الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثمة نور خلف ... - أبواب الليل -

ثامر الحاج امين

2010 / 10 / 24
الادب والفن


تعريفاً بنهجه الشعري والتمهيد لإضاءة الطريق عند " أبواب الليل " ـ ديوانه البكرـ يتوج الشاعر " عبدا لرحيم صالح الرحيم "مقدمة ديوانه المذكور بنص الشاعر الياباني أوزوفا ـ روان ،الذي يرى في القصيدة :
ليست إلا أن يرفع الإنسان صوته
ليبوح
من أعماق قلبه
بما يشعر
فيكشف " الرحيم " بذلك عن حقيقه يرتكز عليها مشروعه الشعري هي ان تكون القصيدة عفوية وصادقة ، ، فنراه عبر أكثر من ( 130 ) قصيدة ضمها الديوان يحاول تجسيد هذه الرؤية من خلال عالمه الشعري المكتنز بالأشكال التعبيرية والبنائية التي اعتمدت التكثيف وبساطة الجملة الشعرية أسلوبا ً لطرح مضامينها الإنسانية والفكرية .
في قصائد " الرحيم " تلمس عشقاً صوفيًا للمكان يجسده الاستحضار الحميم لرموز الطفولة والحنين إلى الماضي ، ففي قصيدة " توسل " نراه يتشبث بالمكان كما يتشبث الطفل بأشيائه الجميلة وذلك حين يأخذ به قطار العمر سريعاً فيشعر بسنواته تستصرخه ان لايمضي بعيداً :
أتطلع من خلف ضباب يصعد في عيني
إلى أشباح بيوت مدينتنا تجري
تصرخ بي أن اترجل
ويتعمق هذا العشق في قصيدة " الجديدة " ـ محلة الشاعر ـ فانه يتماهى مع المكان حيث يجد في جدران بيوتاتها القديمة الرباط الروحي الذي يشده الى جذوره معيداً على اذاهننا ظاهرة الوقوف والبكاء على الأطلال التي شاعت قديماً في القصيدة العربية :
ادخل فيها ...
أتلمسها حجرا... حجرا ...
أتأملها
أتأمل حيطانا ً مازالت شمس الروح عليها ...

كما نلمس الحنين الى المكان والأشياء ينسحب الى عالمه الخاص ، بيته الذي يذكره بالماضي الجميل ، حيث يرسم من خلال استحضار معالمه البسيطة صورة للألفة و بساطة الحياة وصفائها :
وأذكر من بيتنا ،
سدرة ..
تحت افيائها ، جدتي ، وابي ، نائمان ،
وأمي تعد العجين ...
كذلك الحال في ملابسه القديمة حين ينشرها امامه يجد أيامه تنتفض ( راكضة في الطرق الحزينة ) وفي لوحة مؤثرة مشحونة بالعاطفة تجسدها قصيدة " الطريق " تلمس فيها لوعة الاغتراب وأسى الفراق يكشف فيها الشاعر عن رهافة الروح والحنين الى المكان والخوف من اللاعودة الى الجذور:
اضعنا الطريق الى بيتنا ،
وساورنا هاجس اننا لن نعود ،
وان المدى بيننا
بعيد ... بعيد ...
يرافق هذا الخوف خوف آخر اشد رعبا وفتكاً بالنفس ، ذلك ان يشهد الشاعر سنواته تمضي ، وازهاره تذوي و نجومه تطويها جحافل الظلام وهي كلها اشارات الى تقدم العمر ، حيث يعترف في قصيدة " ايتها الحديقة " بكل هذه الهواجس والآلآم :
يدي .. يدي انهكها الذبول
واخترقت مفاصلي مناجل الفصول ..
ايتها الحديقة
لم تعد الاوراق في اخضرارها البهي
والجذور في انطلاقها الفتي ..
دمي .. دمي ارهقه النحول ..
ويشتد هذا الألم حين يجد الشاعر نفسه عاجزاً عن فعل شيء امام المغريات فيجسد في قصيـــــدة " الدف " اقسى حالات الضعف الانساني :
الدف امامي
ويدي عاجزة ان تنقر صوتاً
تحمله بين جناحيها الريح ...
ويستمر بث خوفه وحزنه على ذهاب الشباب في اشارات كثيرة ( الشمس غادرت ولم تعد في ثوبها الجميل ، لقد غدا الظلام مسكني ومؤنسي في رحلة الذهول ) ( النافذة انطفأت ، والخيط الممتد من الشرفة حتى الروح غدا محض غبار ) ( في غد سيحل المحاق ) ( صار القلب حجارة ) ( اجلس وحدي بين خرائب اشجاري ، وناري توشك ان تخبو ) حتى بصل في ذلك الى المباشرة في اعلان هذا الخوف وذلك في قصيدة " طائر المطر " :
الصبي الذي شاخ في زحمة الذكريات
يحدق في شاهق نحو باب الحياة
ويرنو الى سقفها
بعد جدب السنين
وفي قصيدة " قبل الخطوة الاخيرة " والتي يرمز فيها الى اقتراب رحلته نحو المجهول ، يرسم خارطة حياته التي لم تكن سوى :
شجيرة وارفة الظلال ،
في أول البداية ..
وبعدها
خط من الرماد ينحني ، ويلتوي
لنقطة النهاية ...
عندها يتملكه اليأس ، حيث يجد القلب ماعاد طروباً ولا يهزه الجمال فينهار امام خراب الروح :
هذي التفاحة ماعادت تتلفت نحو الاشجار ،
او تنصت عند الصبح الى الاطيار ..
ماعادت تقفز في الطرقات ،
وتغني في الساحات ..
هذه التفاحة واجمة في كل الاوقات
خذها يالله ...
كما ان هاجس الموت نجده هو الآخر يتلبس الشاعر ، ويحضر بكثافة في تجربته ، مما يضيف قلقا لايستهان بتأثيره ، فهو زائر لاتعلم متى واين يطرق بابك ( يأتي في غبش الصبح أو قاع الليل ) ومع ادعاء الشاعر بعدم اكتراثه بهذا الزائر ويتظاهر بالشجاعة لاستقباله :
يامن يأتي من اعماق الليل ،اضطربت نجمات الأفق ،
وغارت ..
اني هيأت متاعي .. ودموعي ،
فلماذا لاتقتحم الباب ، وتدخل ؟
إلا ّ انه في مكان أخر يصرخ في القلب إن يتماسك ، محذرا الضعف إمام هذا الزائر ( لاتتوقف كالمذهول، احمل جلدك واهرب بالساعات ) وفي لجة الصراع هذا بين المواجهة والفرار يسأل الشاعر في سره عن جدوى هذا السعي المفرط نحو المغانم اذا كانت النهاية هي الاستسلام ، معيدا على أذهاننا فلسفة الشاعر " الخيّام " في العيش والنظرة الى الحياة :
مانحن ؟
ولماذا نلهث حد الإعياء ؟
ونقعي في الليل حيارى ..
نتمنى الموت ،
إن أهم مايميز تجربة " عبدا لرحيم " الشعرية هو انه يكتب شعراً تأملياً ، يجمع بين المضمون الإنساني والفلسفي ، وهو مايجعل القاريء يتمعن جدياً في فضاء نصه الشعري ، فقصائده شديدة الالتصاق بالحياة ، يحاول الشاعر فيها الحوار مع محيطه وجعل كل مافيه كائنا متحركا ، فهو يلجأ إلى انسنة الأشياء من كائنات وظواهر ومحاولة استنطاقها وتوظيفها في سياقات شعرية تشيع في القصيدة مناخات من التأمل والدهشة :
من اعلى التل
أبصرت حياتي ذاهبة .. ايبة ً
صرتها في يدها .. كانت تلتف بأذيال الدنيا
وتدور .. كحمار الناعور...
وكذلك الحال بالنسبة ( العصافير لاهية .. توقظ الصبح بالغناء) ( الينابيع تثرثر بين الحصى والصخور ) ( أثينا امرأة وادعة العينين ، تنثر من كفيها حبات القلب ) (أشجار البلوط تحدق ساهمة في الماء ) ( الشمس حفرت خندقها خلف الجبل لتنام ) ( اختبل النبع حين رأى خيط الدم ) ( الأشجار صامتة تصغي للصوت الآتي من أقصى الغابات ) ( الليل قطار يمضي يحمل في العربات أشجارا ونجوم ) وكذلك يجعل من القط كائنا يتحسس الجمال ( في هدوء جلس القط فوق الجدار، ناظراً بانبهار ، صوب قرص القمر ) وعصافيره أيضا لها مشاعرها تجاه الأوطان حيث تتقافز بين الأغصان تغني ( هذا وطني ) وأنجم ليله هي الأخرى ( تهزأ من ضعفي ) والكلب يشعر بالهزيمة حين يواجه حجارة الإنسان فتراه ( يرقد مهزوما تحت شآبيب الأحجار ) .هكذا يؤنسن الشاعر الأشياء فيجعلها تروي أحوالها ومصائرها .
كما يكشف الشاعر عن قدرة على تطويع المفردة وتنوع استخداماتها فمرة نجد في ( المطر ) دلالة جنسية كما في قصيدة " هل ينكشف المخبوء ؟ " حيث يتساءل مشككاً عن مابفعله الليل من غوايات :
ماذا يحدث بين الأرض وبين الأمطار ؟
وهذا الليل الماكر ماذا يفعل بينهما من إغواء ؟
ولماذا يطفيء فانوسه ؟
هل ثمة أشياء تتشابك في أشياء ؟
ولكن في قصيدة " مطر في الليل " يرمز له الشاعر بالقلق الذي يهاجمه في كل حسن مما يدفعه الى التوسل به :
اذهب يامطراً ... اذهب ...
لاتوقظ قلبي
اختل مابين الأشجار
يكفي يامطراً مابي

ولكن في قصيدة " عناد " يظل المطر يعبث بهدوء الشاعر ( إنها الرابعة والمطر ، لايزال ينقر النافذة بانكسار بعيد). وفي قصائد اخرى يمنح المطر دلالات أكثر إشراقا ، حيث نجده في قصيدة " أمطار " يرمز للمطر بالأمل الذي يروي قحط أيامه ( أمطار في كل الدنيا ، أمطار فوق الأشجار ، أمطار تحت الإمطار ، أمطار تنقر أبواب الأنهار ، هل نأمل أن تأتينا في يوم ما ... هذي الأمطار ؟ ). كذلك في قصيدة " كزار حنتوش " فان الشاعر يصف المطر بالنشوة التي تسري في الروح فتمنحها الحياة والألق :
من قال ..
إن الخمرة نار ؟
الخمرة أمطار..ً
تنبت في القلب زهوراً،
وتفتق أكمام الأشجار ..
ومثلما للمطر من دلالات متعددة فان لـ ( الليل ) هو الآخر اكثر من قناع ، فهو تارة العمر الذي يظهر على شكل قطار يمضي بسنوات الشاعر الى حيث لايدري ، تجسد ذلك بوضوح قصيدتي " الليل " و " قطار النجوم " :
الليل قطار يمضي
لو يأخذني دوما
لأرى اين يسير ..
بينما في " أسوار الليل " يظهر بصورة الأله الذي تؤرق الشاعر اسراره وهو يتربع على الأرض كبوذي يراقب انجمه :
قالوا : ان الليل سيمنحك الحكمة ، والرحمة ، والقوة ، ان
انت وصلت اليه ..
لكن مفاتيحي لم تفتح باباً ..
وخارج أسوار الليل وقفت وحيدا ً
وتربعت على الأرض كبوذي ارقب أنجمه تتغامز فوقي
إن مايميز قصائد " ابواب الليل " هو ابتعادها عن الزخرفة والتزويق وكذلك بساطة بناءها ودلالاتها فلا ترهق القارئ في فك رموزها ، وبالتالي فهي على مافيها من خوف ساد مناخها إلا أنها قصائد حملت من نور الشعر الكثير .











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكراً للحوار المتمدن
نعيم شريف ( 2010 / 10 / 25 - 16:08 )
أقول شكراً لانكم نشرتم موضوعاً غايةص في الروعة ، وهو ايضاً عن ماسمّاه الراحل الكبير محمود البريكان ( ( أن يجلس الشاعر في الظل ويدفع بنصّه الى الضؤ )) ولقد جاء الوقت الذي نعرف فيه أن شاعراً مجداً ومتواضعاً وموهوباً لابد لهُ من أن يظهر الى الضؤ أيضاً فقد طال مكوثه في الظل ولعل العزاء أن ناقداً نزيهاً مثل ثامر الحاج امين قرأ هذا النصوص بعين فاحصة ومدرّبة للشاعر نحترمه كالشاعر عبد الرحيم صالح الرحيم

اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار


.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها




.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع


.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض




.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا