولمسه (اشياء من مواضيع جاهزة / بشر/مناظر طبيعية / طبيعة صامتة / مواضيع من الحياة اليومية وغيرها) وهذا العالم المرئي كان هدفا للبحث العلمي ايضا (تشريح الانسان والحيوان/ تقلبات الجو والطبيعة/ ميكانيك الحركة وغيرها) لذلك فان البحث الجمالي للفنان سار جنبا الى جنب مع البحث العلمي , بل انه كان سببا في اكتشافات علمية ايضا (ابحاث دافنشي العلمية على الخصوص) , لذا فعندما انتقل الانسان في القرن العشرين في البحث في ما هو اعمق من ما نراه ونلمسه , مثل عالم الذرة والالكترونات والطاقة والكون الفسيح , فقد حصلت هنا فجوة بين البحث العلمي والبحث الجمالي , فبدلا من مواكبة العلم وتصوير الطبيعة غير المرئية وفقا لنظريات العلم , فقد اتخذ الفنان خطا مغايرا , ارتبط بالتوجه نحو الذات او الايدلوجيا او انه استمر في تقاليد العصر ماقبل النظرية النسبية ونظرية الكم (العلم الكلاسيكي).
وقد فصّل محمود صبري في شرح وجهة نظره هذه باسهاب في كل ماكتبه لاحقا بعد اصداره بيانه الاول واقامته معرضه الاول سنة 1971 , ثم تقدم بمقترحاته لتجاوز هذه (الازمة) بأن يعمل الفنان المعاصر على مواكبة الانجازات العلمية ويجد طريقة فنية جديدة لحل هذا الاشكال , فكانت طريقته بالرسم المقترحة تقوم على اساس , معالجة ليس الشئ كما يبدو للعين المجردة (اشياء من موضوعات جاهزة) , ولكن الشئ كمركب كيميائي متكون من عدة عناصر في تفاعل دائم (موضوعات كعملية) , مثلا ماء يتكون من ذرتين هايدروجين وذرة اوكسجين (تفاعل / عملية مستمرة) , وليس سائلا كما نراه ونستعمله في حياتنا اليومية , وهكذا مع بقية المواضيع .
وقد واجهت افكاره هذه معارضة عاصفة (راجع مقالنا بثلاثة اجزاء :هذه هي واقعية الكم /موقع الفنان العراقي/ نوفمبر 2005) اضطرته الى العزلة والانكفاء لم يخرج منها الى الان , ولم يتأسس اتجاه للعلم بالفن العراقي بعده ابدا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با