الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحيل اللباد صاحب -كشكول الرسام-

يوسف ليمود

2010 / 9 / 8
الادب والفن


"عندما كنت صغيراً، كنا نسكن بقرب جامع السلطان حسن ، وكان الترام الذي يمر في الشارع الكبير – عندما يدور بجوار الجامع – يصدر صوتاً عظيماً. وكان سائق الترام عندي أعظم وأهم رجل في العالم، لأنه يقود هذا الوحش العملاق المهيب، وظللت أتمنى أن أصبح سائق ترام عندما أكبر. وكبرت ولكني لم أتمكن من أن أكون سائق ترام، بل ولم أستطع حتى أن أتعلم قيادة السيارات، لكني تعلمت الرسم، وأصبحت مجرد رسام". (محيي الدين اللباد)

قبل ثلاثة أعوام كنت في زيارة لصديقة سويسرية من أصل ألماني، تعيش وحدها في بيت كبير ذي حديقة مترامية على سفح إحدى تلال الريف السويسري الهادئ، وكعادتها في كل مرة، وهي سيدة شغوفة بجمع القطع الفنية الصغيرة من أفريقيا، من أقنعة ومنسوجات وأدوات مختلفة، أطلعتني بفرح على "كتابٍ مصوّر جميل جدا لرسام مصري"، مترجما إلى الألمانية وسألتني إن كنت أعرف صاحبه! كانت مفاجأة لي أن أرى "كشكول الرسام" وقد وصل إلى أحد أرفف هذا البيت الريفي في تلك القرية النائية: "طبعا أعرف الرسام مؤلفه، محيي الدين اللباد، أحد رموز فن الكتاب وتصميم الأغلفة، ليس في مصر فقط بل في العالم العربي..." وخانتني ألمانيتي في ترجمة المثل الشعبي المصري "ابن الوز عوام" وأنا أذكر لها، استطرادا، أن ابن صاحب الكتاب، صديق لي، تخرج معي في كلية الفنون الجميلة التي تخرج فيها أبوه سنة 1962 ويعمل في نفس مجال أبيه الذي ترك بصماته، ليس على أغلفة الكتب وتصميمات صفحات الجرائد فحسب، بل على أذهان وخيال أجيال من الأطفال والكبار، عبر لغة البصر وحواشيها من لغة الكلام، فلا عجب أن نجده يعنون كتالوجا له من أربعة أجزاء بكلمة بليغة وموحية: "نظر"، ويضع تحته البيت الشعري: "إنْ عشِقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر".
السبت الفائت، رحل اللباد الأب، عن سبعين عاما، بعد صراع قصير مع المرض، حسب ما صرح اللباد الابن.

تُملي الموهبة الحقيقية على صاحبها وصاياها وهو صبي، فتوجه حواسه إلى كل ما يغذيها. كانت هذه هي الحال مع اللباد صبيا. أخذته صور المفردات البصرية اليومية والصغيرة التي لا ينتبه إليها أحد في الغالب: علبة سجائر، علبة كبريت، بكرة خيط،، زجاجة كوكاكولا، شكل عملة ورقية، مانشيت جريدة، أفيش سينما... مثل هذه المفردات ذات الحس الشعبي، أصبحت زادا لهذا الفنان وجعلته أكثر التصاقا بروح البساطة التي تسير بها الحياة في مصر، وإن كان لا بد من ملاحظة فنية هنا وهي أن مثل هذه المفردات، بالتناول العفوي البسيط الذي ميز أغلفة هذا الفنان وتصميماته عموما، هي أقرب لروح فن البوب العالمي، رغم عدم الذهاب بفنه بعيدا إلى عوالم الفن الخالص، حيث كانت عقيدته الثابتة أن الفن يجب أن يخدم دائما شيئا ما؛ ورغم الروح المحلية المعتزة بمصريتها والتي تفوح منها رائحة الأرض ومعنى الوطن. تلك الروح التي بخّها كبار المبدعين في مصر الستينات وعلى رأسهم صلاح جاهين.

شرط القدرة على مخاطبة الأطفال أن لا يكون المرء قد فقد الطفل داخله. إنه تواصل مع الأنا قبل أن يكون تواصلا مع الآخر. والطفل في أعمال اللباد له مساحة كبيرة، صورةً وكلمةً. أما الصورة فمستقاة من عوالم طفولة الفنان، بشكل خاص، وحياته عموما، بانطباعاتها التي غالبا ما تحيل إلى معنى أو حقبة أو حقيقة، وأما الكلمة فآتية من روح اتسعت بثقافة عميقة، عبرت عن نفسها في حدبها الإنساني على المستقبل الذي يدرك الفنان أنه يتشكل عبر ما امتلأ به إناء الطفل من حسٍ للجميل. هنا كانت روح اللباد من الرهافة والفهم بحيث لم يقع في فجاجة الوعظ، لإدراكه طبيعة الطفل الذي ينفر من كافة أشكال الوصاية الأخلاقية، كان هذا على المستويين: الإبداعي والحياتي، ولنضرب مثلا على هذا الأخير، ما قاله في معرض كلامه عن ابنه الرسام الجرافيكي الموهوب أحمد اللباد: "حرصت على أن أبتعد عنه وأن أتركه يتطور على خطوط من صنع نفسه، فإن سلطة الأب وسلطة (الأسطى) المتمثلة في شخصي كانت كفيلة بأن تعوق تقدمه".

رغم حرصه على متابعة الجديد في عالم الفن الغربي الذي تشرّب أساليبه أكاديميا أثناء دراسته، حاول اللباد أن يعتصر اسفنجة المفردات الشاربة زيت الشرق، آنيّاً أو تاريخيا، إلى أن صارت تشكيلاته البصرية ـ الكتابية أقرب ما تكون إلى إنتاج عصري لمقامات الحريري، المتداخلة كلماتها مع تصاير الواسطي. نلمس هذا في "كشكول الرسام"، وفي كتبه المصورة الأخرى التي تُبرز استخدامه للكتابة العربية بجمالية تصويرية تعيد الذاكرة إلى عصر البوصة والمحبرة ولوح الكتّاب الخشبي وأزمنة كتابة المستندات، حيث كان كل من يعرف الكتابة ذا خط جميل وكأنه خطاط محترف. تلك الأزمنة التي شهد الفنان طرفا منها طفلا، وجّهته والأصلاءَ من جيله، في عملهم، إلى مهمتهم الصعبة في مواجهة أزمنة لاحقة تتدنى في الذوق، وتمعن في التغريب والاغتراب، فكان أن اختار الهمس البصري الحميم، ليحكي عن لحظاته الحميمة والنادرة، في زمن لن يعود، ولكن شيئا من جماله قد يعود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع