الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أربعة مقالات في الإيمان*: (3-4)

سعدون محسن ضمد

2010 / 10 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



المقال الثالث: التقاط الصور
المجتمع البشري عبارة عن تركيب معقد من العلاقات والأدوار والوظائف التي يقوم بها أفراده، وتقريباً ليس هناك فرد داخل هذا البناء المعقد لا يشغل وظيفة يؤدي من خلالها دوراً يخدم به الآخرين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. الأب يشغل وظيفة، ويؤدي من خلالها خدمة لأبنائه، وقد يشغل وظيفة أخرى كأن يكون ممثلاً أو صحافياً أو عامل خدمة أو ما إلى ذلك، ومن خلال أي من هذه الأدوار يؤدي هذا الأب خدمة لبقية أفراد المجتمع، ويستفيد من كل فرد من هؤلاء الأفراد بحسب نوع الدور الذي يؤديه والخدمة التي يقدمها من خلاله.
هذا التعقيد على قدر أهميته، يؤدي إلى نوع من أنواع العرقلة بالنسبة للوعي البشري، فكل فرد من أفراد المجتمع سيكرس حياته لإدامة وتطوير دوره، وهو على هذا الأساس لن يكون معنياً بتطوير منظومة وعيه، من خلال تحديث مفاهيمه بحسب تطورات الواقع الذي ترتبط به هذه المفاهيم. فعملية التحديث هذه ستكون من اختصاص جملة المفكرين وبعض المثقفين، لأنها تقع ضمن فعاليات أدوارهم. بعبارة أخرى: البشر غير قادرين على توفير اشتراطات التحديث اللازم لمعرفة الواقع بصورة دقيقة لأن عملية التحديث هذه ستشغلهم عن أداء أدوارهم التي يجب عليهم أداؤها.
لكن عملية تكوين الصور المعرفية عن الواقع من خلال تجميع المفاهيم التي تشكل هذه الصور لابد لكل فرد من أفراد المجتمع من أن يقوم بها، وهذه العملية تحدث خلال مراحل التنشئة الاجتماعية وعبر مؤسساتها المختلفة، ففي مؤسسة العائلة يأخذ الفرد أهم المفاهيم وأكثرها رسوخاً، ثم في مرحلة لاحقة تأتي مؤسسة المدرسة، التي تعمل ـ في الغالب ـ على توضيح مفاهيم العائلة وترسيخها أكثر . ثم هناك مؤسسات كثيرة تعمل بشكل مستمر في إطار عملية التنشئة الاجتماعية كبعض مفاصل المؤسسات (الدينية، الاقتصادية، العسكرية...) وهكذا.
بعد أن تؤدي التنشئة الاجتماعية دورها سيضطر كل فرد من أفراد المجتمع لأخذ دوره وأداء وظيفته، وبالتالي تقليل التركيز على عملية تلقي المعلومات والمفاهيم. وهنا تبدأ المشكلة، بمعنى أن غالبية أفراد المجتمع، وبعد انتهاء عملية التنشئة الاجتماعية المباشرة، سيكونون قد شكلوا صوراً ذهنية ثابتة عن أغلب تفاصيل الكون والوجود، وسيكونون قد سجلوا بذاكرتهم إجابات أخذوها عن مؤسسات التنشئة بخصوص أهم الأسئلة التي تشغل الإنسان عادة. ومن هنا تنشأ العقائد الثابتة، ومن هنا تكون العقائد واحدة داخل أفراد كل جماعة على حدة؛ لأن كل جماعة تعمل على (توريث) أفرادها العقائد والأعراف والقوانين التي تؤمن بها وتعمل على وفقها.
في مؤسستي العائلة والمدرسة يتم تزويد أفراد المجتمع بأهم العقائد والأفكار والمسلمات الدينية، وعملية التزويد هذه تحدث في أغلب المجتمعات على شكل قوالب جاهزة تعطى لوعي الأطفال واليافعين بصورة تلقينية بحتة، ومن خلال هذه العملية ترسخ في أذهان هؤلاء جميع المفاهيم المتحكمة بالعمليات الفكرية. مؤسستا العائلة والمدرسة الإسلاميتان تلقنان الأطفال المسلمين عقائدهم، وبعد أن يكبر هؤلاء ويشرعون بتأدية أدوارهم في الحياة لا يعود متيسراً لهم أن يجروا عمليات تدقيق أو بحث أو تقصٍّ أو تحليل فيما يخص العقائد التي تلقنوها في مرحلة الطفولة وأيضاً في الفترة المبكرة من مرحلة الشباب. وهذه الحقيقة تكشف جانباً مهماً من جوانب الخلل التي تعاني منها منظومة الوعي البشري، فهذه المنظومة غير قادرة على توفير المرونة اللازمة لوعي الواقع المتحرك الذي تعيش فيه، لأن أفراد المجتمع وكما قلت قبل قليل مشغولون في تأدية أدوارهم في المجتمع التي هي غالباً أدوار لا تنسجم مع عمليات التفكير والتأمل والقراءة وغيرها من العمليات التي تُلزم الوعي بتحديث منظومة مفاهيمه. فالخباز أو الحداد أو الجزار أو حتى المهندس والطبيب كل فرد من هؤلاء مشغول بتفاصيل دوره الأمر الذي يجعله عاجزاً عن أداء عمليات تحديث الوعي.

المقال الرابع: انتقائية الوعي البشري
هناك ميزة في منظومة الوعي البشري وهي عاهة في الوقت نفسه، وهذه (الميزة/ العاهة) تتمثل في أن هذه المنظومة انتقائية في تعاملها مع مواضيع الوعي. فعندما يدرك إنسان ما موضوعاً معيناً فإنه لا يستطيع أن يستوعب كامل الصفات والمميزات التي تتعلق بهذا الموضوع وتشكل الصورة الذهنية المثالية له. فهذا الاستيعاب يكلف منظومة الوعي جهداً مضاعفاً من جهة، ومن جهة أهم يحتاج الى وقت طويل، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى إبطاء عمليات وعي الإنسان للمحيط. إذن فمنظومة الوعي البشري تنتقي جملة من الصفات والمميزات المتعلقة بموضوع إدراكها وتشكل من خلال عملية الانتقاء هذه صورة هذا الموضوع في الذهن. ولأن منظومات الوعي مختلفة فيما بينها، فإن عملية انتقاء صفات الموضوع الواحد لن تكون متشابهة بالنسبة لمنظومات وعي مختلفة. وهذا ما يفسر بعضاً من عمليات اختلاف وجهات النظر بحق مواضيع الإدراك.
عندما يعرض فلم سينمائي على مجموعة من المشاهدين، فإن المفردات الإدراكية التي سينتقيها كل منهم ستكون مختلفة عن الآخرين، فهناك من سيركز أكثر على سيناريو الفلم، وهناك من سيكثف جهده الإدراكي أكثر فيكز على متابعة تقنيات التصوير، وهناك من سيتعامل مع الفلم بوصفه كلاً موحداً؛ أي بوصفه عملاً فنياً واحداً، وهناك من سينتبه لأداء الممثلين وهكذا. وسنفشل حتماً عندما نسعى إلى جعل هؤلاء المشاهدين يتفقون على رأي واحد بخصوص الفلم، فكل منهم سيسعى إلى أن يكون الرأي مبنياً على الصفات أو الأجزاء التي راقبها منه.
عملية الانتقاء هذه يمكن عدّها تقنية مهمة من تقنيات الوعي البشري، وهي تسهم بشكل فعال في التأثير على طبيعة فهمنا للأشياء. وحتى يكون أثر هذه التقنية واضحاً في ما يتعلق بمواضيع الكتاب وبالخصوص فيما يتعلق بالأديان والعقائد وكيفية تحققها سأورد المثال التالي:
لنفترض أن مجموعة من الإطفائيين اشتركوا في عملية إخماد حريق، وبما أن مهام عمليتهم معقدة فإن كلاً منهم سينشغل بمجموعة من تفاصيل عملية الإطفاء تختلف عن تلك التي ينشغل بها غيره. وهذا يعني أن تجاربهم لن تكون متشابهة مع بعضها بصورة تامة. لكن الأهم من ذلك هل ستكون الانطباعات والأحكام التي سيشكلونها داخل وعيهم متطابقة؟
بالتأكيد لا، لن يكون هناك تطابق. والسبب أن كلا منهم سيستعمل تفاصيل مختلفة عن التفاصيل التي يستعملها غيره في عملية تشكيل الانطباع الخاص به. وهذا الاختلاف يبدأ من اختلاف المشاهد التي ترصدها أعين كل منهم على حدة ولا ينتهي بطبيعة الأحكام التي سيصدرونها بخصوص تلك المشاهد وبخصوص الحريق بوصفه حادثة في نهاية المطاف.
الذي سيتولى عملية رش الماء على النار سيرصد الحريق من زوايا تختلف عن ذلك الذي يتولى عملية إنقاذ المحاصرين في النيران. كما أن الذي سيتولى إسعاف ورعاية الناجين من الحريق سيتحدث عن مشاهد تبتعد قليلاً عن حرارة النيران لتقترب أكثر من بشاعة التشوهات والآلام. وهذا ما يجعل الذاكرة الصورية المتعلقة بتجربة إخماد الحريق لدى كل من هؤلاء الثلاثة تختلف عن بعضها. كما أن الأحداث ستختلف والاستجابات أيضاً.
لن يكون الحريق تجربة متطابقة بشكل تام بالنسبة لكل الاطفائيين، فبالإضافة للاختلافات التي ذكرتها، ربما ينجح أحدهم في إنقاذ طفل، مما يجعله سعيداً بهذا الإنجاز، ومن ثم سيخرج من هذه التجربة بانطباع مريح يجعله على استعداد لتكرارها مجدداً. لكن الموضوع سيختلف بالتأكيد لو أن إطفائياً آخر تعرض لأضرار جسدية بالغة، وصلت إلى حد التسبب في تشوهات. فهذا الأخير سيخرج بانطباع مختلف عن الانطباع الذي خرج به الشخص الأول.
بالنسبة لهذين الأخيرين نلاحظ أن منظومة وعي كل منهما وخلال إصدارها للأحكام وتشكيلها للانطباعات لم تكن موضوعية تماماً، أو بالأحرى لم تكن دقيقة. كان يفترض بالشخص الأول أن لا يذهب بموضوع الفرح بمنجزه بعيداً، كان عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار التجربة التي مر بها شريكه في عملية الإنقاذ، بمعنى أن عليه أن لا يستسهل النجاح في هكذا مهام خطرة، وأن لا يتوقع أنه ومن خلال تكرار تجاربه سيعيد تكرار مشهد الإنقاذ الأول نفسه، فمثل هذا التفاؤل سيوقعه في الكثير من الأخطاء.
الحكم نفسه ينطبق على الشخص الثاني، فهو الآخر يفترض به أن لا يذهب بموضوع التشاؤم أو الخوف بعيداً، فمن الخطأ أن تخيفه التشوهات الجسدية التي تعرض لها إلى درجة أن يعطل الدافع الإنساني فيه ويقرر التخلي عن مهمة إنقاذ المحاصرين بالنيران.
منظومة الوعي في كلا التجربتين كانت تنتقي المفردات التي تستعملها أساساً لعملية تشكيل الانطباع؛ بمعنى أنها لا تأخذها جميعها، بل بعضها، وهذا الموضوع بحد ذاته لا يولد ضرراً، بل يمكن له أن يكون مفيداً، لأن عملية تشكيل الانطباع أو إصدار الأحكام ستتأخر لو أن منظومة الوعي توجهت نـحو الأخذ بنظر الاعتبار جميع المفردات المتعلقة بموضوع الوعي من أجل تشكيل الانطباع المتعلق به. ففي هذه الحالة ستكون عمليات الوعي والإدراك برمتها بطيئة؛ لأن التفاصيل الدقيقة ستكون كثيرة إلى درجة لا يمكن تخيلها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عدم ممارسة الانتقاء أمر غير ممكن، فهناك مفردات تعجز منظومة الوعي عن استيعابها أو حتى الالتفات الى وجودها.
موضوع الانتقاء من جهة أخرى لا يتعلق فقط بإصدار الأحكام وتشكيل الانطباعات، بل أيضاً بمجمل عمليات الوعي التي تحدث بشكل تلقائي، فمنظومة الوعي الخاصة بأي منا وخلال تجوالنا في الطرقات (مثلاً) تسجل ملاحظات وترصد مشاهد وتشكل صوراً إدراكية، وهي خلال جميع هذه العمليات تنتقي بعض مفردات المواضيع التي تتعامل معها، فلا يمكن لمن يرصد سيارة تمر أمامه أن يسجل كل صفاتها وصفات سائقها. هو ببساطة لا يمتلك الوقت لذلك، فيلجأ إلى انتقاء جملة من المواصفات يستعملها في تشكيل الصورة أو الانطباع أو إصدار الحكم. وهذا الموضوع ينسحب على جميع عمليات الوعي، وكما قلت سابقاً فإن عملية الانتقاء في هذه الحدود مفيدة لأنها تختصر لنا زمن عملية الوعي.
لكن عملية الانتقاء ستتحول من كونها ميزة إلى كونها عاهة عندما يتعلق الأمر بالمعايير التي تستعملها منظومة الوعي خلال عملية الانتقاء؛ لأن هذه المعايير ذاتية عاطفية. فالانطباع السيئ الذي خرج به الإطفائي المشوه، انطباع خاطئ؛ لأنه لم يأخذ بنظر الاعتبار كامل المفردات التي يجب أن تشكل الأرضية الكاملة لعملية تشكيل انطباع دقيق، بل انتقى بعضها، والمعايير التي استعملها في عملية الانتقاء عاطفية تتعلق بالتشوه الذي تعرض له، فهذا التشوه جعله يغفل عملية الإنقاذ التي قام بها شريكه، وهي عملية حققت منجزاً لو أنه أخذه بنظر الاعتبار لكان انطباعه أقل سوءاً.
هناك جانب آخر من جوانب عملية الانتقاء التي يمارسها الوعي البشري، وهي أنه لا يسجل إلا الأشياء التي تحظى باهتمامه، فالرجل الجائع سيركز خلال تجواله في أحد الشوارع على محال بيع الطعام، فيختلف بذلك عن بقية من يشاركونه في التجوال بالشارع نفسه، على الأخص منهم أولئك الذين تناولوا طعامهم قبل قليل فهؤلاء لن يجدوا بالمطاعم ما يشد انتباههم، لذلك سيركزون على أشياء أخرى تثير اهتمامهم أكثر.
لو أن أحدنا وقف على باب مكتبة كبيرة وسأل رواد هذه المكتبة عن أهم الكتب التي وجدوها معروضة، سيجد أن الاختلافات كبيرة جداً، فالمعني بالعلوم الصرفة لن يتحدث عن الروايات الأهم، لأنه في الأغلب لن يكون قد لحظها أصلاً، و الأمر نفسه ينطبق على المهتم بالعلوم الإنسانية فهذا الأخير لن تغريه لا كتب العلوم الصرفة ولا كتب الأدب.. وهكذا. وهذا الأمر يعني أن العقل البشري يركز على الأشياء التي تهمه أو تثيره أو تشبع بعض حاجاته، ولا يركز على الأشياء الأخرى. إذن فالعقل البشري غير دقيق خلال عملية ملاحظته للمحيط ووعيه له أو إدراكه لتفاصيله.

كيف يعمل الانتقاء
الآن صارت لدينا صورة أوضح عن طبيعة الظروف التي تدفع وعياً ما باتجاه الالتزام بعقيدة بعينها دون سواها من العقائد الأخرى، وأيضاً الظروف التي تدفع وعياً ما باتجاه الاستمرار في اعتناق عقيدة مهما تعرض لتقريع الآخرين ومحاولاتهم اقناعه بالعدول عن هذه العقيدة. فبعد أن تتشكل الصور المعرفية لدى الوعي البشري بتأثير من التنشئة الاجتماعية وتجارب الوعي المبكرة خلال الطفولة والمراهقة وسنوات الشباب الأولى، فإن الإطار المرجعي الذي يتشكل من هذه الصور سيكون قد تحول إلى بنية ثابتة ـ تقريباً ـ وغير قابلة للتغيير، تتكون من مجموعة منسجمة من المعلومات والمعارف والعقائد، وسيعمل على تشكيل الخلفية الحاكمة والمتحكمة في معظم عمليات الوعي، فالإطار المرجعي يشكل الخلفية التي يرجع إليها الفرد كلما أراد أن يفهم شيئاً أو يحكم عليه أو يتعامل معه.
وكما أن الشخص الذي يرى وجهاً ما تكون به حاجة إلى الرجوع إلى ذاكرته من أجل أن تساعده في الحكم على كون هذا الوجه مألوفاً أم لا، فإن الإنسان الذي يكون بمواجهة موضوع من مواضيع الإدراك، فإنه سيحتاج إلى الرجوع إلى إطاره المرجعي من أجل أن يحدد له ماهية هذا الموضوع ومعناه.
الإطار المرجعي الخاص بوعي إسلامي متشدد، سيتعامل مع مفاهيم مثل (اللبرالية، العلمانية، الحرية الفردية، الشيوعية، الرأسمالية...) بشك وريبة، وربما بعدائية، لأن إطاره المرجعي يحتفظ برؤى وأحكام ومسلمات وصور معرفية متقاطعة مع هذه المفاهيم، بخلاف الإطار المرجعي الخاص بوعي غير إسلامي أو الخاص بوعي إسلامي منفتح.
ولا تقتصر فعالية الإطار المرجعي على عمليات الحكم على الأشياء أو فهمها، بل إن الدور الأهم له هو تحكمه بعملية الانتقاء التي يقوم بها الوعي، فهو الذي يحدد للوعي أهمية معلومات محددة من بين ركام المعلومات التي يكون بمواجهتها. وكما أن الجائع لا يركز، وهو يسير في الشوارع إلا على اللافتات التي تشير إلى المطاعم، كذلك فإن الوعي المتدين لا يلاحظ من مفردات الواقع الذي يحيط به، وسواء كانت هذه المفردات عبارة عن معلومات أو مشاهد أو كلمات، إلا تلك التي تؤكد على صحة عقيدته الدينية، وسيتغافل عن المفردات التي تقع بالضد من ذلك.
الكتب التي لا تؤكد الأفكار الإسلامية أو تدافع عنها أو تشرحها لا تثير شهية أغلب الإسلاميين، فهم ينتقون خلال ممارستهم عملية المطالعة نوعاً محدداً من الكتب ، وعملية الانتقاء هذه توقع وعي هؤلاء في فخ الإيمان التسليمي المحكم الذي سيمنعهم من ممارسة أي عملية نقد للأفكار التي يؤمنون بها. وحتى الذين يطالعون الكتب التي يفكر مؤلفوها خارج الدائرة الإسلامية أو الدينية، فإن عملية المطالعة هذه ستكون محكومة هي الأخرى بعملية الانتقاء .
لهذا السبب تجد أن الإطار المرجعي الإسلامي يتعامل بريبة مع مفهوم الحرية المدنية مثلاً، لأنه يتعامل بانتقاء مع دلالات هذا المفهوم، فهو يركز مثلاً على نتائج الحرية المتعلقة بملابس النساء، أو بشرب الخمر أو ارتياد الملاهي، وهكذا تنحصر دلالات هذا المفهوم بالقضايا التي يبدو لمن يرصدها أنه ـ أي المفهوم ـ مبتكر للنيل من الإسلام. ونلاحظ أن الانتقاء هنا مارس دوراً تشويهياً قوياً. والحقيقة أن مفهوم الحرية لا يتعلق فقط بالمفردات التي انتقاها الإطار المرجعي الخاص بالمسلم، فهناك المفردات المتعلقة بحرية المعتقد وحرية التعبير عن الرأي والحرية السياسية. وهذه المفردات لا تتعارض مع الإسلام وستلغي أو تخفف من الريبة فيما لو لوحظت.
عندما تحدث كارثة طبيعية ويذهب ضحيتها آلاف الأبرياء فإن الوعي المتدين لن يلاحظ فداحة الخسائر البشرية، لن يركز على خطورة أن يموت آلاف البشر بين أطفال ونساء وشيوخ وشباب خلال ثوان معدودة، بل سيركز على جوانب أخرى من هذه الكارثة، كأن تكون الجوانب المتعلقة بمعنى هذه الكارثة وكيفية تفاديها والحيلولة دون تكرارها باللجوء إلى طلب المغفرة مثلاً، وهكذاً. وهذا بالتأكيد تعامل انتقائي مع موضوع من مواضيع الإدراك. وهذا الانتقاء لن يشبه بأي حال الانتقاء الذي سيجريه وعي ملحد تجاه الكارثة نفسها، فالوعي الملحد سيركز على مشاهد الدماء وقسوة الخسائر المادية والمعنوية، وسيتخذ من هذا الانتقاء ذريعة لتأكيد إلحاده الذي سيقول له أن هذه الكارثة تؤكد عدم وجود قوة راعية لهذا الكون، أو وجود قوة لكنها غير حكيمة ولا رحيمة.

إعادة ترتيب النتائج
إذن هناك عدة أخطاء يقترفها الوعي البشري ـ أو يقترفها المجتمع بحقه ـ وتؤدي به إلى الوقوع في فخ العقائد الثابتة (أو المقدسة):
الخطأ الأول: اقتصار زمن تلقي الوعي البشري أهم المفاهيم التي سيستعملها طوال حياته على زمن الطفولة والشباب، باعتبار أن أهم عمليات التنشئة الاجتماعية تحدث في هذا الزمن.
الخطأ الثاني: التعامل مع المفاهيم المكتسبة في هذه الفترة بوصفها مسلمات فكرية ثابتة وغير قابلة للتعديل، مع أن مصاديق هذه المفاهيم على الأرض تتعدل وتتغير باستمرار.
الخطأ الثالث: بناء منظومة وعي أفراد المجتمع من هذه المسلمات والصور الذهنية والمفاهيم.
الخطأ الرابع: تحول هذه المنظومة إلى إطار مرجعي يُرجَع إليه في جميع عمليات الإدراك والفهم.
الخطأ الخامس: قيام هذه المنظومة، وخلال إدراكها للواقع أو حكمها عليه، بانتقاء المفردات التي تنسجم والأفكار والمفاهيم والصور الذهنية المثبتة فيها والمقدسة لديها.
الخطأ السادس: انتهاء عملية الانتقاء بتشكل العقيدة المقدسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذه المقالات الأربعة غير مستقلة عن بعضها، بمعنى أنها في الأصل دراسة واحدة قمت بتقسيمها لأربعة أجزاء، لذا يجب قراءة السابق قبل اللاحق، ليتضح المضمون.
وهذا روابط المقالات السابقة على موقع الحوار المتمدن:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=232014
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=232233








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية طيبة
محمد المترفي ( 2010 / 10 / 22 - 14:44 )
اشكرك استاذ سعدون على ما تفضلت به ، لكن عندي بعض الملاحظات
_ المقالات هي في الايمان لكن المحتوى هو بنقد الايمان
-اشرت كثيرا الى مفهوم الوعي ومنظومة الوعي ليس هنا فحسب انما باغلب كتاباتك ولم تعرف هذان المفهومان .
3- بختام المقالات ان حكمت على اخطاء الوعي من خلال نفس منظومة الوعي فهل هذه المنظومة لها آلية لتصحيح المفاهيم تنبثق من نفسها وبهذا لن نختلف عن علم الرجال الذي انبث من التاريخ نفسه ليصحح التاريخ وليت شعري انى يكون هذا ؟
طبعا اكتفي بهذه الملاحظات البسيطة وربما المشاغبة كما في الملاحظة الاخيرة رغم تحفظي على بعض المنطلقات التي تبنيتها لتدعيم رايك بهذا المقال كمفهوم التنشئة الاجتماعية او التاسيسي لمفهوم الحقيقة النسبية وبهذا ممكن ان تكون ضمن المابعد حداثويين اليس كذلك ؟ :d


2 - محمد المترفي
سعدون محسن ضمد ( 2010 / 10 / 23 - 21:02 )
تحية لك صديقي العزيز
بالنسبة لمفهوم الوعي فاعتقد أنني عرفته لكن لا اذكر الآن ان كنت قد فعلت ذلك في كتابي (أوثان القديسين) او في مكان آخر، لكنني لم أفعل بالنسبة لمفهوم منظومة الوعي.
أما بالنسبة لاستخدام منظومة الوعي في الحكم عليها فلا مشكلة في ذلك ما دامت هذه المنظومة بصدد الكشف عن أخطاءها، وهذا ما فعلته بهذه المقالات، بمعنى أنني لم أكن بصدد الكشف عن آليات لتصحيح هذه الأخطاء، مع إقراري بأن هذه الأخطاء لا سبيل للخلاص منها. فالانتقاء آلية لا سبيل إلى الخلاص منها وكذلك عدم قدرة الوعي على تحديث مفاهيمه بصورة دورية مستمرة.
اما بالنسبة لعلم الرجال يا صديقي فصحيح أنه استخدم التاريخ للحكم على التاريخ، ولكنك مع ذلك شكل خطوة مهمة على صعيد إيجاد آليات للحكم على صدق المنقول التاريخي. فأنت لا تستطيع أن تقول أن الرواية التي ينقلها رجل لا يكتب التاريخ عنه أي شيء، أي أنه يجهله، تكتسب نفس قوة الصدق التي تحتوي عليها رواية ينقلها ناقل يعرفه التاريخ من خلال توثيق اصحاب الاختصاص.
اما بالنسبة لتحفظاتك وملاحظاتك المشاغبة فمرحب بها وأنا لا انتظر من امثالك ان يقرءوا لي دون ان يتحفظوا أو يعلقوا تعليقات مشاغبة


3 - ملاحظات سريعة
محمد لفته محل ( 2011 / 6 / 19 - 05:37 )
صديقي سعدون ليس كل الناس حين تتفرتغ من العمل ستبدا في اعادة قراءة الواقع أولا لان الناس ليسو احرارا بافكارهم انها حتمية عليهم بعد ان شكلت لديهم هوية وانتماء واطارا عاما للحياة، فالعمل والانشغال ليس هو العائق امام تغيير الناس لافكارهم، ثانيا انت تتجاهل دور الموهبة او العبقرية التي تميز الانسان المثقف والمبدع
ان انتقائية الوعي التي تتكلم عنها ليست واعية كما تقول وانما لاشعورية لانها تتعامل وفق خزينها الثقافي والمعرفي الشخصي والنفسي والاجتماعي.
اما النتائج التي وصلت اليها فهي جيدة لكن ان المسالة ليست بوعي مجرد مفرد؟ بل بوعي اجتماعي ومؤسسات اجتماعية، فليس المهم تغيير المفاهيم بل بمحتوى هذه المفاهيم هل هي ثورية ام رجعية، اليست في الاسلام تيارات حديثة لكنها رجعية كالوهابية والاخوان المسلمين والقاعدة؟.

اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53