الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرفيقة (أم امتاني)

عبدالكريم العبيدي

2010 / 10 / 2
أوراق كتبت في وعن السجن




أكثر ما أكرهه، مذ كنت طفلا صغيرا هو حلول ظهيرة الصيف، ولجوء أسرتي الى القيلولة، وبقائي وحيدا بين أربعة جدران. كنت دائما أنبطح على الأرض وأبدأ برسم أبي وأمي وأشقائي وشقيقاتي وهم يغطون بنوم عميق، وكان كلما استيقظ أبي ووجدني منشغلا بخربشاتي، أبدى امتعاظه مني وردد تساؤله المكرر:"شنو بعيونك ملح متنام!؟"، ولكنني كنت أحسب دقائق الظهيرة دقيقة قاسية بعد اخرى منتظرا حلول "العصرية"، لا لكي أشارك أسرتي احتساء الشاي العراقي المنعنع مع "الجرك" وانما لألقف الخمسة فلوس "يوميتي المحببة" وأهرع صوب العجوز الطيبة، جدتي أم امتاني، بائعة الباقلاء التي كانت تجلس الى جانب شقيقتها العجوز "جلعه" في أقصى الزقاق.
كانت العجوزان تتقاسمان أوجه شبه كثيرة، فكلاهما ترتديان ثوبا أسود، وعباءة سوداء وتلف كل منهما عمامة سوداء حول رأسها المتوشح "بفوطة" سوداء أيضا. كانتا كتلتان سوداوان تفترشان الأرض مع حلول عصر كل يوم وقبالة قدر الباقلاء الكبير.
كنا نتحلق نحن الصغار حول القدر، نتناول طاسات الباقلاء ونحرص على طلب "الزواده" وماء الباقلاء الساخن، ثم نترك أمكنتنا لأطفال آخرين ونبدأ بممارسة ألعابنا الجميلة حتى حلول الظلام.
ذات يوم حصلت على يوميتي الشحيحة عصرا كالعادة وعدوت باتجاه الجدة أم امتاني فلم أجدها، لا هي ولا شقيقتها جلعه فاندهشت وعدت الى البيت حزينا، سألت أمي عن سبب اختفائها فأجابتني ببرود: اذن ذهبت لزيارة ابنها امتاني في السجن.
ولكن من هو امتاني!؟، وماهو السجن!؟. حملت جواب امي الذي بدا وكأنه ليس جوابا وسألت أبي عن الجدة وامتاني والسجن فأجاب: انها تذهب برفقة شقيقتها جلعه الى سجن نقرة السلمان من حين لآخر لأنه شيوعي ومعتقل هناك!.
ازدادت حيرتي وتلبسني الاندهاش من جواب أبي الذي بدا أكثر تعقيدا من جواب أمي بعد أن أضاف عليه "نقرة السلمان والشيوعي"، فاندفعت صوب شقيقي الأكبر لفك ألغاز هذا الطلسم وحل قضية اختفاء الجدة أم امتاني وشقيقتها جلعه.
كان أخي محافظا، غير ميال للسياسة ومخاطرها في ستينيات القرن الماضي، ولذلك بدا متضايقا من أسئلتي والحاحي لكنه لم يجد بد من اجابتي فقال: امتاني شاب طيب ويحمل أخلاق عالية ولكنه انتسب الى حزب سياسي اسمه الحزب الشيوعي العراقي، وهذا الحزب تحاربه الحكومة وتمنعه من ممارسة نشاطاته... "يعني اشلون يا الهي... بابا انت صغير، اترك هذه الأسئلة وانتظر ام امتاني لحين عودتها...".
ولكن أجمل ما قلته وقتها وأثار دهشة أخي وجعل أبي وأمي يطالبانني بغلق فمي وهما يتلفتان يمنة ويسره هو انني عرفت امتاني تماما وشخصت الحزب الشيوعي مبكرا، قلت: "افتهمت، يعني امتاني شيوعي ضد الحرس القومي الأنذال اللي يخطفون البنات ويرتكبون الجرائم"!.
بعد عودة الجدة شعرت بفرح غامر ورحت أحاصرها بأسئلتي المتشابكة عن امتاني ورفاقه المعتقلين معه والحزب الشيوعي وسجن نقرة السلمان، وكانت تجيبني بلهحة جنوبية محببة عن مشاهداتها خلال رحلتها الشهرية للأحياء والقرى والصحراء والسجن وحياة المعتقلين ونضالهم.
كنت أطالبها ببراءة طفل ان تحمل سلامي الى عمو امتاني الذي أوقد في مخيلتي شعلة السياسة من وقت مبكر، وكانت كلما تعود من رحلتها المضنية تشمني وتقبلني وهي تردد:"هاي بوسه وشمه من امتاني حملني ذمه".
وفي عصر يوم لا يشبه صمت تلك الأيام "اليابسة"، تسلل الى حينا رجل يرتدي دشداشة صفراء ويسير ببطء. لمحني فابتسم لي فتوقفت عن اللعب ورحت أتابعه، ولكن جارنا العجوز "الحاج كعيد" خرج عن صمته المعهود وهتف بأعلى صوته:"بويه امتاني، خايبه جعله هوووي، امتناي طلع من السجن".
تناسل الرجال والنساء، الشباب والشابات، العجائز والأطفال، ليتحلقوا حول المناضلة والمكافحة أم امتاني وهي تحضن ولدها البطل وتنغمر معه في أشد اللحظات انفعالا وبكاء، بينما راحت النسوة يزغردن وينثرن الجكليت والحامض حلو، وكان أشد المشاهد اثارة لنا نحن الأطفال هو نثر العجوز جلعه "لربع دينار خرده خمسات" على رأس امتناي وتنافسنا على الحصول على أكثر من قطعة معدنية من ذلك الربع دينار. تلك القطع النقدية الرخيصة التي كانت تحصل عليها الجدة أم امتاني من بيع الباقلاء الينا لتجمعها وتشتري بها ما يسد رمق ولدها الكبير (الرفيق امتاني) طوال فترة اعتقاله التي امتدت لما يقرب من عقد في سجن نقرة السلمان في صحراء السماوة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما اجمل اللحظات
يوسف ألو ( 2010 / 10 / 2 - 12:17 )
بالرغم من بساطة المقالة وسردها بأسلوب بسيط ألا انها حركت مشاعري وبالتأكيد ستحرك مشاعر كل انسان وطني تواق للحرية والديمقراطية ولوطن حر وشعب سعيد حقا انها اجمل اللحظات التي يلتأم بها شمل العائلة عندما يخرج احد ابنائها من سجن حقير ويتخلص من ايدي القتلة والجلادين والفرحة تكون اكبر عندما يلتحق بحزبه ورفاقه الذين هم بأمس الحاجة له ولنضاله .... بوركت ايها الرفيق عبد الكريم العبيدي وبورك حزب العمال والفلاحين وشغيلة الفكر وانشاء الله سيكون حزبنا متألقا ورفاقنا بخير وسلام وشعبنا بكل خير وامان ولامحالة فان الوطن الحر والشعب السعيد امان قريبة التحقيق والمنال .


2 - لا زلنا بانتظار أمتاني
محمد علي محيي الدين ( 2010 / 10 / 3 - 08:26 )
الأستاذ عبد الكريم العبيدي
مقالة رائعة لشخص يستحق الذكر وكنت أتمنى أن تكون أكثر موسوعية في أيراد محطات من حياة هذا المناضل الذي كان أسما على مسمى فمتاني تعني ينتظر ولا زلنا بأنتظار متاني جديد يعيد للماضي ألقه وكبريائه ومثله وؤاه

اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تطالب بتحقيق دولي في المقابر الجماعية بمستشفيا


.. اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي بتهمة الرشوة




.. هل ستطبق دول أوروبية نموذج ترحيل طالبي اللجوء؟ | الأخبار


.. تقرير أممي يبرئ -الأونروا- ويدحض ادعاءات حكومة نتنياهو




.. كيف قارب أبو عبيدة بين عملية رفح وملف الأسرى وصفقة التبادل؟