الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الثقافة في مصر: شجرة البؤس وأزهار الخشخاش المسروقة

يوسف ليمود

2010 / 9 / 2
الادب والفن


كثيرة هي المقالات اليومية التي ترصد ما وصلت إليه مؤسسات النظام الحالي الحاكم في مصر من خراب داخلي طافح بكل مظاهر الفساد والإجرام والانفلات بكافة معانيه، بدءاً من الأخلاقي وانتهاءً باللامبالاة النابعة من الجهل وانعدام الوعي الآدمي بالوجود والذي هو وحده ما يفرّق الانسان عن البهائم. كثيرة هي حد اكتظاظ الصحف الورقية وغير الورقية برصد وتحليل علامات هذا التحلل والانحلال، وإلى حد خشية التفكير بأن المبدعين من كاتبي هذه المقالات أصبحوا ضحايا المزاج الأسود المنعكس عليهم من الواقع الذي يتعاملون معه، في حياتهم وفي كتاباتهم،. لكن الخشية المفترضة تصير ألماً حال إدراك أن رصد مظاهر التفتت والفساد هذه أصبحت، بحكم العادة اليومية، مجرد كلام لا يسمن من جوع ولا يؤمّن من خوف ولا يحرّك طوبة في ذلك السياج الغبي الذي يتمادي في تحصينه نظام متهرئ فاقد الوجه لا يتورع عن امتصاص البقية الباقية من دم شعبه المبتلى بكل الأمراض. ليس في نيتي هنا أن أرصّ كلاما على كلام معروف ومسؤوم منه يمعن في وصف الانحطاط الشامل الذي انتهت اليه مؤسسات الدولة المصرية المباركة، ولا درجة العبث القصوى التي بلغها ترمومتر الحياة اليومية المصابة بفقر الدم والهزال، نتيجة الجوع وانعدام الأمن والكبت الجنسي وتفشي الجريمة وانفجار ظاهرة التدين والتعصب المرضي بنفس معدل الانفجار السكاني وتسلّط الشرطة على عامة الشعب، من سبّ الأم في عرضها، إلى انتهاك أعراض الرجال في أقسام البوليس، إلى الضرب المفضي للموت فالسحل (الشاب وديع الوجه خالد سعيد لم تبرد جثته بعد)، إلى تلفيق التهم للمستضعفين من أبناء الشعب الجائع افتداءً لجرائم أبناء ذوي النفوذ الذين سطوا على الأرض والشطّ، والجو أيضا (لو فكرنا في الطائرات الخاصة)، إلى صفاقة الإمساك بغير الصائمين علناً، بلا قانون، في ظاهرةٍ هي تراجع في الزمن إلى عصور محاكم التفتيش، واعين أو غير واعين، إلى حقيقة أنهم يصبّون زيتا على نار فتنة طائفية هي ملتهبة بالفعل، نتيجة الجهل الذي ينفّث عن نفسه دينيا في فعلَيْ التعصب والتعصب المضاد، ولا بانهيار منظومة التعليم في مصر بدءأ من حشو أدمغة التلاميذ بالمعلومات الركيكية والمغلوط معظمها، حال تعلّق الأمر بالتاريخ والنظام، إلى المناهج التي هي خارج العصر والزمن والتي فاعليتها الوحيدة تجميد ملكة التفكير للطالب... فلا مستقبل في الأفق ولا فرصة عمل ولا إمكان إعمال عقل مشهود لطبيعته أنها من أذكى طينات العقول جينياً، فيكون المصير الحتمي إما الهروب على ظهر مركب بدائي يغرق، أو الاغتراب المهين في خليج قريب أو وراء محيط بعيد، أو الجريمة، وغالبا الدين كخلاص، ولا كلام طبعا عن حال المرأة تحت هذه الذقن الرجولية المفتولة والنابتة، من حجاب ونقاب في طرف الثوب، إلى تمرد مكتوم، أو حتى دعارة، في الطرف الآخر من الثوب نفسه...

لست معنيا هنا برصد الأنين الضائع في هدير التفاصيل التي هي غسيل يومي للصحف، يرى فيها كلُ ُ ملابسه الداخلية ببقعها الداكنة ولو كانت لغيره، لكنني، كفنان، معني بالسؤال عن دور الثقافة وسط هذا المستنقع الطافح. أي موقف تقفه المؤسسة الثقافية تجاه الوعي العام الحاصل؟ هل تعمل في النور أم في الظلام، بمعنى: هل تقاوم أم تساوم؟ هل تحاول انقاذ ما يمكن، عبر نشر الوعي والذوق الفني والثقافي عموما والارتقاء به، أم أنها تحقن الواقع المريض بمزيد من أمصال الغيبوبة والتدني في الذوق والحس والسلوك وتغريب المواطن عن نفسه بما تنتجه وما تستعيره وما تشجع عليه من عبث فني متخلف عن العصر وخالٍ من الفكر والمعنى وفيه ما فيه من سوء نية أو شبهة أو وساخة يد؟ هنا أيضا لست معنيا برصد الفجائع والفضائح التي هزت الوسط الثقافي مرارا في تاريخ هذه المؤسسة منذ تسلّمها قبل أكثر من عشرين سنة، وزير الثقافة فاروق حسني، من محرقة تفحّم فيها عشرات من خيرة مسرحيّي مصر، كتاباً ونقاداً وممثلين ومشاهدين متعطشين لفن رفيع، نتيجة الإهمال والاستهانة بأمن المواطن في مكان مغلق وخطِر كالمسرح، إلى فضائح الاختلاس والرشوة من أقرب مساعدي الوزير ممن اختارهم بنفسه من شباب ليسوا في الأصل كفؤاً لمناصبهم، إلى مهانة اعتذار الوزير نفسه لإسرائيل بسبب تصريحات قديمة له تتعلق بحرق كتبهم المترجمة إلى العربية في مصر، وقت خوضه معركة اليونسكو، إلى هزيمته كممثل لمصر في تلك المعركة الانتخابية وتراجعه، بعد رجوعه، عن ما سبق وأعلنه عن عزمه على ترك منصبه كوزير حال عدم حصوله على منصب رئاسة اليونسكو... إلى الكارثة الأخيرة التي عبرت البحار والمحيطات على ألسنة العالم: فضيحة سرقة لوحة أزهار الخشخاش لفان جوخ من متحف محمود خليل بالقاهرة قبل أيام. فضيحة هي، ليس لأن اللوحة سرقت، بل لأنها كان يجب أن تُسرق، طالما أن المتحف لا تعمل كاميراته ولا أجهزة الانذار فيه ولا عناصر الأمن البشرية كانوا في أماكنهم. نسوا فان جوخ وجيرانه الفنانين على الحوائط، ونسوا الوزير، وذهبوا تحت شجرة الخفير ليصلوا الظهر، بينما مشرط اللص يعمل في حواف القماشة فيختفي الخشخاش، تاركاً الإطار الخشبي فارغاً إلا من الصدمة والفضيحة. هو ذات الفراغ الذي أطلق فيه فان جوخ سهمه الوجودي بضغطة على مسدسه المصوب إلى قلبه المسكين الذي كان أكبر من العالم ومن فيه. والمصائب، كما قال شكسبير في هاملت، عندما تأتي لا تجيء فرادى بل في حشود، في اليوم التالي لسرقة اللوحة، وبسبب الهلع والحركة، يسقط تمثال كيوبيد المتروك في العراء والشمس تنخر فيه في حديقة المتحف، فيتحطم أشلاء. فضيحة مزدوجة. يعني فضيحتان في يومين متتاليين، في المكان نفسه الذي يحوي كنوزا من الفن العالمي تعاني ما يعانيه أفقر فرد من أبناء الشعب حفيد الفراعنة.

لست أيضا معنيا بسرد الحكاية، وإن كان مروري عليها هنا ضروريا لطزاجتها وسخونتها ولكونها فضيحة للنظام بكامله وليس فقط للمؤسسة الثقافية التي تخدم النظام بدلا من خدمتها الثقافة كما يجب وكما هو مفترض. وكما أن خلية من شجرة يمكن من خلالها استقراء صفات الشجرة وعمرها وما مر بها من تحولات، يمكن كذلك استقراء الواقع العام لبلد ما من مجرد منظر رجل عادي يمشي في الشارع، أو حائط في المدينة، أو تمثال في ميدان، أو من تفاصيل جريمة ما في ذلك المجتمع. من بين مئات الأمثلة التي يمكن منها استقراء نية المؤسسة الثقافية في عملها الداعم للجهل ولتغييب الوعي وترك الأوضاع على رثاثتها وانحطاطها و"إدخال المثقفين الحظيرة" (كما عبر الوزير الفنان بلسانه متباهياً! من يتباهي بكونه قائد قطيع في حظيرة؟!) أقول، من بين مئات الأمثلة، أذكر واحدا فقط، لاصطدامي به أول ما اصطدمت، أو أول ما صُدمت، في زيارتي الأخيرة للقاهرة قبل شهور: معرض بعنوان "وجوه" لحشد كبير من فناني مصر في أكبر وأهم قاعة رسمية أُوكلت إدارتها لموظف شاب سبق أن تعرفت عليه قبل عامين في زيارة له على نفقة الدولة، كقوميسير بينالي القاهرة، إلى سوق الفن السنوي في مدينة بازل السويسرية حيث أقيم، وراعني ما برهن لي به عن نفسه كجاهل بالفن، متواضع الذائقه، حيث أهّلته الكلية التي تخرج فيها أن يكون تربويا لا فناناً، كما تقول صفته التي تسبق وظيفته. ما صدمني هو بوستر معرض الوجوه ذاك: كانت صورة الموناليزا المعروفة! أعترف بأن دوخة أصابتني، وأعترف بأني لم أتعرف على ملامح بلدي بينما عيني تحاول نفض الأذى الذي علق بها من جراء تلك الموناليزا على ذلك البوستر الكبير الحجم، المطبوع من مال الشعب. سألته فيما بعد منفعلا "أليس عندنا وجوه الفيوم لتأخذ منها واحدا بدلا من تلك الموناليزا الغريبة هنا؟ أليست وجوه الفيوم تاريخنا، وهي أقدم، وأحد رموز مصر التي انبهر بها الغرب لما فيها من عمق وجلال؟"، بعد أن ترنح المسكين ترنح من لا يعرف أصلا ما هي وجوه الفيوم، ابتلع ريقه في سره وأخرج حشرجة تعني "ولماذا ننغلق على أنفسنا؟". الانفتاح يكون على الموناليزا؟ يا للبؤس! أإلى هذا الحضيض بلغ الذوق؟ ألم يعرف هذا الشاب، المختار بعناية من رئيس قطاع الفنون، أو لست متأكدا إن كان من الوزير شخصيا، والمتحكم جزئيا في مسار الفن في مصر، حيث يقرر من له قيمة ومن ليس (بحسابات السمسرة طبعا)، أن فنانا فرنسيا في عشرينيات القرن الفائت قد سخر من تلك الموناليزا برسم شارب فوق ابتسامتها البلهاء، تعبيرا عن إعلان قطيعة مع رموز العالم البرجوازي صانع الحروب والمجازر، وإسقاط القداسة المفتعلة عن وجوهه؟ هذه الحادثة رغم أنها ورقة باهتة في شجرة كبيرة تدعى المؤسسة الثقافية، إلا أنها تستدعي الجذر ونوع الشجرة وصفاتها ونوع التربة المزروعة فيها ومَن تُظلل وأي بطون تنتفخ بثمرها الفج العقيم.

أعرف مبدعين نادري الموهبة في مصر مُعْرَض عنهم من قبل القائمين على المؤسسة الثقافية، فقط لكونهم حقيقيين وذوي قلوب نظيفة نظافة قلب فان جوخ الذي تسبب خشخاشه المسروق في فضيحتهم اليوم بعد موته بمئة عام، بلا قصد منه طبعا. كما أعرف كثيرين من الأجلاف عديمي الموهبة، الموهوبين فقط في التسلق والسرقة والانتحال والادعاء والتبجح، يُنفخون ويُمسّكون المناصب ويُكرمون بالجوائز ويمثلون مصر في المحافل الدولية... وما خفي أعظم. لماذا وكيف ولصالح من؟ الآن وقد تحطم تمثال كيوبيد، وهو، لو استخدمنا لغة الرموز والإحالات، صنم، واختفى الخشخاش، الذي هو باللغة ذاتها، جوهر، بقى الإطار خاويا. خاويا خواء مؤسسة هي فرع في شجرة اسمها البؤس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع