الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراع العلماني الديني في اسرائيل اسبابه وتجلياته

جعفر هادي حسن

2010 / 10 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


من المعروف أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع مهاجرين ، وقد جاء هؤلاء المهاجرون من خلفيات وبيئات وثقافات مختلفة، يجمعهم جامع واحد هو كونهم يهودا أوهكذا يفترض فيهم. وعلى الرغم من هذا التوصيف الموحد لهم ، فإن الإختلافات والإنقسامات تضرب بأطنابها بينهم. فالمجتمع منقسم أثنيا إلى سفارديم (اليهود الشرقيين) وأشكنازيم (اليهود الغربيين) ومنهم الروس الذين يتميزون اليوم باستقلاليتهم ، وإلى مجموعة كبيرة من اليهود السود ، أكثرهم من الفلاشا ، وقليل منهم من غير الفلاشا من الأفارقة الأمريكيين.
يضاف إلى ذلك مجموعات صغيرة ، لاتدخل ضمن هذه التصنيفات جاءت من أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وغيرهما. والمجتمع الإسرائيلي منقسم سياسيا – بصورة عامة- إلى يمين ويسار، ومن حيث الإلتزام بالشريعة اليهودية إلى متدينين (داتيم)، وغير متدينين و يطلق على هؤلاء علمانيون (حولونيم)، وهو وصف عام يشمل كل من هو غير ملتزم بتطبيق الشريعة اليهودية في إسرائيل ، سواء أكان مؤمنا بإله أم ملحدا. ومنذ البداية لوجود هاتين المجموعتين في فلسطين ثم في إسرائيل ، كانت هناك خلافات بينهما، وبمرور الزمن تطورت هذه الخلافات ، واشتدت واصبحت صراعا حول السيطرة على الحياة العامة ، ومستقبل الدولة وطابعها، وقد أصبح هذا الصراع اليوم صراعا حقيقيا ، تخشاه إسرائيل وتتوجس من عواقبه.
واليهود المتدينون تتوزعهم فرق مختلفة ، إلا أن الحريديم منهم هم الأبرز والأظهر في إسرائيل ، خاصة وأنهم هم المسؤولون عن المؤسسة الدينية (رئاسة الحاخامية). وكنا قد تحدثنا عن الحريديم في فصل سابق. والصراع الذي نقصده حصرا هنا هو بينهم وبين العلمانيين ، إذ أنهم هم وحدهم الذين يرفضون التعايش مع العلمانيين ، بينما بقية الفرق الأخرى من المتدينين ، أقل تشددا مع العلمانيين ، وأكثر قبولا لهم ، وتسامحا معهم. فهم لايمانعون في العيش معهم ، بل والسكن بينهم مثل "الأرثودكس المحدثون" الذين لايمانعون أن يسكن بينهم الاخرون.
وعلى الرغم من أن المجتمع الإسرائيلي يعاني اليوم من عدد من المشاكل ، إلا أن مشكلة الصراع العلماني الديني ، تأتي في المقدمة بعد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وكان هذا الصراع قد بدأ في فلسطين منذ الهجرة المنظمة لاستيطانها ، والتي بدأت بما يسمى بالهجرة الأولى التي قام بها اليهود الروس عام 1882م ،عندما هاجر مجموعة منهم بعد اغتيال القيصر الاسكندر الثاني في عام1881م.وكان هؤلاء من مجموعتين:
المجموعة الأولى تسمى "حبة صهيون" (محبة صهيون) ، والثانية هي مجموعة "بيلو أوالبلويم" (وهي مختصر لعبارة عبرية من التوراة). وكان من المهاجرين في هذه الفترة بعض البولنديين أيضا. والمهاجرون الأوائل من المستوطنين كانوا في غالبيتهم العظمى من الصهيونيين غير المتدينين.
بل إنهم كانوا كارهين لليهودية وتقاليدها ،واعتقدوا أن الصهيونية قد حررتهم من ثقل الشتات واضطهاد الدول الأوربية ، التي كانوا يعيشون بينها وحررتهم أيضا من قيود الحاخامين وسيطرتهم. وقد قال أحد هؤلاء "إن الصفة المميزة للحاخامية الآن ، هي أنها قد تجمدت وانحسرت في زاوية صغيرة ، ويجب أن يعلم الناس بان فترة مملكتها قد انتهت إلى الأبد، وعلى العكس من ذلك تماما فإن الصهيونية تتقدم وتتطور".(1) وقد جاء هؤلاء بهذه العقلية وبهذا التفكير.
وكان اليهود المقيمون في فلسطين على العكس من هؤلاء ، كان أغلبهم من المتدينين الذين جاءوا للسكن في فلسطين لأسباب دينية. إذ أن الحاخامين كانوا يحرمون الهجرة الجماعية إلى فلسطين قبل ظهور المخلص ،حتى لو وافقت الدول كلها . وهناك حاخامون في عصرنا هذا يعتبرون إسرائيل دولة غير شرعية وإقامتها مخالفة لأوامر الرب.
وعندما كثر عدد المستوطنين في العشرينات من القرن الماضي ، أخذوا ينشئون جمعيات اجتماعية لتنظيم شؤونهم ، ومنظمات عمالية للإهتمام بأعمالهم. ولما دعوا المتدينين للإنضمام اليهم رفض هؤلاء الدعوة ، لأن هذه الجمعيات كانت تقوم بأعمال هي في رأيهم مخالفة للشريعة. وكرد فعل على ذلك قام المتدينون ، الذين كانت تقودهم جماعة "أغودات يسرائيل" بانشاء مؤسسات ومدارس خاصة بالمتدينين.
ويعتقد أنه من هذه الفترة بدأت الهوة تتسع بين المجموعتين في فلسطين. وكانت الخلافات تظهر إلى العلن بين فترة وأخرى. وبعد نشوء الدولة ظهرت أسباب أخرى زادت من حدة هذا الصراع وشدته. منها أن الإشراف على قوانين الأحوال الشخصية أنيط بالمؤسسة الدينية، وهي التي سميت فيما بعد برئاسة الحاخامية، التي عن طريقها فقط تكون اجراءات الطلاق والزواج والإرث والدفن وغيرها ، بل حتى تحديد هوية الشخص فيما إذا كان يهوديا أم لا .كما أنها هي المسؤولة عن الإنفاق على الحاخامين والمحاكم والمدارس الدينية (اليشيفوت). وكذلك عن إعطاء اجازات الكشر(الحلال والطاهر). كما أن الحكومة تعفي الكثير من طلاب المدارس الدينية من الخدمة في الجيش ، أو تؤجل خدمتهم بل هي تنفق عليهم وعلى مؤسساتهم الاجتماعية كما ذكرنا سابقا.
وكل هذه عوامل أثرت على طبيعة هذا الصراع وتطوره. وبمرور الزمن وازدياد عدد أفراد الفئتين بالهجرة ، والزيادة الطبيعية ، أخذت مظاهر التوتر تبرز وتظهر بسبب الإحتكاك المتزايد. وبعد احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية عام 1967م،وإنشاء المستوطنات في الأراضي المحتلة ، ازداد هذا التوتر بين الفئتين حيث توسعت مساحة الإحتكاك بينهما بعد أن استوطن الكثير من المجموعتين في مستوطنات الأراضي المحتلة. ويتجلى هذا الصراع اليوم في عدد من المجالات .
في الأحزاب
توجد في إسرائيل أحزاب متعددة كما هو معروف ، والأحزاب الرئيسة هي إما علمانية أو متدينة ، والصراع بينها محتدما منذ سنين ، ونادرا مايماثله صراع آخر في طبيعته وشدته ، وكل منها يحاول ان يكسب مقاعد اكثر في الكنيست لكي يحقق اهدافه. وكانت الاحزاب الدينية اقل مما هي عليه اليوم ، ولكنها كثرت في السنين الاخيرة وازداد عددها ، بسبب زيادة المتدينين المتشددين ،ووجود هذه الأحزاب هو أحد اهم تجليات الصراع العلماني الديني ومظاهره. وقداصبحت الأحزاب الدينية لازمة لكل حكومة اسرائيلية ، حيث تكوٍن جزءا من الإئتلاف فيها، وقد بدأ هذا الوضع منذ عقود وهو مستمر حتى يومنا هذا. ويبدو أن هذا سيستمر مادامت اسرائيل على ماهي عليه اليوم. وكثيرا ماتكون للأحزاب الدينية مطالبها وشروطها وهي إما أن تكون متعلقة بقضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ، أو بقضايا مالية لمؤسساتها الكثيرة أوتكون مطالب دينية تتعلق بتطبيق أحكام الكشروت أو بهوية الشخص وغيرها من القضايا. وهي قبل أن تشارك في الحكومة تشترط ماتريد ، وأحيانا تهدد بالإنسحاب أو تنسحب من الإئتلاف الحكومي بعد المشاركة ، وهو ما حدث أكثر من مرة حيث يحدث ذلك أزمة بل وأحيانا تسقط الحكومة. واكبر هذه الأحزاب الدينية اليوم وأهمها وأكثرها تأثيرا هو حزب شاس وزعيمه الروحي هو الحاخام عوبادياه يوسف الذي لايترك مناسبة إلا وشتم العلمانيين فيها بل والفلسطينيين والعرب عامة وآخر مرة استنزل لعنات الرب عليهم في آب/اغسطس هذه السنة 2010.
وبسبب ظهور الأحزاب الدينية وتأثير المتدينين في المجتمع الإسرائيلي نشأت أحزاب علمانية جديدة كرد فعل على تأثير المتدينين في المجتمع الإسرائيلي وعلى أساس رفض هيمنتهم على الحياة العامة وكان من هذه الأحزاب حزب شينوي(التغيير) المنحل. وكان هذا الحزب قد أنشأه مؤسسه "توم لبد"(الذي توفي قبل بضع سنوات) على أساس محاربة الحريديم ومنع سيطرتهم على شؤون الحياة في إسرائيل.وكان في حملته الإنتخابية قد انتقدهم نقدا لاذعا ، وقال عنهم إنهم أناس مدمرون ويهددون كيان الدولة على المدى البعيد ويبتزون أموالها. كما أنه رفض مايقولونه عن أنفسهم بأنهم هم وحدهم اليهود الحقيقيون وأن غيرهم ليسوا كذلك.وهو أيضا انتقد نظرتهم إلى العلمانيين واعتبارهم غوييم(أجانب). كما قال عنهم إنهم يجوزون خداعنا ويعتبرون عدم الخدمة في الجيش فرضا شرعيا. وفي حينها وعد ناخبيه بأنه سيعلن حرب عصابات عليهم ويوقف الصفقات غير النظيفة التي يقومون بها. وقال بأن اليهودية التي يمثلها زعماء هؤلاء هي يهودية الرقى والتمائم ويهودية التعامل بتقديس الماء (بعض حاخامي اليهود المتدينين يقرأون أدعية وصلوات على الماء بادعاء أنه يكون مقدسا ويشفى به من يستعمله) .وقال كذلك إن هؤلاء يدمرون اليهودية لأنهم يعطونها صورة مضحكة حيث تبدو وكأنها من شعوذة القرون الوسطى.وهو يعتبر نقدهم للصهيونية عارا عليهم . وهوانتقدهم كذلك لعدم ترديدهم النشيد الوطني.ونشر إعلانا آخر في الصحف جاء فيه "إن اليهود الحريديم يقسمون الشعب اليهودي" وذكر الإعلان الطرق التي يقسم بها هؤلاء الناس. فذكر منها الطرق السياسية والإكراه الديني وعدم اعترافهم باليهود الآخرين .وهذا الكلام يعبر عن أفكار العلمانيين بصورة عامة. وعندما كان حزب "شينوي" نشطا كان له أكثر من عشرة نواب في الكنيست كما شارك في الحكومة أيضا حيث كان مؤسسه وزيرا في إحدى الحكومات.وعلى الرغم من اشتراك الأحزاب الدينية مع الأحزاب العلمانية إلا أن النقد المتبادل مستمر.
في الجمعيات
وكان من مظاهر هذا الصراع أن أنشأ العلمانيون منظمات لمحاربة مايسمونه سيطرة اليهود الحريديم على الحياة العامة في اسرائيل ومن هذه المنظمات منظمة عام حفشي (شعب حر) ومنظمة المستهلكين الأحرار وهي منظمة تحارب ماتسميه السيطرة الاقتصادية للحريديم ، وترفض أن تكون إجازة أكل الأطعمة الحلال وغيرها والتي تسمى كشروت عن طريق اليهود الحريديم ، وتطالب الناس بمقاطعة شراء هذه ألأطعمة(2). وهناك أيضا منظمة أخرى اسمها "دعت إمت"(المعرفة الحقيقية) وهذه المنظمة تقوم باصدار نصوص مزيفة لنصوص التوراة والتلمود وغيرهما من الكتب الدينية التي يدرسها طلاب اليشفوت (المدارس الدينية). وهي تبدو لأول وهلة وكأنها هي النصوص المعروفة لديهم ولكن سطورا وعبارات محرفة توضع بينها تحتوي على معلومات تناقض وتفند ما في الكتب التي يقرؤونها ، وتعطي أدلة على بطلانها ولا يكتشف الطالب ذلك إلا بعد أن يكون قد قرأها. وتقوم المنظمة بارسالها إلى عناوين الطلاب التي حصلوا عليها أو وضعها في كتبهم حيث يدخلون خلسة إلى مدارسهم .وأحد مسؤولي هذه الجماعة كان من الحريديم ثم أصبح علمانيا.وهو يقول إن واحدة من أهم المشاكل في إسرائيل هي سيطرة الحريديم التدريجية على الدولة(3).وهناك منظمة أخرى اسمها "منظمة منع سيطرة اليهود الحريديم" ومن هذه المنظمات أيضا منظمة اسمها صوت "الاغلبية الصامتة".(4) ومما تؤكد عليه هو التعددية الدينية والإعترااف ببقية الفرق الدينية اليهودية والإعتراف بالزواج المدني.ولم اعثر إلا على منظمة واحدة تدافع عن الحريديم وترد التهم عنهم اسمها"منوف"(5)
في الجغرافيا
ونقصد بذلك هو محاولة كل مجموعة السكن وحدها في مناطق جغرافية خاصة بها كبعض الأحياء والبلدات والمدن وهناك اليوم صراع بين الفئتين حول هذه وهو صراع ملفت للنظر. وخلال العشرين سنة الماضية كان اكثر من يقوم بذلك هم اليهود الحريديم وهم يؤكدون بانهم يريدون السكن منعزلين لوحدهم ويقولون أن الإنعزال عن الآخرين هو خيارهم ولهم في ذلك أقوال معروفة . فعندما سئل أحد الحريديم لماذا يرفض سكن العلماني معهم كان رده التالي" إنه غير صحي أن يسكن علماني بين الحريديم أو يسكن حريدي بين العلمانيين إنه مثل بيع شقة فيها عيب". وقال أحد زعماء الحريديم أيضا عن سبب انعزاله " ان المجتمع الحديث قد أصبح متطرفا في فسقه وفجوره لذلك من الضروري أن يكون الإنسان متطرفا في سلوكه"وقال رئيس تحرير صحيفة "هامحنه ها حريدي" إن انعزالنا عن اليهود غير المتدينين هو الذي يعطينا قوة".
وقال الحاخام ياعيردريفوس وهو حاخام لمستوطنة "إن اليهود الحقيقيين يرغبون في أن يعيشوا كيهود وليس لهم خيار إلا أن يفصلوا أنفسهم في أماكن منعزلة خاصة بهم.(6)
وبسبب هذه النظرة أصبح بعض الأماكن خاصة بهم مثل حي مئة شعاريم في القدس وغيره من أحياء ، وبمرور الزمن أصبح عدد من البلدات والمدن خاصة بالحريديم لايسكنها غيرهم.
ومن المدن الحريدية مدينة "بني برق "التي يصل عدد سكانها إلى أكثر من مائة واربعين ألفا (في عام 2006م). وكانت هذه المدينة قد أنشأها المستوطنون اليهود من المتدينين والحاخامين عام 1924م وهي تحاذي تل أبيب من الشرق ، وهي تعتبر من المدن الفقيرة في إسرائيل ، وأكثرها كثافة بالسكان. وتتميز هذه المدينة عن غيرها بالحاخامين المشهورين الذين سكنوها من حسيديم وغيرهم. تتميز كذلك باشهر مدرسة دينية وأفضلها وهي مدرسة "بونيفزه". وقد غيرت هذه المدينة اسماء الشوارع التي كانت باسماء صهيونية ، أو لها علاقة بالصهيونية إلى أسماء غير صهيونية. وأحدث ما غير فيها هو اسم شارع هرتزل ، حيث سمي باسم الحاخام اليعازر شاخ ، والذي كان العدو الأشهر للعلمانيين في إسرائيل. ومن النادر أن يرى علم اسرائيلي في هذه البلدة ، إذ هم لايعترفون بالدولة اساسا. وكانت هذه المدينة قد أنشأت أول مخزن تجاري كبير خاص بالنساء فقط. ومن البلدات الخاص بالحريديم بلدة "نتيفوت" ، التي بلغ عدد سكانها أكثر من 26 ألفا في عام 2007م.
ومن البلدات الخاصة بالحريديم بلدة "الداد"وكذلك"بيطار عيليت" التي بلغ عدد سكانها مايقرب من خمسة وثلاثين الفا عام 2007م ويتوقعون لها أن يبلغ عدد سكانها مئة الف بعد بضع سنوات. وهذه المدينة التي أنشأت عام1985م تبعد عن القدس عشرة كليومترات ، ويفتخر سكانها أن بلدتهم للمتدينين فقط. وشعار المدينة هو "مدينة التوراة على تلال يهودا". وكتب هذا الشعارعلى اعلام مرفوعة على اعمدة الكهرباء فيها .(7) ومن هذه البلدات"قريات سفر" ، وهي قد أصبحت بلدة بعد أن كانت مستوطنة، وتقع على حدود الضفة الغربية ، ويسكنها اليوم أكثر من عشرة آلاف مستوطن متدين. وهي بلدة حديثة أنشئت في بداية التسعينات في القرن الماضي وتقع في الشمال الغربي من رام الله ، واكثر أراضيها جاء من الإستيلاء على أرض دير قديس المجاورة لتوسيع مساحتها . وهذا التوسع جاء على أثر اعلان حكومة نتنياهو في تسعينات القرن الماضي بتوسعة عدة مستوطنات ويتوافد المستوطنون المتدينون اليوم على هذه البلدة للسكن فيها. ومن هذه البلدات ، بلدة "مودعين عيليت" ، التي أنشئت في الضفة الغربية، وهي مدينة حديثة أنشئت أيضا في تسعينات القرن الماضي وتقع بين تل أبيب والقدس، وسكانها من المتدينين فقط وقد بلغ عددهم في نهاية عام 2007 أربعين ألفا. ومن هذه "كوخب يعقوب" وهي قد انشئت في الضفة الغربية كمستوطنة ولكنها اليوم آخذة بالتوسع. وهناك ثلاث بلدات على الأقل لليهود الحسيديم من مجموعة اللوبافتش وهي "كفرخبد" و"نحلة هار خبد" و"قريات خبد"(وقريات بالعبرية تعني بلدة أو مدينة). وكانت الأولى قد أنشأها زعيم الحسيديم اللوبافتش الحاخام يوسف شنيرسون عام 1949م وكان الغالبية العظمى من سكانها في البداية من المهاجرين الروس. ويوجد فيها المقر الرئيس لمجموعة اللوبافتش الحسيديم في إسرائيل.واليهود الحسيديم كما هو معروف هم من اليهود الحريديم.
وهناك بعض المدن التي تضم المجموعتين اليوم ، ولكنها على ما يبدو هي في طريقها إلى أن تصبح مدنأ حريدية. ومن هذه المدن مدينة" رامت بيت شمش" (قرب مدينة بيت شمش) والكثير من سكانها (وليس كلهم) من الحريديم ، وبعض النساء منهم يضعن البراقع على وجوههن ، ولهؤلاء مشاكل يومية مع الذين أقل تدينا منهم. ومن هذه بلدة"يفنئيل" التي تقع جنوب غرب بحيرة طبرية ، وهي من البلدات الصغيرة الحجم. وكان عدد نفوسها عام 2006م ثلاثة الاف. وقد بدأ الصراع بين المجموعتين عندما كثر عدد اليهود الحريديم فيها. وكان رئيس بلديتها العلماني قد قال،إنهم (الحريديم) إذا حاولوا أن يسيطروا على أمورنا فإن شيئا خطيرا سيحدث لأن العلمانيين الان في "يفنئيل" غاضبون جدا وإن على الحكومة أن تحلها(مشكلة الصراع) الآن لأن الوضع خرج من أيدينا" .(8) ومنها "قريات شالوم" التي يدور فيها اليوم صراع ثقافي شديد .
واليوم يقوم الحريديم بالإستعدادات لبناء مدينة في شمال إسرائيل بين المدن العربية ، لمئة وخمسين ألف شخص ، ويعارض العلمانيون في المنطقة خطة بناء المدينة ، وكذلك العرب وقدموا الكثير من الشكاوى ضدها. وإذا تم بناء هذه المدينة ، فإنها ستكون أول مدينة حريدية شمال إسرائيل(9). ويبدو لي أن مدينة القدس ستصبح في السنوات القليلة القادمة من مدن الحريديم ، بل إن العلمانيين يؤكدون ذلك. فإضافة إلى حي مئه شعاريم الخاص بهم هناك مستوطنة "رامت شلومو" ، وكذلك "بيت واغن" ، التي قد تصبح جزءا مما يسمى القدس الكبرى. وهم اليوم يحاولون السكن في القدس في "قريات يوبل" وهي منطقة علمانية ، ولكن العلمانيين يتصدون لهم ، حيث تحدث المعارك بين فترة وأخرى .وكذلك يتصدى العلمانيون للحريديم في منطقة "رامت أبيب" العلمانية التي تقع شمال تل أبيب.(10)
ومن يدخل مدن الحريديم فكأنه يدخل عالما آخر يختلف عن عالم المدن العلمانية مثل تل أبيب مثلا. فلباس الناس يختلف وطعامهم يختلف وحتى سلوكهم ، بل حتى اللغة العبرية التي يتكلمونها ، وحتى طبيعة المدينة نفسها التي تتميز بكنسها الكثيرة ومدارسها الدينية وحماماتها الشرعية الظاهرة للعيان.
وكما يفضل الحريديم السكن وحدهم ، فإن العلمانيين أيضا يفضلون السكن لوحدهم وتقول إحدى النساء من العلمانيين من سكان مدينة "مدعين" "انا سعيدة جدا إذ ليس في هذه المدينة حريديم ، واتمنى ان لايكون هناك في المستقبل" ، والكثير من سكان هذه المدينة قالوا إنهم اضطروا لترك مدينة القدس بسبب الحريديم. ويبدو أنه ستظهر في المستقبل مدن حريدية أخرى ، ففي كل سنة يغادر آلاف الحريديم مدينة بني برق ، وأحياء مثل مئة شعاريم يبحثون عن أماكن لهم يسكنون فيها. وكانت وزارة الإسكان شكلت لجنة عام 1999م جاء في تقريرها أن الحريديم يحتاجون إلى خمسة آلاف وحدة سكنية في السنة(11). وفي المدن التي مازالت تعيش فيها المجموعتان سوية فإن الخلافات فيها لا تتوقف. ومن أسباب النزاع إن الحريديم لايريدون أن تسير السيارات في يوم السبت ، لأن استعمال السيارة يوم السبت في عقيدتهم من المحرمات بينما العلماني لايمانع في ذلك والحريدي لايريد أن يرى النساء وهن في لباس يعتبر في نظره غير محتشم ، وكذلك هو يريد بناء كنيس قريب ، كي يكون الأمر سهلا عليهم للذهاب له والصلاة فيه مشيا على الأقدام في يوم السبت إلى غير ذلك
في السلوك
يختلف اليهودي العلماني عن اليهودي الحريدي في السلوك العام كثيرا مثل المظهر، فمظهر الحريديم رجالا ونساء يختلف عن مظهر العلمانيين. فالحريديم مثلا لايحلقون لحاهم وهم يلتزمون بذلك ولهم ضفائر على جانبي الرأس وكذلك مايلبسه الحريدي والمرأة الحريدية وقد تحدثنا عن ذلك في فصل مستقل. والعلمانيون لايلتزمون بلباس معين وكثيرا ماتكون المرأة العلمانية غير محتشمة في نظر الحريديم ، وهؤلاء ليس فقط لايجلسون مع غير زوجاتهم والنساء المحارم ، بل هم يغضبون أن يجلس العلمانيون مع نساء أجنبيات. وأية امرأة تحاول أن تدخل مناطقهم لسبب أو لآخر ويعتبرونها غير محتشمة ، كأن تكون لابسة "بنطالا" مثلا فإنها يعتدى عليها.
ومن الأمور التي تجعل الإختلاف في السلوك واضحا ، هو قضية الإلتزام بيوم السبت. فالعلماني مثلا لايلتزم بمحرمات يوم السبت ، التي يلتزم بها الحريدي ، فهو يسوق سيارته فيه ويفتح دكانه ومقهاه ويذهب إلى السينما أو المسرح ، إلى غير ذلك من أعمال بينما يحرم على الحريدي أن يقوم بذلك. كما أنه لايلتزم بقضايا أخرى كثيرة كتناول الطعام غير الشرعي في نظر الحريديم. وإذا اعتقد الحريديم ، أن هناك تجاوزا على الدين كأن تنقب مؤسسة الآثار في مقابر يهودية قديمة ، أو لاتغلق الحكومة شارعا معينا في يوم السبت ، فإنهم يتظاهرون بأعداد كبيرة ، وأصبح تظاهر هؤلاء ظاهرة في إسرائيل معروفة.. كما أنهم يرفضون قوانين الدولة وطريقة الحكم الديموقراطي وكل ما يتضمن من حقوق مدنية وقوانين أخرى تتعارض وبشكل حقيقي مع شريعة التوراة والتلمود.
فهم يعتبرون الديمقراطية شرا ومرضا ، وقال الحاخام اليعازر شاخ عن الديمقراطية "إنها مرض عصي على العلاج ، إنه مرض خطير يدمر الجسم والروح". ويذكر الصحفي المعروف شحر ايلان ان ثلثي الحريديم يرفضون الديمقراطية ويفضلون الحاخامين الذين يحكمون بشريعة التوراة وأن 90% يعادون الديمقراطية ومؤسساتها مثل المحاكم والكنيست والجيش إلى غير ذلك(12) وهم يعتبرون التوراة قانونهم الوحيد وقدعبر عن ذلك الحاخام حاييم بدراس، وهو عضو محكمة دينية في تل أبيب، حين قال "إن هناك شيئا واحداً يؤثر في حياتي وهو التوراة، وعدا عن هذا فليس هناك شيء آخر في العالم يحكمني. ان التوراة وصلتنا من جبل سيناء ، وليس من الكنيست وفجأة ظهر جيل واخترع هذا الشيء الذي يقال له الكنيست حيث يجلس مجموعة من المهرجين في حفلة ويشرعون القوانين."(13).
ويبدو أنه بسبب عدم اعترافهم بالديمقراطية ومؤسساتها فإنهم يقومون بالتزوير في الإنتخابات ، لأنهم لايعتقدون بأن ذلك شيئا غير صحيح وغير أخلاقي ، لأن المهم عندهم والصحيح ، هو تحقيق الفائدة لهم لأنهم أحق من غيرهم كما يعتقدون. ويعتقد اليهود الحريديم ان البلد لهم وحدهم وعلى العلمانيين ان يغادروه ويتركونه لهم. وهذا ما يؤكدون عليه في صحفهم فقد ذكر اسرائيل فريدمان وهو حريدي في احدى مقالاته يخاطب العلمانيين بقوله" اخرجوا من هنا... نقولها لكم بشكل أخوي اخرجوا من هنا فان الإجرام الأمريكي سيستوعب جرائم العلمانيين الشباب الذين يشربون الخمور والمدمنين على المخدرات والذين يضعون أقراطا في آذانهم . إن هؤلاء مصاصو دماء يمصون دماءنا وأنهم يتجرأون بالعيش على أرضنا."(14).
وكثيرا ما يصف الحريديم العلمانيين بأنهم نازيون جدد فعندما قامت منظمة "حُقا ليسرائيل" العلمانية بوضع اعلان في الصحف قالت فيه "في (مظاهرة) يوم السبت سوف نوقف الحريديم عند حدهم" كتبت صحيفة "هاحوماه" الحريدية إن ما اعلنه النازيون اليهود عن إيقاف الحريديم هو نسخة نازية جديدة من كتاب "كفاحي"(كتاب هتلر).(15).
في نقد الرموز والشخصيات
يدأب الحريديم على نقد الشخصيات والرموز العلمانية في الجيش والمحكمة العليا والسياسة والثقافة وغيرها .
فهم يعتبرون المحكمة العليا من رموز العلمانية المهمة التي تعارض قوانينها قوانين التوراة.ولذلك هم يهاجمونها دائما وظلوا لسنوات يهاجمون رئيسها الأسبق أهرون باراك والذي وصفوه بانه من اخطر الاعداء الذين واجههم الحريديم. وقد وصفه السكرتير العام للحزب الحريدي "دغل هاتوراه" (علم التوراة) بأنه عدو الشعب اليهودي.(16). وجاء في مقالة لهم عن اعضاء المحكمة العليا "انتم اعداؤنا وانتم اعداء الشعب اليهودي "وقال وزير الداخلية الأسبق الياهو سوسيا وهو من حزب شاس "إذا بقيت المحكمة العليا تستهين بشؤوننا فستكون هناك حرب". وقد نشر رسم كاريكتير في الصحف الإسرائيلية يمثل رئيس الحاخامين السفارديم الأسبق يوسف عوبادياه وهو يرفع ساطور كبيرة يريد أن يذبح بها رئيس المحكمة اهارون باراك.(17)
وهم ينتقدون السياسيين العلمانيين كشمعون بيريز واسحق رابين. وقد كتبت صحيفة هاشفوع (الأسبوع) قبل اغتيال رابين بوقت قصير مقالة جاء فيها "إنه سيأتي اليوم الذي سيجلب اليهود فيه رابين وبيريز إلى قفص الإتهام في المحكمة وسيخيران بين خيارين اثنين فقط ، إما حبل الإعدام او مستشفى المجانين. إن هذين الشريرين إما أنهما أصبحا مجنونين أو أنهما خائنان حقيقيان .إن رابين وبيرس قد ضمنا مكانهما في الذاكرة اليهودية كاسوأ شريرين.وهما يشبهان المرتدين أو اليهود الذين كانوا يخدمون النازية.(18)
كما وصف الحاخام عوبادياه يوسف إيهود باراك عندما كان رئيسا للوزراء بأنه عدو اسرائيل.(19) وهاجموا شولاميت الوني التي كانت وزيرة في حكومة رابين في تسعينات القرن الماضي هجوما عنيفا وهي كانت مؤسسة حزب "راتز"(حزب حقوق المواطنين) الذي انضم فيما بعد إلى حزب ميرتس العلماني. وشولاميت الوني هي من المعارضين الأشداء لسيطرة الحريديم ودورهم.وكانت قد قالت"إن اليهود المتدينين يغيرون اسرائيل إلى فاتيكان للشعب اليهودي وهم يريدوننا أن نعيش طبقا للتقاليد والشريعة اليهودية حيث تكون هناك تفرقة ضد المرأة والأقليات. وكل من هو ليس بيهودي يعامل مواطنا من الدرجة الثانية، ولايمكننا أن نوافق على ذلك .وقد أجبرالحريديم اسحق رابين على نقلها من وزارة التربية وهددوا باستقالة أحزابهم من وزارته في حينها بسبب تصريحاتها وكانت قد اضطرت حينئذ للاعتذارفي رسالة ارسلتها الى الحاخام يوسف عوبادياه وقد انتقدها العلمانيون على اعتذارها.
.ومن هذه الأمثلة كذلك ماحدث عام 1998م حيث اعلن أن مؤسسة "يد وشم" (التي أسست لذكرى المحرقة) قررت أن تمنح جائزة "سوسمن" للفن (وهي جائزة تخصصها هذه المؤسسة " لذكرى المذبحة وقدرها خمسة الاف دولار وتمنح للفنانين الذين يعالجون قضية المذبحة بشكل مؤثر) للنحات إيغال توماركن وهو من أصل الماني هاجر إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية. وهو نحات شهير ليس في إسرائيل بل خارجها أيضا وله الكثير من النصب والتماثيل في إسرائيل وفي بلدان غيرها ترتبط باليهود والمذبحة. ووضع من أعماله نصب تذكاري في أشهر ميدان في تل أبيب الذي سمي فيما بعد ب"ميدان رابين".وهو في الوقت نفسه معروف بنقده لليهود الحريديم وتأثيرهم على المجتمع الإسرائيلي. ولذلك عندما علم هؤلاء بمنحه جائزة "سوسمن" ثارت ثائرتهم وأعلنوا عن غضبهم على القرار وطالبوا بسحب الجائزة . ومما استشهدت به صحيفة اليهود الحريديم"يتد نئمان" من أقواله أنه قال في مقابلة عام 1989م"عندما يرى الإنسان اليهود الحريديم بقبعاتهم السود وضفائرهم المتدلية ولباسهم يمكنه أن يعرف سبب حدوث الهولوكوست ولماذا لا يحب الناس اليهود". وعلقت الصحيفة على ذلك إن أي شخص يقول ذلك في المانيا فإننا نسميه نازيا"وهو أيضا عارض بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقال"إنني أهاجمهم بسبب المستوطنات وهم قد قتلوا العملية السلمية وقتلونا معها". وقال ويقولون "إني استعملت المذبحة كوسيلة سياسية لكنهم هم أيضا استعملوها كوسيلة سياسية" وبعد أخذ ورد خضعت لجنة الجائزة للضغط الذي مورس عليها من هؤلاءوسحبت الجائزة. وبررت اللجنة ذلك في حينها أنها لم تكن تعلم بماقاله توماركن وأن الآلاف من اليهود المتدينين قد اتصلوا باللجنة يحتجون على منح الجائزة.وقال أحد أعضاء اللجنة" نحن الذين نجونا من معسكرات الموت لا يمكننا أن نتحمل ما قاله واعتقد أن ماقاله يتسم بالغباء وكان عليه أن يعتذر ولكنه لم يقم بذلك."
واتهم توماركن المحتجين بالكذب وقال"إن هؤلاء إذا أرادوا أن يعدموك فإنهم يتمكنون من ذلك.".وفي هذه السنة نفسها حاول الحريديم حجب الجائزة عن الروائي المعروف "عاموس عوز" الذي رشح في العام نفسه لجائزة اسرائيل للأدب. وهذه الجائزة تمنحها اسرائيل سنويا في أكثر من موضوع. وما أن أعلن عن ترشيحه حتى نبش له الحريديم مقالة له كان قد نشرهاعام 1989م وهي كانت أصلا محاضرة القاها على اعضاء "حركة السلام الآن" انتقد فيها المستوطنين نقدا شديدا. وقال"ان هؤلاء أناس ممسوخون وبلداء وهم أصحاب اعتقاد ظهر من زاوية ضبابية من اليهودية في الفترة الأخيرة ، واصحاب معتقد مسيحاني قاس وهم يهددون كل عزيز علينا ومقدس لنا". وأخذ الأرثودكس يتحدثون ويكتبون ضده وشددوا مطالبتهم على عدم منحه الجائزة ولكنه في النهاية حصل عليها. وهم بهجومهم على هؤلاء وأمثالهم يريدون إيقاف البروزالإجتماعي للعلمانيين والتقليل من أهميتهم في المجتمع وفي عيون الناس كي لايكون لهم تأثير على عامة الناس خاصة عند أتباعهم. والعلمانيون من جانبهم ينتقدون زعماء الحريديم نقدا قاسيا وكثيرا ماتكون للحاخام عوبادياه يوسف حصة كبيرة من هذا النقد. فهم يصفونه بأنه حمار يحمل اسفار( "سفر" بالعبرية تعني كتابا).(20) ويرسمونه وهو يضع سبابته عميقا في انفه ، لانه قال في إحدى مواعظه السبتية أنه لايجوز لليهودي أن يعبث بأنفه يوم السبت خشية أن يزيل شعرة منه ويكون من الأعمال الممنوعة في يوم السبت.بينما يراه أتباعه من الحريديم أعلم الحاخامين الموجودين وأفضلهم على الإطلاق ويطلقون عليه "ماران".


في الثقافة
وسأذكر هنا جانبا محدودا من جوانب الثقافة كتأليف الكتب والروايات والمسرحيات لنقد الجانب الآخر. ولكن أكثر مايكون هذا الإنتاج من قبل العلمانيين ضد الحريديم ، فمنذ السبعينات ألفت أكثر من ثلاثين مسرحية وعدد من الروايات كلها في نقد الحريديم، وظهر سيل الكتب عن اليهود الحريديم في بداية التسعينات ، بعد أن أخذت الأحزاب الحريدية تقوى وتؤثر . وكان من أوائل هذه الكتب كتاب للصحفي امنون ليفي عنوانه "الحريديم" نشر عام 1990م ، وأصبح الكتاب في حينه من أكثر الكتب مبيعا. والكتاب فيه نقد شديد للحريديم وسلوكهم ، ليس فقط نحو العلمانيين بل عن سلوكهم بين فئاتهم.(21) وقد أعطى هذا الكتاب لمؤلفه شهرة واسعة في إسرائيل ، ومنذ صدوره أصبح مؤلفه مشهورا يدعى كثيرا للتعليق على موضوع العلاقات العلمانية الدينية..
ومن هذه الكتب كتاب بعنوان "حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام" وقد نشرته إحدى الجمعيات العلمانية عام 1999م.ومن الكتب الحديثة العهد أيضا كتاب اسرائيل شاحاك(الذي توفي عام 2001م) ونورتن مزفنسكي عن الأصولية اليهودية في اسرائيل. وكان الكتاب قد صدر في نهاية القرن الماضي. والكتاب كله يتضمن نقدا قويا للاصولية اليهودية ، وبيان خطورتها على الشعب الإسرائيلي ومستقبل اسرائيل كما يراها المؤلفان. ويتسم الكتاب بأصالته وتعدد مصادره اليهودية الأصلية في العبرية والآرامية ، إضافة إلى اللغات الأخرى. وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب إلا أنه مساهمة كبيرة في كشف قضايا كثيرة عن الأصولية اليهودية في اسرائيل ودورها في الحياة العامة وتاثيرها عليها. وتأتي اهمية الكتاب أيضا من أن المؤلفين مطلعين بعمق على المجتمع اليهودي والتراث العبري.
ومن الكتب التي اصبحت اكثر مبيعا كتاب صدرنهاية القرن الماضي أيضا باللغة العبرية بقلم سفي رتشلفسكي وعنوانه"حمور شل مشيح" "حمار المسيح" وهو كتاب ضخم يضم خمسمئة صفحة.وكان عند صدوره في إسرائيل من أكثر الكتب مبيعا لفترة من الزمن وهو أمر غير معروف لكتاب بهذا الحجم. كما أنه نوقش وكتبت عنه مراجعات كثيرة لفترة طويلة واشتهر مؤلفه شهرة واسعة في اسرائيل. ويتتبع فيه المؤلف تاريخ نظرة اليهود المتدينين الى العلمانيين من موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر وحتى رئيس الحاخامين الأسبق في فلسطين الحاخام ابراهام كوك في العصر الحاضر.وهو يستدل في كتابه على أن هناك كرها متجذرا في نفسية المتدينين (الحريديم) للعلمانيين وحقدا عليهم ، وخاصة لليساريين منهم واعتبارهم ممثلون الشر. ويقول إنه ليس مصادفة أن يقتل اسحق رابين على يد متدين كما أن المتدينين ، ولفترة طويلة قبلوا العلمانيين على أنهم فقط خدم لهم يحضِرون لظهور المسيح المخلص. وطبقا لما وصفهم أحد الحاخامين المعروفين فإنهم حمير المسيح (في بعض الروايات اليهودية أن المسيح المخلص يأتي راكبا على حمار). ويقول المؤلف أيضا إن العلمانيين ينظر لهم من قبل المتدينين على أنهم حيوانات تخدمهم ، فهم يبنون المستشفيات ويحاربون ويحرثون الأرض من أجلهم إلى غير ذلك.ولأن المتدينين أصبحوا أقوياء الآن فإنهم لا يخشون من القول بانهم في يوم ما سيتخلصون من العلمانيين المتعبين المسنين الذين هم حميرلهم في إسرائيل. ولشدة قسوة الكتاب في نقده كانت هناك ردود كثيرة عليه من المتدينين ولكن العلمانيين فرحوا بصدوره حتى أن الشاعر المعروف ناثان زاخ قال "إن هذا الكتاب يجب أن يوضع في كل مكتبة".
.ومن هذه الكتب كتاب بعنوان "اسود على أبيض:نظرة عن قرب لعالم الحريديم". ومؤلف هذا الكتاب كما كتب عليه هو حاييم ابلباوم وهو اسم مستعار لأن المؤلف خشي أن يضع اسمه الحقيقي عليه. وهويقول "إن هذا الكتاب هو واحد من سلسة كتب سأكتبها والتي ستناقش التاثير السياسي والاجتماعي على البلد تحت سيطرة الاكثرية من الحريديم". وهو يرى أن العلمانيين مهددون من الحريديم وأن الحريديم الأشكنازيم في عام 2020 سيكونون الأغلبية ويقول أيضا "ان الكتب التي سيصدرها ستناقش قضايا مهمة ستظهر في بلد يكون دستوره الوصايا العشر وقوانينه من كتاب شلحان عاروخ. (22) ( كتاب في الفقه اليهودي الأورثودكسي من القرن السادس عشر). ومن هذه الكتب كتاب بعنوان"الشيطان يخرج من الظلام: قصص من التحريد" كتبه والدان كان ابنهما قد تحول من علماني إلى حريدي. ويضم الكتاب قصصا مؤثرة عن تأثير الظاهرة على العوائل. كما كتب ابن عن أبيه الحريدي كتابا عنوانه "صمت الحريديم" ويستعرض في الكتاب كيف كان أبوه الحريدي يتحرش بالأولاد الصغار.(23) وهذه القضية اليوم تؤرق الحريديم وتفزعهم حيث أخذت تظهر حالات بين فترة وأخرى يتهم فيها حاخامون معروفون بهذه التهمة وهي اليوم موضع أخذ ورد بينهم. ومنذ سنين تعرض مسرحية الأديب الفرنسي مولير (ت1673م)Tartuffe (التي تعني المنافق بالإنجليزية والفرنسية خاصة من يتظاهر بالدين .وأنا أعربها بكلمة طرطوف) وهي مسرحية مشهورة ومعروفة وقد تبناها المسرحيون الإسرائيليون العلمانيون لنقد الحريديم حيث يظهرونهم منافقين يتظاهرون بالدين ويبطنون غيره. إضافة إلى الكتب هناك الكثير من المقالات التي يكتبها صحفيون واكاديميون معروفون ينتقدون اليهود الحريديم وكثيرا ما يصورونهم بصور كاركتيرية تعبرعن احتقارهم لهم ورفضهم لسلوكهم وسنذكر هذا تاليا .
في الإعلام
وساحة هذه الحرب غالبا ما تكون الصحف والمجلات ولكنها ايضا تتمثل في الراديو والتلفزيون وهي حرب تشن بقساوة من قبل الجانبين.وكل شريحة لها صحفها التي تنطق باسمها وتدافع عن أفكارها ومواقفها ورؤاها. ولايعرف الناس أن المتدينين اليهود عندهم صحف كثيرة منها صحيفة "هانقودها" وصحيفة "يتد نئمان" و"هاموديعاه" "هاتصوفه" و"داتي درومي" و"ماكور ريشون".أما العلمانيون فلهم صحف كثيرة ومن أشهر هذه الصحف العلمانية هي الصحف الوطنية مثل صحيفة "هآرتص" و"يدعوت أحرونوت" وغيرهما من الصحف الأخرى ، كما أن هناك أيضا أكثر من صحيفة روسية للمهاجرين الروس لها اتجاه علماني.
ويصور العلمانيون الحريديم في صحفهم على انهم طفيليون وكسالى ويبالغون في الجنس وطماعون ومستغلون ومدَعون للدين وعشائريون ومهرجون بدائيون ومراؤون ومتخلفون. وتمثلهم هذه الصحف على أنهم طفيليون ومخلوقات لها انوف معقوفة قبيحة ومصاصو دماء وباحثون عن السلطة يركضون وراء النساء لاغتصابهن ويفجرون قنابل ضد العلمانيين. وأنهم يمنعون ابناءهم من استعمال التكنولوجيا الحديثة .وبعض عناوين صحف هؤلاء تعطي هذا الانطباع . فمثلا زعيم "البلز" الحسيديم يقول "إن الكومبيوتر يحول الاطفال الى حيوانات مفترسة" وعنوان آخر يقول "لايجوز استعمال التلفون النقال في الحمامات".كما تنشر عناوين ساخرة مثل: طبقا للحاخام عوبادياه يوسف ان "الايس كريم" ليس جزءا من وجبة الطعام (أي لايحتاج إلى قراءة البركات) ، وعنوان آخر يقول طبقا للحاخام عوبادياه يوسف ان المراة التي لا تعرف الطبخ هي إمرأة معوقة. ونشرت صحيفة يديعوت احرونوت صورة كبيرة لحريدي يضع اسطوانة مدمجة في أحد ثقوب حائط المبكى ، وكُتب تعليق ساخر على الصورة أوتصورهم وأمامهم اكوام من الاوراق المالية والنقدية وهم يعدونها بفرح غامر وسعادة لامتناهية.
وقد جمع شاي هروفيتش مسؤول منظمة "منوف" التي تنشط ضد التشهير بالحريديم الآلاف من هذه النماذج . وكان دان كرمان وهو رسام كاركتير معروف اراد ان ينشر مجموعة منها في كتاب بعنوان من هو اليهودي ولكن الحكومة منعت الكتاب من النشر (24) ، ربما كي لايتسبب بايذاء الامن الإجتماعي العام. ومعروف بين الاسرائيليين ان الحريديم يطلق عليهم سود بسبب لباسهم وعندما يتغير اليهودي من حالته العلمانية ويصبح حريديا يقولون عنه إنه اصبح اسود.
واليهود الحريديم من جانبهم لايتوقفون عن نقد العلمانيين والتشهير بهم في إعلامهم وهم دائما يطلقون على الشخص العلماني بانه غير يهودي وفاقد الهوية بل ويطلقون عليه صفة نازي. وغدت هذه الصفة تتكرر بكثرة حتى أنها اصبحت لاتثير في الشخص مايثيره معناها الأصلي بين اليهود.وهم يلتقطون حالات القتل التي يقوم بها العلمانيون وقضايا المخدرات والإدمان على الكحول على أنها من خصائص العلمانيين. ويرى ديفد البويم الذي قام بمسح لصحف الحريديم أن هذه الصحف تبالغ بالقضايا الهامشية عند العلمانيين وتذكر عنها أخباراً غير حقيقية ، وتستعمل مصطلحات تحقيرية ضدهم وتظهر مايقومون به على أنه شيئ في طبيعة هؤلاء.ومن جانب آخر تتميز صحف الحريديم بالرقابة الشديدة من قبل الحاخامين. وهناك لجنة خاصة تقوم بهذه الرقابة ، وبسببها فإن لغتها تتحاشى استعمال عبارات وكلمات معينة مثل كلمة الأيدز والتلفزيون وعبارة الصليب الأحمر وغير ذلك. ويقول البويم إن حرية الصحافة مفهوم غير معروف في صحافة الحريديم كما ان المحررين كما يقول لهم مفهوم آخر للحرية وهو" إن أتباعنا لهم حق عدم معرفة اشياء معينة" (25)
في التربية
ومن تجليات هذا الصراع الذي لايقل حدة وقوة عن الصراعات الأخرى
الأخرى هو الصراع التربوي. ويبدو هذا واضحا في مناهج المدارس التي
يدرسها طلاب كل مجموعة. فدراسة العلمانيين تتبع الطريقة المعروفة في الدول الأخرى في دراسة العلوم والاداب ولكن الحريديم الذين تسمح
بإنشاء مدارسهم الخاصة بهم، يركزون كثيرا في مناهجهم على الجانب
الديني وهي الحصة الأكبر في هذه المناهج ، وهي تزيد كثيرا على الحد
الأدنى الذي تطلبه الحكومة من المدارس عامة. وتدرس مدارس الحريديم
القليل جدا من العلوم الحديثة كما ذكرنا سابقا. ويرى العلمانيون أن تلاميذ
هذه المدارس يدرسون موضوعات تشجع على التعصب الديني واحتقار العلوم اوالتفكير العقلاني ،وأن التعليم فيها ليس تعليما حقيقيا بالمعنى
المعروف الذي يعني بمفهومه العام فتح عالم جديد من المعرفة امام التلميذ
بل إن المعلمين يحشون أدمغة التلاميذ بأفكار دينية ثابتة لايحيدون عنها
مأخوذة أساسا من التلمود.
ويضيف هؤلاء إن مناهج هذه المدارس هي مناهج شريرة ومدمرة
للإنسان فهي مثلا تدرس أن المرأة مخلوق نجس ، وأنها ليست بمستوى
الرجل وهي أقل منه درجة وأدنى منه مرتبة ، وتدرس أن العرب هم بشر
من الدرجة الثانية ، وأن الأديان الأخرى لاتستحق الإحترام وأن مناهج هؤلاء هي غالبا لعنة على الحرية الإنسانية والديمقراطية الإسرائيلية(26)


يضاف إلى ذلك أن الشاب العلماني يدخل الجيش وكذلك الشابة ، والغالبية
العظمى من الشباب الحريديم لايخدمون في الجيش ، ومعروف أن
للجيش تأثيرا كبيرا على عقلية الشباب ونفسيتهم وهذا بدوره يؤثر على
نظرة هؤلاء لأنفسهم وللآخرين.
وقد ذكرت صحيفة "يدعوت احرونوت" ان بحثاً صدر من جامعة حيفا
يؤكد أن الطلاب الذين يدرسون في المدارس العلمانية يعتبرون
أنفسهم إسرائيليين لايهوداً بينما طلاب مدارس المتدينين يعتبرون أنفسهم
يهودا أولا .وهذا التصنيف يتعلق بقضية الهوية وهو موضوع يناقش اليوم
كثيرا بين يهود اسرائيل ( وسنذكر هذا بعد قليل.)
ومن نتائج اختلاف مناهج التربية أن ظهر اختلاف في استعمال اللغة العبرية وهذه نتيجة طبيعية للتربية التي تلقتها كل مجموعة.فالمتدينون يستعملون لغة مصادرها التوراة والتلمود والكتب الدينية الأخرى بينما يستعمل العلماني لغة عبرية فيها تأثيرات أجنبية وقليل من لغة التوراة والتلمود كما أنه لايستعمل المفردات الدينية في حياته اليومية لأنه غير ملتزم بالدين. كما أن الإجيال الجديدة من العلمانيين أخذوا يجهلون دلالات اسماء الرموز الدينية فالكثير منهم يجهلون حتى معنى كلمة "تفلين" (وهو الصندوق الذي يستعمله المتدينون في صلاة الصبح) ورموز أخرى غيرها. ويزداد حاجز اللغة بين المجموعتين كلما تقدم الزمن (27)
في النظرة إلى المرأة
تختلف نظرة الحريديم إلى المرأة عنها عند العلمانيين فنظرتهم هي نظرة دونية تعكسها أقوال الحاخامين في مصادرهم الرئيسة. وقد ذكرت شيئا منها في الفصل الذي يتحدث عن الحركة النسوية اليهودية في هذا الكتاب. وسنذكر هنا بعض مالم نذكره هناك. فهم كثيرا ما يصفون النساء اللائي يعملن في السياسة في إسرائيل بالكلبات والسعالي والشيطانات. كما أنهم لايجيزون للمرأة ان تلعب دورا في السياسة ، او تكون في مواقع عامة تقود فيها الرجال كما لايجيزون لهن أن يسقن سيارة أجرة او حافلة.(28) وهم يفرضون عليها أن تلبس لباسا خاصا ، ولاتتكلم مع الأجنبي ولاتقرب منه يعتبرون صوتها عورة. وفي المناطق التي يسكنونها وحدهم تجلس المرأة في الحافلات في المقاعد الخلفية. وكانت امرأة قد اعتدي عليها بالضرب في أحد هذه الحافلات ، لأنها لم تغير مكانها مع أنها متدينة وهي قدمت شكوى ضد الحكومة الإسرائيلية التي تسمح بتسيير باصات ليس فيها حرية اختيار المقاعد. كما أن لليهود الحريديم مجموعات منهم يسمونهم "حراس الحشمة".ويطوف هؤلاء الشوارع والأماكن العامة التي يسكنها في الغالب يهود أرثودكس يراقبون المخالفين لتعاليمهم. وكذلك مراقبة الحافلات والتأكد من أن الرجال لايجلسون مع النساء خاصة في القدس ، حيث أخذ عددهم يزداد بشكل غير طبيعي بتشجيع من رئيس بلديتها الحريدي السابق. وأخذ هؤلاء يعتدون على بعض النساء في القدس. كما أن الحريديم أنشأوا مجلسا باسم "مجلس طهارة المعسكر" ويقصدون هنا بالمعسكر مجموعة اليهود الحريديم. ويقوم أعضاء هذا المجلس بأمر النساء بالحشمة في القدس ومن لاتلتزم فإنهم يضربونها ويعتدون عليها.ويعلل بعض هؤلاء هذا العمل بالقول إذا لم تلبس بنات المدرسة لباسا محتشما فإنهن يجعلنني أذنب!.(29)
.في العائلة
وقد أثر هذا الصراع في داخل بعض العوائل وأحدث ارتباكا وتوترا فيها ويتمثل هذا في أن الكثير من أبناء العلمانيين عندما يتحولون عن طريق جمعيات المتدينين أو عن قناعة شخصية إلى أشخاص متدينين ، يفصل الشاب نفسه أو الشابة نفسها عن أهلهما ويسكن أو تسكن خارج البيت بحجة أن الأهل ليسوا متدينين، وعلى هذا لايجوز للشخص المتدين حتى لوكان ابنهم أو بنتهم أن يسكن معهم. وتحول هؤلاء قد اصبح ظاهرة بدأت من سبعينات القرن الماضي وسمي هؤلاء بالعبرية بعلي تشوفاه ( التائبون) وقد تحدثنا عن ذلك في فصل سابق. وتقول احدى النساء التي تزوجت بنتها من حريدي متدين ان زوجها لم يشف من صدمة تحول بنته الى حريدية بعد ان تزوجت واحدا منهم. وتقول إن البنت لم تأت لزيارة العائلة ومن النادر ان نرى احفادنا وعندما نزورهم يكون ابويهما قلقين خشية ان نقول شيئا ممنوعا في نظرهم".(30) وقد وصف احد سكان بلدة "شالوم" شيئا من هذه الحالة فيقول" إن كل عائلة في هذه البلدة تقريبا أصبح لها قريب حريدي وهي حالة سيئة فاحيانا ياتي الشاب الى البيت ولا ياكل مع العائلة لانها ليست كشر (طاهرة) تماما ،ويقول لهم انهم ليسوا متدينين بما فيه الكفاية وهذا العائلة غاضبة وقلقة. وهو يقول اعتقد إن القلق في اعلى درجاته في هذه البلدة خوفا من الحريديم .
وكانت "منظمة منع سيطرة الحريديم" قد أنشأها أبوان عندما أصبح ابنهما من الحريدييم ولم يكتف هذان الأبوان بذلك فقد الفا كتابا بعنوان"الشياطين يظهرون من الظلام: قصص من التحريد"(أي تحويل الشخص إلى حريدي). ويتحدث في الكتاب عدد من الآباء أو الأمهات باسماء مستعارة ممن تحول أبناؤهم إلى حريديم وعما اصابهم من ألم نفسي واحباط وكآبة بعد ترك الأولاد لهم وكيف يصبح ألأب والأم في حالة يرثى لها بسبب هذا الإنقطاع وعدم التواصل. ثم كتبا كتابا آخر بعنوان"صيادو النفوس".وقال الزوج في مقابلة "إني خائف جدا من سيطرة الحريديم لأنهم مصممون على تحويل العلمانيين إلى متدينين واحدا واحدا وهذا يخلق ماساة لكل عائلة يتحول ابنها إذ سيصبح ذلك تراجيديا وطنية. وكل من تكلمت معه يعتبر الخطر القادم هو خطر التحريد" ويقول مؤلف كتاب"اليهود الحقيقيون" إنه قابل الكثير من الآباء والأمهات ووجدهم قلقين على وضع أبنائهم وبناتهم الأقتصادي وتعليمهم ومستقبلهم. وبعضهم خائفون ان اولادهم هؤلاء سيختفون من حياتهم تماما .وقال انه التقى بوالدين لم يتكلما مع ابنائهم لفترة طويلة وبعضهم لعقود(31).
ومن جانب آخر هناك اتجاه نحو الجانب الآخر وهو تسرب بعض ابناء الحريديم من عوائلهم وتركهم لها وتحولهم إلى علمانيين. وهذه الظاهرة ليست جديدة وهي قد بدأت بطيئة منذ أكثر من عشر سنوات وتوجد هذه الظاهرة أكثر في الولايات المتحدة الأمريكية. وانشئت منظمات خيرية في إسرائيل لمساعدة هؤلاء في السكن ومساعدتهم ماليا ونفسيا. وهناك بعض الشابات أيضا قد تحولن إلى علمانيات.
في الهوية
ومن المسائل التي تختلف فيها المجموعتان هو اختلافهما حول هوية تجمعهما وهذا ناتج عن طبيعة نظرة كل جماعة إلى طبيعة الدين اليهودي. فنظرة العلماني إلى التوراة تختلف تماما عن نظرة الحريدي اليها فهي عند هذا مقدسة وعند ذاك ليس لها من القدسية شيئ. وكذلك الدولة وأهميتها وقيم الديمقراطية ومظاهرها مثل المحاكم والبرلمان والإنتخابات إلى غير ذلك مما ذكرنا بعضه.وأصبح المجتمع اليهودي يتجه إلى الإنقسام بين هوية إسرائيلية وهوية يهودية. وقد عبر عن ذلك شمعون بيريس في مقابلة صحفية عندما خسر الإنتخابات لرئاسة الوزراء في عام 1996م. فقد سئل من قبل صحفي عن سبب ما حدث فيها فكان جواب بيريس لقد خسرنا وعندما سئل من أنتم أجاب نحن الإسرائيليين (خسرنا) وعندما سئل مرة أخرى عمن ربح الإنتخابات قال أولئك الذين لايملكون عقلية إسرائيلية. وعندما سئل مرة ثالثة عمن هم هؤلاء اجاب يمكنك أن تطلق عليهم يهودا(32). فهنا يفرق بيريس بين السكان الين يعتبرون أنفسهم يهودا وبين الذين يعتبرون أنفسهم إسرائيليين. كما أن التمحور السياسي في إسرائيل إلى يمين ويسار ووسط والذي هو حاد وشديد في إسرائيل حيث الصراع مع الفلسطينيين له دور في ذلك ايضا يؤثر على طبيعة الهوية وهو بهذا يختلف عما هو موجود في الدول الأخرى .
وقد أجري استلاع بين الإسرائيليين حول هذا الأمر فتبين أن مايقرب من ثلاثة أرباع اليمينيين يرون أنفسهم يهودا أكثر من كونهم إسرائيليين ومايقرب من ثلاثة أرباع اليساريين يرون أنفسهم إسرائيليين أكثر من كونهم يهودا.(33).وكان المتدينون قد كتبوا على لافتة كبيرة في احدى الإنتخابات "نتنياهو جيد لليهود" (ولم يكتبوا للإسرائيليين) وفي هذا يتماهى غالبا اليسارمع الدولة واليمين مع الدين.
وهناك مسألة مهمة وهو ان الهوية الإسرائيلية ليست مرتبطة بالبلد بشكل طبيعي كما في بقية البلدان، وهي لاتعود أيضا لقرون ماضية بل إن الهوية الإسرائيلية مبنية على شيئ حديث وهو الأيدلوجية الصهيونية التي جاء بها المهاجرون إلى فلسطين من بلدانهم الأصلية – حيث بقيت ذكرياتهم عالقة بها وتعود اليها- . فالأيدلوجية الصهيونية وإن كانت في بداية نشوء الدولة قوية ومترسخة بسبب مابذله المهاجرون الأوائل من جهود في الأدب والفن و الفكروغيرها لنشرها وتعميقها، فإن هناك اليوم عددا كبيرا من سكان إسرائيل يرفضون هذه الأيدلوجية. وهذه الشريحة من السكان هم في الغالب اليهود الحريديم، وهم يعلنون هذا دائما ويكتبون عنه، وليس من الغريب أن نرى لافتات مكتوب عليه "أيها الصهاينة نحن نرفضكم".ومعروف أن فئة من هؤلاء تتمنى لو لم تنشأ دولة إسرائيل ولم توجد ،لأنها في نظرهم تعوق ظهور المخلص.
ومن مظاهر الخلاف المهمة بين المجموعتين والذي يبرز بين فترة واخرى وله علاقة بالهوية هو قضية من هو اليهودي .فاليهود الحريديم لايعترفون بيهودية اليهودي إلا من كان مثلهم يطبق الشريعة اليهودية ويلتزم بها بالطريقة التي يعترفون بها.وهم يسمون اليهودي في هذه الحالة اليهودي طبقا للشريعة اليهودية. وهذا يشمل نوعين من اليهود فقط وهما من كانت أمه يهودية وكذلك من تحول إلى اليهودية عن طريق الهلخا(الشريعة) وهذا يعني عمليا عن طريقهم هم ، وقد تحدثنا عن هذا في فصل خاص. وبعض العلمانيين يرى بأن اليهودي هو الذي يشعر أنه يهودي ، كما الإسرائيلي. ويرى آخرون منهم ، أنه يجب أن يكون هناك تفكير حقيقي حول إيجاد طريق بديلة لمن يريد أن يصبح جزءا من الشعب اليهودي ، وأن التهود يجب أن لايدخل فيها. ومن الذين يرون هذا الرأي ، وزير العدل الإسرائيلي الأسبق يوسي بيلين ، الذي ينتقد كل الفرق الدينية اليهودية ،وليس فقط الأرثودكسية. وينصب نقده على محاولات هذه الفرق في أن تهود المهاجرين ، طبقاً لمذاهبها التي يؤمنون بها وينتقد كذلك أتباعها على إصرارهم على أن من يريد أن يصبح جزءا من الشعب اليهودي ، عليه أن يتحول إلى اليهودية. وهو يرفض ذلك ويرى بأن الإنضمام إلى الشعب اليهودي ، يجب أن يكون كالإنضمام إلى حركة سياسية أو ناد. ويحاول بيلين ، ومن يرى رأيه أن يصوغوا هوية جديدة للإسرائيلي لعصر مابعد الصهيونية . ولكن هذه الفكرة مازالت مرفوضة ، ليس من قبل الدولة حسب ولكن من قبل المجتمع بصورة عامة. وهذا الإستقطاب في الهوية يجعل من الصعب أن تتصالح المجموعتان وتتفقان على شيئ يجمع الأثنين .

دعوة لتقسيم البلد
قبل أن أذكر آراء المجموعتين حول المطالبة بانفصالهما عن بعضهما وتقسيم البلد أرى من المناسب أن أذكر حديثا قصيرا حول الموضوع دار بين شابين إسرائيليين أحدهما علماني والآخر متدين ، وقد دار على الشكل التالي: "قبل أيام قال لي أحد معارفي من العلمانيين قريبا سوف لانبقى نعيش في الدولة نفسها وستعيش أنت في دولة دينية وأنا في دولة علمانية ولكن لاتهتم إذ سوف تكون لنا حدود مفتوحة وسوف نسمح لكم بالزيارة دون "فيزا"ويذكر المتدين بأن العلماني قال هذا الكلام جادا.(34)
وهذا الذي ذكرناه ليس حالة استثنائية بل أصبح حديث الإنفصال يسمع بين فترة وأخرى .وهناك أمثلة على ذلك من الجانبين نذكر بعضها. فمن ذلك ماصرح به الحاخام يسرائيل ايتنكر حيث ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في حزيران (يونيو) 1997م عنه أنه قال مخاطباً العلمانيين: "إننا من غير الممكن أن نقبل عقيدتكم كما أن مُثلنا المقدسة ليست مثلكم وأولوياتنا مناقضة لأولوياتكم وأهدافنا في الحياة مختلفة تماماً عن أهدافكم، لذلك فبدل الصراع والمعارك يكون من الأفضل لنا أن ننفصل عن بعضنا ويذهب كل منا في طريقه".وكان ايضا هذا هو راي الاكاديمي والفيلسوف الاسرائيلي الارثودكسي يشعياهو ليوبوفتش حيث قال "ان الشقة تتسع بين المجموعتين وقد نضطر في النهاية إلى الانفصال عن بعضنا ، ونصبح شعبين ليس فقط في عدم الزواج ، بل يذهب كل واحد في طريقه التاريخي يحمل حقده معه".(35)
ودعوة الانفصال هذه لا ينادي بها المتدينون وحدهم، بل إن بعض العلمانيين أيضاً يؤيدونها ويرون فيها حلاً لتفادي كارثة. وقد كتب هؤلاء عن هذا الموضوع مقالات مطولة وكان يسرائيل كصوفر قد قال في مقال له في صحيفة هآرص عام 1996م"أن لا مناص من ان ينفصل العلمانيون عن المتدييين.. وإن أي إنسان له عيون في رأسه يرى الوجه الحقيقي لدولة إسرائيل بين نهر الأردن والبحر المتوسط إذ ستكون هناك ثلاثة كيانات دولة إسرائيل ودولة فلسطينية ودولة لليهود المتدينين. وكان مثل هذا الكلام قبل فترة قصيرة يثير الغضب عند أولئك الذين يرفضون هذه الفكرة عندما يذكره الإنسان ولكن ليس الآن". ويقول بعض العلمانيين عن فكرة الإنفصال إنه لشيئ رائع أن يقوم الحريديم بدفع الأجور لمؤسساتهم.
وفي عام 2000 م أعلن مجموعة من جامعة حيفا عن إنشاء جمعية باسم" الصهيونية الحقيقية" وقالت الدكتورة ميكال أورن أنها هي وعدد من زملائها في الجامعات وبعض أصحاب الإختصاصات قد سئموا الحياة في إسرائيل حيث أصبح اليهود الحريديم ، خاصة شاس يسيطرون أكثر فأكثر سياسيا وثقافيا لذلك قررنا أن ننشئ دولة اسرائيلية علمانية خاصة بنا وقد يكون ذلك في جزيرة اصطناعية في البحر"(36) ويبدو لي ان هذا الكلام هو تعبير عن رغبة ولايقصد منه حلا عمليا حقيقيا.
وترى إفا عصيون هاليفي- وهي أستاذة في علم الإجتماع السياسي في جامعة بار إيلان ومؤلفة كتاب"الشعب المنقسم :هل يمكن إيقاف تقسيم إسرائيل"- " إن إسرائيل إذا استمرت على هذه الحال فسوف لايكون شعبها مختلفا فقط بل إن الشعب على عكس مايتصور الآخرون ، هو أقرب إلى أن ينقسم إلى قسمين.(37)
انشاء مراكز لردم الهوة
ولأن هذا الصراع تزداد حدته وأصبح ظاهرة تؤثر على حياة الناس اليومية أخذ المهتمون وبمساعدة من الدولة ينشئون مراكز ومنظمات من أجل رأب الصدع وتضييق الشرخ وقد تكاثر عدد هذه المراكز في الفترة الأخيرة خاصة بعد اغتيال اسحق رابين. وازداد نشاط ما كان موجودا منها قبل ذلك وتختلف برامج هذه المراكز بعضها عن البعض الآخر. فمنها ما يؤكد على الهوية اليهودية وبعضها على الحوار والأخرى على إنشاء مشاريع مشتركة وبعضها يركز على دراسة نصوص يهودية مختارة تُدرس وتُناقش وبعضها على قضايا تربوية أو موضوعات تتعلق بالفن وغيره.
وأخذت الجامعات أيضا تساهم في هذا العمل مثل جامعة تل أبيب وجامعة بارإيلان كل ذلك من أجل جسر الهوة بين المجموعتين.وتقدم الدولة دعما ماديا ومعنويا كتقديم الجوائز من أجل إنجاح هذه النشاطات. وكان من الإجتماعات المشهورة بين الفئتين هي تلك التي كانت بين حزب ميرتس وبين عدد من المتدينين المتشددين واعتبر المراقبون ذلك حدثا مهما ،حتى أن البعض قال إن مجرد تحقق اللقاء شيئ مهم لأن الفجوة عميقة بينهما.
ومن المنظمات التي تنشط في هذا المجال منظمة "تصاو فيوس"(ضرورة المصالحة).وكذلك جمعية اسمها "جسر".
ومن التجمعات التي تعمل على رأب الصدع ، تجمع يطلق عليه "شحريت"(الصباح) وهذه الجماعة تجمع مثقفين وصحفيين. (38) وهي تجتمع بين فترة وأخرى وتتدارس نصوصا يهودية وتناقشها، وكانت قد أصدرت بيانا اكدت فيه على الاهتمام باليهودية والثقافة العالمية معا وقالت بأن الجمع بين الجماعتين هو الطريق الأسلم للمجتمع الإسرائيلي. وكان من أعضائها أشهر الروائيين الإسرائيليين وبعض الأساتذة في الجامعة العبرية.وهناك تجمع آخر اسمه "أيلول"، وتجمع أخر أنشئ حديثا في تل أبيب اسمه "علما" واعضاؤه يدرسون ويناقشون الثقافة اليهودية والغربية .
وقامت جمعية من الحاخامين اسمها "صهر" (نافذة) بانشاء عدد من المراكز فيها كنس تقام فيها صلوات في ثلاث مناسبات دينية في السنة واقيمت هذه الكنس للعلمانيين ، خاصة الذين هم غير معتادين على ارتياد الكنس ويقوم هؤلاء الحاخامون بتوضيح الصلاة وكذلك التقاليد التي تتعلق بها إلى غير ذلك من قضايا تتعلق بالدين اليهودي.وهناك عدد آخر من الجمعيات والمنظمات غير ماذكرنا.
وبعض المهتمين بهذا الموضوع يعتقدون ان هذه اللقاءات والإجتماعات سوف تفشل لأن المجموعتين لايتكلمان اللغة نفسها إذ كل مجموعة تتكلم لغتها الخاصة بها.ويرى هؤلاء أن الإجتماع بالآخر لايعني أنهما يفهمان بعضهما البعض ناهيك عن أنهما يتخليان عن أفكارهما. كما أنه ليس من الضروري أن يساعد معرفة بعضهما للبعض الآخر في رأب الصدع بين المجموعتين. ويذكر هؤلاء مثالا على ذلك وهو وجود اليهود بين الأوربيين لفترة طويلة حيث كانوا على معرفة تامة بالدين اليهودي ولكن ذلك لم يمنع الأوربيون من عدم قبولهم بل ومن الإعتداء عليهم والتنكيل بهم. فالالمان مثلا كانوا على معرفة جيدة باليهود والكثير من اليهود كانوا زملاء للالمان في السلاح ومع ذلك فقد نكل هؤلاء بهم.
ومن الأمور التي يطرحها هؤلاء هو أن الذين يأتون إلى هذه الإجتماعات لابد أن يكونوا مقتنعين بها بينما لايأتي من لا قناعة له بها ولذلك فلا فائدة من حضور من هو مسبقا مقتنع بها لأن هؤلاء يقبلون بالآخر ، وإلا فإنهم لايحضرون. ويقول هؤلاء إن هذه اللقاءات لاتكون ذات جدوى إذا لم تقُد إلى تغيير في النظرة على المدى البعيد، بينما لاتوجد نتائج ملموسة في هذا المجال إلى اليوم .ثم إن الذين يحضرون كما يقول هؤلاء هم مجموعة صغيرة من المثقفين وليس العامة من الشعب ومن له تأثير على الناس، كما أن المجموعتين تفتقران إلى الأرضية المشتركة بينهما ولذلك يصبح الحديث بينهما كحديث الطرشان حيث يتكلم أحدهما الكثير ولكنه لايسمع مايقول الآخر.ويقول هؤلاء إن الكثير من الجهد قد أعطي وكثير من الأموال قد صرفت ولكن النتيجة لايعتد بها حيث اللقاءات تكثر ولكن الشق يتعمق.(39).وكتب يوسي ساريد – رئيس حزب ميرتس المنحل- مقالة في هذه السنة في صحيفة هاآرتس عن الإلتقاء بالحريديم جاء فيها" حتى المناقشات معهم بنية حسنة ليس لها إلا فرصة ضئيلة من النجاح وإلى هذا اليوم فشلت كل المحاولات (معهم)..إنها مثل الأصم يتحدث إلى أعمى وهم الطرشان ونحن العميان الذين يرفضون ان يروا الواقع على حقيقته وإلى أين يتجه".(40) وبالفعل فقد أخذ بعض مؤسسي هذه المنظمات والمراكز يتركون العمل بعد سنين من النشاط وتملكهم اليأس من إمكان أقامة الجسور بين الحريديم والعلمانيين لإعتقادهم بأن العمل لايجدي ولايثمر.
وكان من هؤلاء روث كالدرون وهي كانت قد عملت مع تجمع "إيلول" لسنوات وحصلت على جائزة تثمينا لما قامت به . وعلى الرغم من ذلك فقد قالت "إن المشروع كان فاشلا ،ولهذا السبب تركته وأن الشقة التي اردنا ردمها هي أعظم مني ومن جهودي". وقالت إنها قد أصابتها خيبة عميقة بسبب فشل ماحاولت ان تقوم به. وهي أكدت "بأنه لا الحريديم يريدون أن يتقبلوا العلمانيين ولاالعلمانيون يريدون أن يقبلوا المتدينين ولذلك فليس هناك طريق للعمل مع المجموعتين. وإذا ماحدث حدث مثل اغتيال رابين فإن كل مجموعة تذهب إلى حضن مكانها الطبيعي" .(41)
وكان المتدينون بأطيافهم أكثر الناقدين لمشروعها وقالوا في الرد عليها بأن المتدين لم يكن يشعر بارتياح للمشروع وإذا كانت تعتقد بأنه يمكن دراسة اليهودية دون مضمون ديني أوروحي فهي مخطئة. ومن هؤلاء موتي بار-أور الذي عمل مع تجمع "ايلول" فقد قال إنه لايمكن للمتدينين ولاللعلمانيين وحدهم أن يوفروا الأجوبة للحياة اليهودية "إن هناك صراعا ثقافيا بين الإثنين ويجب علينا أن نجد طريقة لتآلف هاتين الجماعتين ورأب الصدع وانا شخصيا أعتقد انه إذا لم يكن هناك حوار فإن حربا أهلية ستحدث بين اليهود في إسرائيل"
وربما يسأل البعض عن القضايا التي يختلف فيها هذا الصراع عن مثيله في الدول الأخرى، فبعض الدول فيها صراع علماني ديني مثل الولايات المتحدة الأمريكية ، التي بدأ فيها الصراع منذ عقود ومازال مستمرا وكذلك تركيا ، وغيرهما من الدول الأخرى. والجواب على ذلك ذو عدة جوانب.فأحد اسباب شدة النزاع في إسرائيل هو صغر المساحة الجغرافية وصغر هذه المساحة يجعل الإحتكاك مستمرا ويوميا وبسبب هذا الإحتكاك اليومي لابد أن تظهر الخلافات بل وتشتد على القضايا التي يختلفون فيها .وهناك سبب آخر لايوجد في الدول الأخرى وهو أن الدولة لها صراع مع شعب آخر يعيش على حدودها وهو قريب منها،والخلاف شديد بين هاتين المجموعتين حول كيفية إدارة هذا الصراع وحله، وكل مجموعة لها وجهة نظرها المختلفة عن الأخرى، وهذا يزيد من طبيعة الخلافات الموجودة أصلا بين الفئتين. واحيانا يصل التوتر بينهما بسبب هذا الإختلاف إلى اغتيال سياسي كما حدث لاسحق رابين. صحيح أن عمير لم يكن من اليهود الحريديم إلا أنه كان يحسب على المتدينين بصورة عامة إذ هو من المتدينين القوميين، وهو أشار إلى أنه حصل على فتوى من حاخامين من المتشددين لماقام به . ولاشك أن الإغتيال زاد من التوتر بين الجانبين وزرع الحقد عندهما وعمق الإختلاف بينهما حيث رأى فيه العلمانيون اعتداء صارخا عليهم.
كما أن الإختلافات في تلك الدول لم تصل إلى الحد الذي يرفض أحدهما الآخر بشكل كامل ، كما يحدث في اسرائيل، ففي تركيا مثلا والولايات المتحدة ، تسكن هذه الجماعات في أماكن مختلطة ولاتثور ثائرة مجموعة ضد أخرى بسبب ذلك،بينما في اسرائيل لا تريد مجموعة الحريديم أن يكون معها حتى ولا علماني واحد، بل إن العلماني لايمكن أن يسكن مع الحريديم بسبب مضايقتهم ، التي لايحتملها. كما أن هناك أسبابا للخلافات في اسرائيل هي غير موجودة في البلدان الأخرى. ومن هذه مثلا تحديد هوية اليهودي التي ذكرناها سابقا ، وهذا الخلاف من الخلافات الرئيسة التي يزيد اتساعها وتشتد حدتها ، وكذلك قضية العولمة. فالحريديم يتحفظون على كثير من جوانب العولمة ومظاهرها ويخشون تأثيرها ، بينما لايمانع العلمانيون من استغلالها والأستفادة منها.
ويمكن القول أن ما أرادته الصهيونية من صهر لهذه الفئات في بوتقة واحدة لم يتحقق إلى الآن، بل إن المجتمع آخذ في التحول تدريجيا إلى مجتمع"غيتوات". وهذا الصراع الذي ذكرناه وبعضا من مظاهره ، يخيف النخبة في إسرائيل ويؤرقها ، حتى أن جيرالد شتينبرغ رئيس برنامج إدارة الصراعات والمحادثات في جامعة بار إيلان قال في ورقة له بعنوان "تضييق الهوة بين المتدينين والعلمانيين في المجتمع الإسرائيلي" "ليس منا من عنده أي وهم حول الصعوبات ، التي نواجهها في هذه القضية ، حتى إن أكثر الناس تفاؤلا بيننا يعترف بأن التخلص من الحقد ، وهوة الجهل التي تفصل الحريديم والعلمانيين ، تحتاج إلى سنين طويلة . وفي الوقت نفسه نحن نعرف أنه ليس هناك تحد أعظم من هذا ، يواجه إسرائيل والإسرائيليين في الخمسين سنة القادمة".(42)


هوامش:
(1) N.J.Efron, Real Jews,p 31
(2) Ibid., p.148
(3) Ibid., pp. 10 -12
(4) ibid., pp.105 and 269
(5)Ibid., p.70
(6) I., Shahak, and N. Mezvinsky, Jewish Fundamentalism in Israel,p.89
(7) Ibid., p.5
(8)The Daily Telegraph,4-8-2001
(9) The Jewish Chronical,9-10-2009
(10) Ibid., 22-5-2009
(11) N.J.Efron op.cit.p138
(12) Ibid.,pp187-188
(13) U.Huppert, back to the Ghetto,p.41
(14) I., Shahak and N., Mezinsky,op.cit., p.34
(15) The Jewish Chronical,12-7-1997
(16) E.Etzioni-Halevy,The Divided People,p22
(17) N.J.Efron, op. cit.p.212
(18) I. Shahak and N.Mezinsky, op.cit. p.32
(19) E.Etzioni-Halevy,op.cit.,p.22
(20) N.J.Efron,op.cit.p202
(21) Ibid.,p248
(22) Ibid p.101
(23) ibid.,pp.270 and 246
(24) Ibid.,pp254-255
(25) I.Shahal and N.Mezinsky,op.cit.p.33
(26) H.Gordon, Israel Today,pp.99-100
(27) E.Etzioni-Halevy,op.cit.pp101-102
(28) I.Shahak and N.Mezinsky,op.cit. p.38
(29) The Jewish Chronical,13-11-2008
(30) N.J.Efron,op.cit.p.269
(31) Ibid.p.221
(32) E.Etzioni-Halevy,op.cit.p.125
(33) Ibid.,p.138
(34) Ibid.,p.1
(35) U.Huppert,op.cit.p.40
(36) E.Etzioni-Halevy,op.cit.,p.8
(37) Ibid.,p.172
(38) Ibid., p.155
(39) Ibid.,pp.157-159
(40) Haaritz,17-6-2010
(41) The Jerusalem Post,17-10-1997
(42)
توجد الدراسة على الإنترنت تحت عنوان Narrowing the Religious –Secular Gap in Israeli Society








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي