الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظريات وحقيقة بسيطة!

مرزوق الحلبي

2010 / 8 / 10
مواضيع وابحاث سياسية



نذكّر بأن تشكيل المحكمة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري كان حظي بإجماع لافت وإن كان من بعض شركاء هذا الإجماع بعض من تحفّظ أو توجّس خيفة! وهذا طبيعي في أيام كانت أجواء لبنان فيها حارة بفعل طاقة التفجير الذي استهدف موكبه ولا أحد يجرؤ على التنكر للدم المسفوح للتو. نقول هذا في السنة الخامسة على المشهد المروّع لتلك الجريمة السياسية بامتياز، وفي ضوء هذا الإجماع العربي واللبناني المستهجن على إدارة الظهر للمحكمة إياها وتقريرها! فإذا نزلنا من سقف العبارات الدبلوماسية أو التراكيب الصحفية التي تصف المواقف وتقارنها لاكتشفنا أنه حتى أولئك الذين وضعوا دماءهم على أكفهم مطالبة بالمحكمة يشاركون غيرهم الموقف المضمر غير الراغب أبدا لا في هذه المحكمة ولا في تقريرها. وهي ليست ظاهرة غريبة في الثقافة السياسية العربية، ومع هذا فإنها مفارقة تفضح الحالة اللبنانية، ومن خلالها العربية، التي تتسم برفض مواجهة الحقيقة. فالادعاءات التي سيقت في حينه دعما لمطلب إقامة المحكمة، تُساق اليوم في إطار السعي إلى القفز فوق تقريرها أو أرشفته في إحدى الأقبية الأكثر عمقا في وعتمة. كأن اللبنانيين ـ في قواهم المتنفّذة ـ غير معنيين بالحقيقة التي ناضلوا لأجل كشفها سنين طوال، وكأنهم انساقوا مرة أخرى في مسار نظرية المؤامرة، وهذه المرة مطوّرة ولا تخلو من الزركشات بمنمنمات فارسية.
عندما نشرت لجنة أممية برئاسة القاضي غولدستون تقريرها بشأن المخالفات الإسرائيلية للقانون الدولي في الحرب الأخيرة على غزة عجّب العرب في نقل مضمون تقريرها بالتفصيل الممل، واحتفوا بالتقرير وواضعيه شهورا طويلة. فعلوا ذلك وهم يراهنون على لغة القانون الدولي وما فيها من أدوات وقيم تحاصر السياسة الإسرائيلية، ولا تتردد في إدانتها تفصيليا والتأسيس لمرحلة محاكمة مسؤوليها بارتكاب جرائم حرب. لكن هذه الأوساط ذاتها تشكّك من خلال مجموعات كورس منتشرة كخلايا القاعدة بالمحكمة الدولية التي تحقق في الجريمة المذكورة علما بأنها تقوم على أساس اللغة القانونية ذاتها وانطلاقا من مبدأ محاسبة الضالعين في جرائم بهذا الحجم! في جولدستون، الضحية عربية والفاعل إسرائيلي. فلا مانع من تلقف التقرير والإشادة بمعدّه وتبنيه من الغلاف إلى الغلاف. في حالة الحريري، الضحية عربية والفاعل كما يُظنّ ـ لم يتأكّد حتى الآن ـ عربي، أيضا! ومن هنا ورطة العرب في عروبتهم. فهم، كما يبدو من السجال حول تقرير المحكمة الدولية، يرفضون وضع العروبة قيد النقد بأدوات وأدبيات لغة القانون الدولي وآلياته حتى بثمن إهدار دم الرئيس الحريري مرة ثانية بعد اغتياله! فإدانة إسرائيل أجندة يتفق عليها العرب، أما إدانة الفاعل الذي اغتيال الحريري ومن خلاله لبنان الدولة والاستقلال والاحتمال، فأمر فيه نظر لأن المجرم يُمكن أن يكون عربيا، أو لبنانيا مفترضا أو عينيا له أسم وعنوان! هذه فقط إمكانية واحدة للتفسير!
أما الإمكانية الثانية فهي أن توافق المصالح المناوب بين القوى الإقليمية ومطابقاتها من القوى اللبنانية وصلت إلى ذروة جديدة يُمكن عندها تأجيل المحكمة أو تعليقها إلى أجل غير مسمى كما تقتضيه هذه المصلحة. فهي مصلحة بهذه الأهمية بحيث يُمكن التنازل عن الشوط الأخير في رحلة الكشف عن المجرم ومحاسبته. بمعنى آخر، أن المرحلة الراهنة من توافق المصالح بين سوريا وجنبلاط مثلا، أو بين الحريري الإبن والسعودية، وبينهم مجتمعين، إدارة الظهر للمحكمة الدولية وما تعنيه من إرادة عابرة للحدود تلجم الدول ومسؤوليها وميليشياتها ومجرميها. حسابات راهنة تتناقض بشكل ينبغي أن يقضّ مضجع العربي المتوسط مع اعتبارات وجوب المساءلة ومعاقبة الجُناة في جريمة سياسية بامتياز نُفذت لاعتبارات سياسية! وفي موازاة توافق المصالح تكمن لنا نظرية تناقض المصالح وتوازن القوى المتصارعة في لبنان وعليه وعلى أرضه. فقد يكون توازن التناقضات لا التوافقات هو السبب في نشوء نزعة لبنانية وعربية طاردة عن تقرير المحكمة الدولية!
إمكانية رابعة هي أن الجهة التي تتحسّس رأسها خشية أن تكون الريشة عالقة عليه من السطوة والقوة العسكرية بحيث عادت مرة أخرى لترهن الوطن مقابل الحقيقة. فلا يُمكننا قراءة خطاب حزب الله منذ ابتدأ حسن نصر الله سلسلة خطاباته التوضيحية والتبريرية والدفاعية المهينة في كثير من مفاصلها للعقل،قبل حوالي الشهر، إلا أن نفهم أن هذا الحزب الذي رهن الوطن في سبيل ولاية الفقيه والمشروع النووي الإيراني لا يتردّد اليوم في رهنه مقابل الحقيقة. فكأنه يقول للبنانيين وغيرهم من عرب "إدانة المحكمة الدولية لنا أو لأي من عناصرنا يعني فصل الخاتمة للبنان كما عرفتموه أو أردتموه"! إذا ظهرت الحقيقة ـ يقولون ـ ينتهي لبنان! ولا يأتي الكلام جزافا بل مسوغا ومدعوما بقوة إقليمية لا تنفك توضح مشروعها للعرب في العراق واليمن وسواهما! ولنعترف أن العرب ليسوا في أحسن أوضاعهم! الضباب الكثيف الذي نشره الحزب في الأسابيع الأخيرة يُقصد به توضيح الرسالة لمن لم يلتقط الإشارة في غزوة أيار! وفي مثل هذه الحالة عادت من الشبابيك الإعلامية نظرية المؤامرة والانكفاء إلى إلصاق عار العرب بإسرائيل! وهو الفعل المتيسّر مع انسداد الأفق العربي الداخلي أمام الحقيقة الموجعة! واتهامها هنا يصيب عصفورين اثنين على أقلّ تقدير، اتهامها بما لا يستطيع العرب في الراهن اتهام عربا آخرين به، محاولة منعها من استغلال تقرير المحكمة الدولية وتصدير مفاعيله إلى الجوار العربي.
لا مواقف إسرائيل المتحفزة والمحتفية بتقرير قد يدين حزب الله أو جهة عربية أخرى، ولا توافق المصالح بين قوى لبنانية وأخرى إقليمية، ولا توازن التناقضات والقوى في لبنان وعلى أرضه يُمكن أن تخفي حقيقة أن الرجل رفيق الحريري قد اغتيل وأنه ليس بيننا وأن هناك من اغتاله مع سبق الإصرار والترصد! هذا من حيث الوقائع الموضوعية الجافة جدا. أما من حيث الوقائع المفترضة فإن اغتياله تمّ بيد جهة تمتلك نفوذا واسعا جدا على الأقلّ في ميدان الجريمة وتكنولوجيا متطورة ومقدرات وإمكانيات مكنتها، ليس فقط من تنفيذ الجريمة المرّوعة، بل من التستر عليها. وقد قامت القيامة في لبنان وفي كل موقع عاقل حيال هذا التستّر، ويحق لنا ولغيرنا أن يقيمها من جديد حيال السعي غير المبرر للتستّر على الحقيقة أو على الإشارات الدالة عليها. يفلحون فينا أن التستّر الحالي ضرورة لحفظ الوطن، على غرار ما يفلحون فينا منذ التحرير أن مصادرة الحريات واغتيال العقل إنما هي ضرورة لبناء الدولة ومقاومة الاستعمار الذي يأتي بألف لبوس ولبوس! لن تلتبس علينا الحقيقة مهما يكن ـ رفيق الحريري اغتيل بيد مجرم، وعلى هذا المجرم أن ينال عقابه. وعادة ما تكون الحقيقة بهذه البساطة!
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية