الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيت العتيق

خيري حمدان

2010 / 10 / 19
الادب والفن



قدت العربة برهبة، كنت أعرف ما ينتظرني، كنت مصرًا للمضيّ حتى نهاية المشوار. أمضيت عامًا كاملاً أحضّر لهذه الرحلة. كانت الطريق أمامي طويلة ومشواري لا بدّ سيستمرّ ساعات طويلة قبل أن أصل غايتي. أعرف بأن خواءً قابعٌ هناك على بعد ساعة أو يزيد! أعرف بأنّني ذاهب إلى حيث فقد الزمن قيمته وثقله في سجل التاريخ، لكنّني ماضٍ لأسباب لا يعرفها ولا يفهمها إنسان سواي.

قالت لي زوجتي بأنّني مجنون ورحلتي دون معنى. رفضت الحضور معي، كانت على قناعة من أنّني سأعود بعد ساعات من وصولي إلى "هناك". لكنها وغيرها لم يدركوا بأن الموضوع مختلف تمامًا! هناك بركان ما في عمق الذاكرة انفجر وأطلق ملايين الأطنان من الذكريات التي تحتاج للمّها وترتيبها في خزائن الزمن، وسأندم إذا لم أفعل .. سأندم. لا يهمّني كثيرًا إذا كنتم تصدّقون أبجديتي، لقد بدأت منذ اللحظة في قراءة ألفي وقد لا أصل الياء أبدًا. هذا ليس مهمًا على أية حال! لديّ مشروع متداخل ومعقد ويبدو من جميع جوانبه غريب للغاية. كنت أبدو ضائعًا والعربة تجري على هدى .. هناك حيث الخراب والعدم وكأن بوصلة غير مرئية كانت تحرّك عجلاتها بدقّة متناهية. أيعقل أن أتوجه إلى العدم بمحض إرادتي تاركًا خلفي حياة مليئة بالصخب والعطاء. لا أسمع شيئًا سوى صدى دقّات قلبي الآن، قلبي يقودني دون دليل إلى بدايات ما. يا قلبُ هل يعقل أن تكون البدايات دائمًا عنواننا الذي لا يمكن أن نهرب منه مهما حاولنا ذلك؟

سئمت هنّاتك واندفاعك نحو مغامراتٍ لا تحمد عقباها. من يغنّي في هذه اللحظة وسط العتمة وفي هذا الطريق الثانوي الوعر؟ الغبار ينطلق سحابة من تحت دواليب العربة الخلفية وكلاب ضالة تركض ملهوفة تجاهي، تأمل بقطع من العظام أو ما تيّسر من سقط الطعام.

هل أعود؟
هنا لا شيء يدلّ على أيّ أثر للحياة سوى بقايا وآثار بيوت طينية انهار معظمها تحت وطء عجلة الزمن. يا فتى ماذا تريد وسط هذا التيه؟
أريد قصّة حبّي التي لم تكتمل، أريد قلبي .. أعده لي اللحظة، أنا لا أتخلى عن بداياتٍ خططتها في لحظة عابرة أبدًا! أنت تعرف مدى عنادي ولؤمي وإصراري حين أقرر إنجاز قضيّة ذات علاقة بعلقي. أين هو بيتي العتيق يا قلبُ أخبرني بربّك .. دعك الآن من النبض، دلّني على ضالتي قبل أن أفجّر جدرانك يا متسلّط!

أوقفت العربة بالقرب من المسجد الذي مالت جوانبه حتى كادت أن تسقط. هدأ المحرّك وخيّم صمتٌ أثيرٌ على قلبي، إنّه صمت الحياة ولن يفهم هذه الحالة النادرة سواي. اقترب منّي المسكين رعد، كان قد تقدّم الكلب في العمر كثيرًا، نبح بحرقة حين اقترب منّي، كنت أحمل له الكثير من الهدايا. لحم وعظام وبعض الحلوى الممنوعة لعدم قدرة هذه الحيوانات على إفراز الأنسولين، لكن لم يبقَ أمام رعد الكلب المطيع سوى القليل من الوقت، لهذا لن أمنع عنه بعض ما يشتهي رغمًا عن طبيعته وتركيبه الجينيّ. رعدُ جزءٌ من لوحة الذكريات التي تحتاج إلى الكثير من العمل لإعادة ترتيبها.

أحتاج للعودة إلى هذه الفوضى لأكون ولتستمرّ حياتي المرتبة حتى الملل.
أحتاج لممارسة طقوسي الخاصّة حتى وإن كانت الساحة المرشّحة لذلك عند آخر الدنيا وإذا كان المشاهد الوحيد هذا الكلب الذي شارف على الموت!
أحتاج للعودة وإعادة الروح لهذا المكان. هنا الصغار كانوا يركضون وكنت أنا أحدهم، كنّا نركض تجاه التلّ المرتفع بحياء في وجه الأفق لساعاتٍ طويلة دون أن نشعر بالتعب!
أحتاج الآن لمراجعة حساباتي كاملة .. كيف مات هذا المكان الذي عاش بدفق دمائنا عقود طويلة! أسئلتي ليست بريئة وأنا لست مهاجر عاد بعد خيانة.

* * *

سأبقى هنا طوال الليل وحيدًا في رحم الصحراء الممتدة أمام ناظريّ. في هذا الخراب الذي كان يومًا قرية أعجوبة. لا يبقَ بيت واحد يمتّ للحضارة أو للمدنية! أقصد تلك الحضارة التي ألفها الكثيرون منّا. هنا صمت عارم وبعد قليل سيحلّ ظلامٌ دامس .. أنا من يحتاج كلّ هذا التوحّد دون شريك، حتى الكلاب هنا تشعر بالوجل من ثقل اللحظة وهمس العدم ورهبة الذكرى وعواء الذئاب الشاردة ليس بعيدًا عن هنا!

كنت غير قادر على البقاء في بيت والديّ اللذين باتا جزءً من الحاضر البعيد. في هذه الغرفة كانت والدتي تقوم بعجن أقراص السبانخ المحبّبة لنفسي حتى الهوس. بالرغم من آلام ركبتيها وثقل السنين المتراكمة ككتل من التراب كانت تخبز السبانخ لتفوح رائحة الحياة حتى آخر بيت في النزل الممتدة، وكان الجار العاشر يحصل على شيء من هذا الشواء. قلبي منقبضٌ من هذا الحضور الطاغي المتسرب إلى أقصى تلافيف دماغي وحواسي وخلاياي العصبية. لهذا مضيت مبتعدًا لبيتها ..

كنّا نسترق اللحظات العابثة ونمسك بأطراف أصابعنا، كانت تخجل حين أقبّل يدها
- أنت يا شرقيّ كيف تقبّل يد الأنثى؟
- بل أقبّل أثر الحياة على يدك، أقبّل هبة الخالق وقدرته على دفق كلّ هذا الجمال في جسدك المتفجّر يا أنتِ!
- تزوجني ولنحرق الأفق بشبق الانعتاق من حواجز الجاذبية.
لن أبكي الليلة بل سأغرق في أمواج متلاطمة مشبعة بلحظات لن أسمح للزمن بالعفو عنها، سأستخدم طاقة جنوني لتحقيق ذلك.

يا أنتِ التي نسيت اسمك بعد أن طوى وحصد الطاعون كلّ هذا الوجود! كيف نجوت أنا، يا لي من أنانيّ مفرط في الوجودية!
علبة التلفاز القديمة الكبيرة ما تزال راقدة مطيعة فوق طاولة صغيرة زينتِها بمطرّز ملوّن. غزالٌ صغيرٌ لا يفتأ يحدّق بي من وجه الغطاء المغبرّ وتوقيعك الخجول. لن أبوح باسمك لأحد لأنك بقيت لي أنا رغمًا عن الطاعون الذي أودى بهذا الوجود المتدفق في شرايين الذكرى.

أوصلت تلفازك القديم ببطارية سيارتي وأدرت المفتاح. قناة تلفزيونية واحدة كانت قادرة على اختراق هذا الصمت المريع، اختفت الألوان الفاقعة لا شيء سوى الأبيض والأسود وسهرة حبّ فيروزية.
- إنها فيروز .. أتشرب الشاي يا شقيّ؟
- بل أشرب عينيك ..
ارتفع عواء الذئاب من البعيد، كنت أتمنى دعوتها لوليمة حتى أشبع جوعها الأبديّ، لكنّها خشيت الضوء المباغت والفوضى التي خلقتها في الحضور المغيّب لهذا المكان. كنت أعرف مسبقًا بأنّ المكان غير موجود على الخارطة، لا يمكن لمخلوق سواي أن يجد الطريق إلى هنا، لأن المكان بالنسبة للجميع كان ببساطة ودائمًا هناك.

فيروز في هذه اللحظة كانت متحررة من قوانين الحضارة، كانت تغنّي كما لم تفعل يومًا ما، لم تكن تنتظر موافقة أبنائها وأحفادها لتغنّي وكان المسرح كبيرًا يتّسع لطيور الجنّة ولجميع الذئاب التائهة منذ الخليقة. كنّا حشودًا غير مرئية نستمع لعصفورة أيلول! كنّا نراقب عبده الذي ما يزال على أهبة الاستعداد ليرمي بنفسه من فوق البلدية من أجل عيون لم يقرأ الحياة فيهما سوى عبده!

* * *
- لماذا عدت يا شقيّ؟ دعنا نمضي نحو الأبديّة .. أرجوك!
- طوال حياتي .. مسافر إلى مكانٍ ما .. لهذا أعود.
- نحن طوانا الطاعون يا شقيّ.
- لا بل هو غبار النسيان .. أحاول أن أنفضه عن هذه الديار يا أنتِ!
- هل نسيت اسمي؟
- بل أحتفظ به لوحدي، أنا دائمًا أنانيّ في الحبّ كما تعلمين، أتذكرين قبل أن يزحف الطاعون إلى دربنا كيف سرقنا من التاريخ لحظات خطّت حضورنا على امتداد صحراء الوجود؟ تاه طيفها في ثنايا الزمن وساد الصمت ثقيلاً كما الحياة في أوج انعتاقها، لم أستمع لإجابة وكان لديّ الكثير من الأسئلة!

أطلقت الذئاب عواءها الطويل، كانت مهووسة بالفراغ وجائعة. لم يبق من طعام سوى جسدي العاري من جمال التاريخ .. تعالي يا قبيلة الذئاب انهشي من لحم التاريخ ما تشائين .. لعلّي أقدر على حفظ صفحة أو صفحتين نكاية بالطاعون!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و