الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوح الروح جولة في فكر الكاتب والمفكر فايز محمود

زياد جيوسي
كاتب واعلامي

2010 / 7 / 28
الادب والفن


بوح الروح جولة في فكر الكاتب والمفكر فايز محمود

3 / 3

بقلم: زياد جيّوسي



فايز محمود يرى في فلسفته أنّ الحياة طاقة وبالتّالي هي حركة، لذا يرى أنّ (تطوّر حياتنا الإنسانيّة بحسب ما نكتشف من طاقاتها، وتطوّر حركتنا التّاريخيّة بحسب ما نرتقي نفسيًّا واجتماعيًّا على مختلف الصّعد في هذا المجال). ورغم أنّه يؤمن بأنّ الإنسان هو الكائن العاقل، لكنّه يطرح سؤال: (هل كلّ إنسان يُعتبر مفكّرًا ؟)، فهو رغم قناعته بأنّ الوجود البشريّ قائم على الأساس العقليّ، إلاّ أنّ المفكّرين (الّذين ينكبّون على مشوار الحياة، فقلائل جدًّا جدًّا)، لذا يرى فيهم أنّهم هم (رسلنا، رسل الإنسانيّة، في رحلة الوجود الأصيل الرّائع)، وهو يرى أنّهم (هم الّذين يهبون عيشنا إشراقة الحياة)، والنّاس الذين يفكّرون هم الّذين يعيشون في القلق، فهو يرى بفلسفته أنّ (القلق هو أساس الفكر)، ومن يفكّر يتفلسف بمفهوم ارتقاء الإنسان مادّيًا وروحيًّا، تحديد هويّة الإنسان الحضاريّة والكونيّة في الوجود.
الحياة بكلّ مناحيها هي مجال للبحث في فلسفة فايز محمود؛ فهو يرى كم أنّ (الطّبيعة الإنسانيّة تحمل قدرة مذهلة على مقاساة البؤس)، لذا نراه يؤمن بالتّضحية والعمل الدّؤوب والإبداع والحبّ والتّسامح، فهو يرى أنّ الإنسان لا يعيش لنفسه فقط، ولو اختار ذلك (ما تركته الحياة ينعم بهذا الاختيار الخائب). ومن هنا يستطيع القارئ لأفكار فايز محمود أن يشعر بمدى معاناته الفكريّة، ولمن يعرفه شخصيًّا أن يشعر كم هي معاناته في الحياة بسبب أفكاره الّتي هي متقدّمة كثيرًا عن واقع المجتمع الّذي يعيش فيه. فتحمل الكثير حتّى أنّ فكرة الانتحار راودته ومشى بخطوات فيها، وجرّب السّجن والغربة، عرف خيانة الغير له وعرف المعاناة البشريّة في روحه؛ فهو في سلوكه وفكره يعامَل كغريب في مجتمع لا يفهمه ولا يفهم أفكاره، فيجد نفسه وحيدًا في مجتمع ليس من السّهل أن يكون الإنسان فيه وحيدًا، وخاصّة أنّه لا يؤمن بالوحدة والعزلة عن المجتمع، ويرى في الاختلاط إلى درجة الانصهار وسيلة فكريّة للبحث والتّأمّل في مناحي الحياة ومفاهيم الكون.
يرى في الحرّيّة بعث لموات الإنسان ليقوم من بين رماده، فهو يرى أنّه (ليس أطهر من المادّة الّتي اشتعلت بنورها الكامل وتجلببت بالرّوح)، وهذا يراه السّبيل الوحيد للانعتاق الكامل من جذور الغربة، وفي هذه الحالة من الانصهار المادّيّ بالرّوح، تكون الخطوات نحو الحقيقة ونحو السعادة ونحو أن لا يكون الإنسان غريبًا في مجتمعه، مغتربًا عنه، في فلسفة وحكمة ورحلة بحث لا تتوقّف نحو السّعادة والفر. وفي هذه الرحلة، ورغم المعاناة من الاضطهاد والجوع وسوء التّقدير والإملاق، إلاّ أنّه يرفض الحقد ويرفض أن لا يكون متسامحًا، فالمسألة الأساسيّة يراها في أن يظلّ الإنسان لصيقًا بالطّبيعة الأشمل له، فالحبّ هو الأفق الّذي لا يغيب أبدًا.
إنّ الحياة قصيرة كنسمة من ريح في طبيعتها وفي فهم فايز محمود، لذا يجب استغلال الحياة بالتّفكير والبحث؛ البحث الدّؤوب الّذي لا يتوقّف عن الحقيقة. فالوصول لذلك سيبني أفق المستقبل للقادمين من أجل أن يعيشوا حياة الحبّ وعلاقات الصّداقة الحقّة، وهذه الرّحلة بالنّسبة إليه هي: (قوّة الحلم بالحياة والحياة بالحلم خلاص لما يحاصرنا من جمود).
ترى كم من البشر من الممكن أن يؤمنوا بفلسفة فايز محمود وأفكاره؟ سؤال طرحته على نفسي كثيرًا وأنا أستمع إليه في أحاديثه أو أثناء قراءاتي لما يكتب، ودوما كنت أقول لنفسي أنّ أفكاره جميلة وتحمل أفقًا أجمل، وإن اختلفتُ معه ببعض المفاهيم والقناعات. ولكن كم من البشر يمكن أن يؤمنوا بهذه الأفكار؟ ورغم قناعتي أنّ البشر يحملون في دواخلهم الكثير من أفكار فايز، إلاً أنّ الفارق كبير بين وجود هذه الأفكار وبين تطبيقها، فالأنانيّة والرّغبة بالتّسلّط والكسب كلّها تلعب دورًا كبيرًا في التّناقض في السّلوك البشريّ، مضافًا لذلك أنّ الكثيرين من أصحاب العقائد لا يمكن أن يفكّروا خارج نصوص عقائدهم، ولا يقبلون إلاّ التعامل مع النّصوص الجامدة بلا حراك، فتغيب فكرة البحث والتّفكير والقلق، وبالتّالي يرون في فايز وأفكاره مروقًا مرفوضًا.
فايز في أفكاره يرى أنّ كوكبنا الأرضيّ ليس أكثر من غرفة في الكون الكبير الّذي هو بيتنا، هذا البيت (الّذي نعجز عن استشعاره مهما عمقت معارفنا)، وهو يرى أنّ حياتنا ليست أكثر من فقاعة تجعّدت وكبرت، والفقاعات متى كبرت وزاد حجمها لا بدّ أن تنفجر، هو يرى بنظرته أنّه (يكاد يؤون موعد الوداع، مهما طال وقته المتبقّي)، فالخلود برأيه ليس أكثر من شطآن مستحيلة، والحياة سفر دون وداع، (لأنه لا بدء ولا نهاية لانفجار الكون وتمدّده). فالقارب يدنو من الشّاطئ، شاطئ تمدّد الكون وانفلاشه، أو المعاكسة وانبجاسه من جديد، فنرى فايز يغوص في فلسفة الكون ونهايته ضمن فهم فيزيائيّ، ضمن ما يراه العلماء ضمن قوانين تحكم الكون ومساره، وإن كان لا يرى في هذه النّهايات منظورًا قريبًا، إلاّ أنّه يراه حتميًّا. ومن هنا يركّز على ضرورة أن نعمل لنعيش من خلال المعرفة والحقيقة والحبّ والصّداقة، فهو دائم البحث عن الفرح المحجوب، فيصرخ بقوّة: أين أنت يا فرحي؟ فهو يتوق إلى الفرح؛ (نتوق إلى الفرح، فنخيب به مع الصّديق، ومع الحبيب، مع النّاس جميعًا حتّى مع الأهل والأبناء).
إن فايز لم يسْعَ لامتلاك شيء في الدّنيا، بل يستغرب لماذا يسعى البشر للامتلاك وهناك نهاية لكلّ منهم لا بدّ منها. وهو يرى أنّه يسير إلى نهايته، فيقول: (لا أحد سيذكر هذا الطّيف المدفوع إلى الانسحاب من إكمال دورته قبل الأوان، لكم ضخّم في يقينه أنّ الإبداع ميزة اعتباريّة، وذاب هوى في المطلق، لم يحسّْ بأدنى رغبة لامتلاك أيّ شيء في هذه الدّنيا ولم يفهم قط لماذا يرغب النّاس في امتلاك الأشياء، فنحن غرباء غرباء حقًّا ولا شيء هناك غير أنّنا محض ذكرى زائلة تتكرّر في مشهد إبصارنا بعضنا بعضًا)، لذا نراه يتعامل مع كلّ المسائل ببساطة غريبة، فلا يهتمّ إن ذكره أحد بعد مماته، فهو لا يرى نفسه إلاّ طيفًا مهدورًا، وأنّه (لا يشعر بأسى البتّة لما سيحيق به من نسيان)، فكلّ شيء بالنّسبة له استحال إلى ذكرى، الذّكرى الّتي فيها جماع ما مضى من الحياة كاملاً.
إنّها رحلة طويلة بمقدار الجهد الّذي يبذله فايز محمود في رحلته الّتي لا تنتهي بانتهاء الفرد، فهو يضع أمام أجيال قادمة السّبيل في عمليّة البحث عن الحقيقة، فهي الطّريقة للوصول للسّعادة، وخلال رحلته الّتي لم تتوقّف منذ الطفولة، نرى فايز محمود يخاطب الإنسان بدون تمييز، وهو يرى فيما يطّلع عليه ويبحث فيه إحدى الطّرق للوصول للحقيقة. فنراه يكتب أبحاثًا في مجال الأدب والفنّ؛ ها هو يقف عند أبي العتاهية، وعند تطوّر فكرة الموت ومشكلته عند العرب في العصرين الجاهليّ والإسلاميّ، ويبحث في الذّاتيّة في أدب العقّاد، والضّمير عند تولستوي، والعديد من أبحاث ومقالات أدبيّة وفنّيّة لعدد كبير من الكُتّاب، يجمعها في كتابه (آفاق من العلم والفنّ). فيرى في الأدب والفنّ بعض ممّا يبحث عنه في رحلة التّجوال في البحار بحثًا عن مرفأ، ورغم ألمه وتعبه لا يتوقّف عن رحلته، لكنّه يحادث ابنته سلمى يبثّها همّه: (يدلف أبوك إلى خريفه مثخنًا بسموم العاصفة)، ويخاطب الأمّ بقوله: (لو أدخل الفرح لجنباتك)، فنستشعر الألم الّذي يسود روحه وهو يرى أنّ أوراق الخريف بدأت بالتّساقط في خريف العمر، تغزو الأمراض جسده، يغزو الألم روحه، لكنّه أبدًا لا يتوقّف عن رحلة البحث، عن إيمانه المطلق بأنّه لا بدّ من الوصول للحقيقة، عن إيمانه بالإنسان الحقيقيّ الّذي سيكتشف الحقيقة ويجعل من الحياة سعادة قائمة على الحبّ والصّداقة ومعرفة الحقيقة.
كثيرون لا يعرفون فايز محمود والكثيرون ربما لم يقرؤوه، حقيقة أشعر عبر سنوات طويلة مضت أنّ فايز لم ينل ما يجب أن يناله، ولم يمنحه المجتمع حقّه من التّكريم، فكبر في العمر وما زال يعاني، لكنه لا يفقد الأمل أبدًا. ولذا أرى فيمن يمكن أن يقرأ له، أنّه سيجد فلسفة جميلة ورائعة للحياة، قد نختلف معه في بعض من أفكاره وأسلوب صياغتها، لكنّه أبدًا لا يمكننا إلاّ أن نعجب بما يقول وبروحه المبدعة الخلاقة، ونرى فيها بعض نور قد ينير أنفسنا لو فهمنا أفكاره وفلسفته.
وختاماً أرى في رحلة فايز سفرًا متواصلاً في المكان والزّمان والدّاخل الإنسانيّ. وهذا يعيد لذاكرتي ما كتبته قبل سنوات في نصّ أراه ينطبق على فكر فايز محمود، ويلتقي مع أفكاره الّتي كنت بعيدًا عنها وعن لقاءه منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، حتّى التقينا في العام الفائت فأهداني كتبه الّتي التهمتها التهام الجائع، رغم أنّي كنت في تلك الفترة الّتي قاربت العشرين عامًا قد فقدت التّواصل مع فايز، فكلّ منّا أصبح في بلد يعاني من غربته مع الواقع، إلاّ أنّ أفكاره الّتي كنت أسمعها منه، أفكاره الّتي كنت أناقشه فيها في مرحلة الزّمن الصّعب الّتي عشناها معًا، تركت أثرها في روحي ولعلّها انعكست في نصّي بشكل أو آخر، فكتبت نصّي القصير وهو من كتابي تحت الإصدار (أطياف متمردة) أخاطب به الطّيف البعيد للأنثى الّتي أفتقد فقلت:
(وإن كان السّفر بالحالتين ذا جدوى، فالسّفر في المعبد الأزليّ "الجسد" أكثر جدوى، فأنا كما أنت مسافر لم يصل للمرفأ بعد، أجوس مجاهل نفسي وغابات الرّوح لعلّي أصل لمرفأي.. وفي زمن "الرّويبضة" ما أجمل السّفر بداخل النّفس، نخوض فيها أمواجًا متلاطمة وبحار الظّلمة للوصول لنور الحقيقة المطلقة..
ما أجمل السّفر على مركب الكلمة نخوضها متعة وإحساسًا، فكلّنا جوعى الحقيقة وكلّنا جوعى الإنسانيّة الحقّة. فقد تشوّهت دواخلنا حتّى أصبحنا أشباه بشر.. فإنْ عدتِ إلى الهدوء فقلمي أغصان النّخيل، وارفعي سجّادتك واخفي تحتها الفوضى ولا تلقيها من النّافذة، فنحن بحاجة للفوضى أحيانا لنخرجها من علب الذّاكرة، لأجل حقيقة لا تبان إلاّ من جسد فوضى.
أمّا الشّوائب فلنلقها خارجًا ونغسل أثارها، بما تبقّى من رحيق وشهد نستلّ منه الحكمة، ومهما كان وجع الرّحيل فهو الّذي يعطينا روح الاستقرار والرّغبة به، استقرار الجسد وسكون الرّوح.
فارتدي رداءك الّذي اخترتِ وحلّقي به عاليًا في سماوات رحبة، اقطفي من عالم انعدام الجاذبيّة سواسن وزنابق، لعلّها تعيدك من سفر ومن غربتين).
وهكذا هو فايز محمود سفر مستمرّ، بحث عن مرفأ الحقيقة، سفر في أعماق الرّوح الإنسانيّة والعقل البشريّ، سفر بين الذّات والمكان، رحلة بدأت ولا أعتقد بأنّها ستنتهي. ففايز لا يدّعي امتلاك الحقيقة، لكنّه يسعى بكلّ جهد للوصول إليها، الاقتراب منها، فهو مؤمن بها ولا يؤمن بالمستحيل، فالاستحالة مرفوضة عنده رغم تحقّق الاستحالة في الرّوح ذاتها، ويبقى البحث عن الحقيقة والحبّ والصداقة ثالوثًا مقدّسًا في حياة فايز محمود ورحلته في البحث.

(رام الله 2009)




http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com

http://www.arab-ewriters.com/jayosi








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد