الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن المصري في الستينيات والسبعينيات ج 3 .. السوريالية هناك وهنا

يوسف ليمود

2010 / 9 / 23
الادب والفن


دخلت السوريالية مصر في الثلاثينات على يد مجموعة الفنانين المتمردين الذين ارتبطوا في تاريخ الفن المصري باسم الجماعة التي كونوها “الفن والحرية” وهم معروفون وقد أتينا على ذكر بعض مؤسسيها أعلاه، ونضع إلى جانبهم هنا رواد السوريالية المصرية الذين أخذوا وجهةً أخرى من حيث توظيفها في فنهم الذي نبش في الواقع الشعبي برموزه وأساطيره وطقوسه وهم “جماعة الفن المصري المعاصر” الذي أسسها الفيلسوف حسين يوسف أمين، نهاية الأربعينات، مستقطبا مجموعة من شباب الموهوبين الذين اكتشفهم، على رأسهم عبد الهادي الجزار وحامد ندا وسمير رافع… سوف نكتفي منهم بحامد ندا نموذجاً مؤثراً، حيث رحل الجزار في عام 1966 وكان قد تحول في لوحاته في تلك السنوات إلى موضوعات قومية مثل لوحات “الميثاق”، “حفر قناة السويس”، “السد العالي”… الخ. كذلك هجرة سمير رافع إلى فرنسا وانقطاعه النسبي عن التواجد في المنظر التشكيلي لسنوات طويلة. لكن المؤكد أن المدرسة السوريالية في مصر قد عكست الشيء الكثير من روحها على أعمال فنانين يصعب تصنيف عملهم في خانة أو اتجاه أو مدرسة بعينها، وهو ما سنرصده فيمن نأتي على ذكرهم من الفنانين حين الكلام عن جيل الستينات.

ولا بأس هنا من استعراض مفهوم هذه المدرسة الذي انبنت عليه في مهدها في فرنسا حتى نري كيف كانت ممارستها في مصر، بل لنرى تحديدا كيف طوّرها الفنان المصري العظيم حامد ندا، وهي النقطة التي سوف نعود إليها في نهاية هذا البحث حين وصولنا إلى نتائجه.

السوريالية، كما هو معروف، هي النظرية الفنية الوحيدة التي غطست في اللاوعي ووجدت فيه مادتها وعالمها، رغم أن الحسّ السوريالي كان موجوداً، بدرجات متفاوتة، في كثير من المدارس والاتجاهات الفنية منذ رسوم الكهوف حتى اليوم، إذ لا يخلو فن، بل يمكن القول، لا يخلو فعل في الحياة من حسّ غير واع. انبنت السوريالية على اكتشاف فرويد لما سماه “العقل الباطن”، ذلك الكيس الأسود الشبيه بكيس الزبالة، والذي يطفح بأبخرته وتفاعلاته الكيميائية على حركة الكائن عموما وبشكل غير إرادي، خصوصاً في النوم والأحلام، حين تنسحب سلطة العقل الواقف ببندقية الأخلاق على مخزن الرغبات كحارس. في الأحلام تنفتح البوابة وتخرج العفاريت الحبيسة من قماقمها ويبدأ الكونشرتو: آلة الوعي مع أوركسترا اللاوعي. خرجت السوريالية من قلب أوربا في عشرينات القرن العشرين، وتم تجاوزها، كمفهوم في الفن، بعد أن قامت بدورها وأصبحت مرحلة في التاريخ وفي الفن لا تزال تجد من يستفيد منها بشكل أو بآخر، هنا أو هناك، وإن كان يمكن ملاحظة أن فعاليتها هنا (في الفن في العالم العربي)، حتى الآن، أكبر من هناك، وذلك لأسباب متعددة، ربما كان أحد هذه الأسباب هو عدم استجلاء الوعي العربي باطنَه، أي لاوعيه، كما فعل الوعي الغربي الذي مر، اكلينيكياً، بمرحلة استجلاء أو مخاض عكَسته في الفن الحركة السوريالية. هذا يعني أن اللاوعي العربي، الفردي والجمعي على السواء، لا يزال مختمرا بكثير مما يريد أن يطفو على السطحين: الفني والحياتي معا، وإن كان لا فرق كبيرا بين الحقلين. وبما أن كلامنا يصب في النهاية في الفن، فالسؤال الجوهري هو: في أي ماء يصطاد الفنان: الرائق أم العكر؟ من أين يخرج الشكل؟ هل الفن عموماً، والسوريالي بشكل خاص، مجرد طفح للمكبوت، استمناء، نشر الغسيل الداخلي؟ أم أن اشتغالاً واعياً على حقل اللاوعي لازمُُ ُ كي يصل الفنان إلى منطقة الخصوبة في أرضه اللاواعية؟ هذا هو السؤال الذي يربك اللاوعي ويخلخل ثقة الفنان الذي يغرف منه بغير حساب.

حامد ندا .. لاوعي الواقع في وعي الفنان

ترجع أهمية المنجز التصويري للفنان المصري حامد ندا، 1924 – 1990، إلى رفعته الفنية الشاملة: رؤيةً وفكراً وغوصاً في جسد الواقع وسراديبه المظلمة، وتمريرها عبر قنوات الفنان الأكثر اشعاعاً وشفافية. ارتبط اسم حامد ندا وللأبد، بالسوريالية. لا عيب في هذا، لكنه بعض الحقيقة وليس كلها. أما الحقيقة، فإن ندا لم يكن سوريالياً كما يجب للسوريالي، حسب النظرية، أن يكون. لم يغُصْ ندا في لاوعيه الشخصي ليستخرج أشكاله وخيالات كوابته ويفردها على السطح، لكنه فعل العكس تقريبا: غاص في لاوعي الواقع، يصطاد المفارقات والمتناقضات والعشوائيات والهلاميات والطفيليات والانكسارات وكل ما يحمله ذلك الماء الراكد من صور وأشباح وأحلام، لا ليرسمها كما هي، بل ليعيد صياغتها في رموزٍ بلورتها الضرورة الفنية والروح العالية للحظة الإبداعية الفائرة من كيان الفنان. لذا، رغم أنه لا معنى كبيراً للمسميات، بالإمكان أن نطلق علي ندا صفة “السوريالي المعكوس”. إنها الأنا الكبيرة، ولاوعيها الكبير، ذلك الذي تسلل إلى وعي هذا الفنان الحادّ، الحاضر في فعل الرسم وفي صميم الرسم.

كذلك تعود أهمية عمل ندا إلى الوقت الذي جاء فيه (كان صبيا في ثلاثينات القرن الماضي)، حين كانت مصر تفور بمختلف التيارات الفكرية والسياسية الباحثة عن هوية هذه الأرض وانتشالها من الرقاد والركود والتخلف والرواسب التي تراكمت على جسم المجتمع خلال قرون، فأصابته بكل أنواع الرزايا والأمراض والعقائد الغيبية والخرافات والتعاويذ وممارسات السحر وبخور الزار وحكايات الجن والهلاوس… من جسم الخرافة الشعبي هذا ولد ندا ونشأ وشرب من لبنه طفلاً ورَشفه حتى الثمالة. لكنه انتقل في صباه، من بيت والده البسيط في حي القلعة، ليعيش في قصر فخم يمتلكه جده في حي البغالة، وبدأ رحلة تثقيف نفسه بالاطلاع على الفلسفة والفكر والأدب والموسيقا الغربية، إلى جانب اكتشاف الفيلسوف الفنان حسين يوسف أمين لموهبة ندا وهو بعد تلميذ في المدرسة الثانوية، فاحتضنه ووجهه إلى الكنوز الخبيئة في الواقع وفي ذاته لينهل منها في رحلة إبداع طويلة لن توقفها سوى خيانة اللحظة التي رحل فيها.

كان اكتشاف ندا التصويرَ المصري القديم، في بداية الخمسينات، نقلة كبرى في تاريخ إبداعه، إذ يبدو أنه وجد ضالته الفنية، إن لم نقل هويته (هل هوية الفنان إلا نتاجه وإنتاجه نفسه؟). المفارقة هنا أنه بثّ في استلهاماته لذلك التراث الاستاتيكي الرتيب، الذي يتناول غالبا عالم الموت وما بعده، بثّ فيه ديناميكية وصخباً أقرب إلي روح الرقص والموسيقي، هو الذي كان قد بدأ مسيرته الفنية استاتيكياً قريباً من حالة التحنيط، فبدأ مخزونه الواعي وغير الواعي، من طقوسية الواقع وغيبوبته في ممارسات طوطمية وبدائية، يصب أشكالاً وأجساداً تتماس مع، وتذكر برسوم الكهوف، بتحويرات في شكل الجسم الآدمي تذهب بالتعبير إلي أغوار تبتعد عن السريالية كمفهوم بقدر ما تقترب منها كحقيقة ووجود وشعر، فالعازف يصبح هو الآلة الموسيقية ويصبح الموسيقي نفسها، والمرأة هي الإلهة حتحور وهي الغانية وهي الجوهر الذي تتناثر منه وحوله كل تلك الأشلاء الدائخة في نشوة الرقص والحركة.

في كتابة لي سابقة عن ندا قلت: “… فبعض اللوحات تبدو وكأنها إحدى مقابر وادي الملوك وقد ثارت الشخوص والقرابين والجدران والزوايا والسقف والأقواس علي سكونية الموت الطويل ذاك لتعاود الرقص والركض علي تراب أزمنة منسية تتبادل فيها الكائنات والجمادات أدوار بعضها البعض وأعضاء بعضها البعض في دوران محموم هو جوهر الطاقة الحيوية للعالم بعدما تخلصت من أسباب علائقها النفعية الرخيصة ووصلت إلي محطة وراء الخير والشر، فليس عجيبا هنا أن يقف الثور علي البيانو ولا أن يحلم الديك بالمرأة ولا أن يرقص الحمار سكرانا ولا أن يحوم الطاووس حول المرأة ليقبلها ولا أن تعوم السمكة الضفدع في بطن البنت الجميلة ولا أن تنصت القرود خاشعة للربابة ويتجول القط كإله مخمور في درب الهوى ذاك”.

ما أردت أن أوضحه هنا هو الإضافة الذكية التي أسبغها حامد ندا على السوريالية في أعماله، ألا وهي تمرير لاوعي واقعٍ دونيٍ في القنوات الرفيعة الواعية لوعي الفنان، وبالتالي خروج أشكال الأول من مصفاة الثاني وقد غُسلت في نور الوعي وموسيقيته، وهذا مستوى أرقى وأرفع بما لا يقاس من المفهوم الأساسي الذي انبنت عليه السوريالية والذي سبق شرحه أعلاه. فيالها من أعمال امتزجت فيها ذاتية الفنان بذاتية المجتمع، تلك التي تركها لنا هذا الرسام النادر الذي خانه الظلام وحافة السلم الحجري في زلة قدم فرحل بعد شهر في صراع مع قدر أعمى!

يوسف ليمود

يتبع: التعبيرية الاجتماعية مقابل التعبيرية الذاتية
رابطا المادتين السابقتين:
http://www.doroob.com/?p=46581
http://www.doroob.com/?p=47487








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر