الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور المثقفين في صناعة الدكتاتور

أكرم عبدالرزاق المشهداني

2010 / 11 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


تعاني الثقافة في بلداننا العربية من مأساة بل محنة أليمة، تتمثل في قصور المثقفين عن أداء مهماتهم المجتمعية أو عجزهم عن نيل ثقة مجتمعاتهم. ولعل من أكبر مشاكلنا المستعصية اليوم هو ذلك الخلط العشوائي بين مفهومي (الثقافة) و(العلم)، هذا الخلط الذي أدى في البداية إلى إطلاق تعبير (المثقف) على كل (متعلم)، ثم بعد أن بدا لمروجي المصطلح أنه بهذا المعنى (فضفاض) لا بد من تضييقه، فأخذوا يحذفون منه ويضيفون إليه ما يجعله على قدر قاماتهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى أن لا يطلق تعبير (المثقف) إلا على (الحداثي المتعصرن)!!، من أجل أن يكون المصطلح جامعاً مانعاً، يجمع إليه كل من تنطبق عليه شروطهم، وينفي عنه كل من لا يستحوذ على هذه الشروط.. وهنا تبدأ العقدة الوليدة، عقدة (المتثيقف) الذي يحاول أن يحقق شروط مروجي المصطلح وكسب رضاهم ليسمح له بولوج عالمهم.. وعلى رأس قائمة الشروط، يأتي (الانسلاخ) عن تراث الأمة حتى العظم، وتحقيق قطيعة حاسمة ونهائية مع تاريخها، ومن المقتضيات العجيبة الغريبة للحداثة أو مابعد الحداثة!! أن يرطن (المتثيقف) بلغة هجين مختلفة عن لغة قومه، وأن يُسَفّه قيم أمته، وينتقد مسلماتها، ويتطاول على رموزها ومقدساتها.. وكل تلك هي شروط لا يمكن التسامح فيها أو التنازل عن شيء منها.. وبهذه الصرامة في تطبيق الشروط، خُيِّل لمروجي مصطلح الثقافة والمثقفين، أنهم يحافظون على احتكار المصطلح وتميز حاملي لقبه، وخصوصية منتدياته، ونخبوية أعضائها، فلا يسمح لأحد أن يتقحم عليهم عالمهم الوردي فيها..
إن (العلم) شيء و(الثقافة) شيء آخر، يشمل جميع العادات والتقاليد والأفكار والقيم المستقرة في ضمير الأمة، التي تطبع سلوكها وتحكم تصرفاتها وردود أفعالها.. فهي بهذا المعنى لقب يحمله كل فرد من أفراد الأمة ورضع من حليبها؛ متعلماً كان أو غير متعلم، بمن فيهم محتكرو المصطلح والمروجون له.. ومن أسوأ صفات أولئك (المتثيقفين) هي إلتزامهم (أحادية الرأي) واحتكار الحقيقة، وإلغاء الآخر، وإقصاؤه، وإغلاق منابر التعبير عن الرأي في وجهه، والتسفيه المسبق لأفكاره، وتهميشه والاستخفاف به. و(النخبوية) التي تعني الترفع، والاستعلاء، والتميز، وتضخيم الذات، والانفصال عن الحياة العامة، والعيش في أبراج عاجية تحجبهم عن الشعور بمعاناة الناس وهمومهم، والاستغناء بالتنظير عن العمل، حتى يمكن أن تطلق على نظرياتهم تعبير (أفكار المقاهي والحانات!) وهي الأمكنة التي اعتادوا على تداولها فيها، بين نفثات السيجار وقرقعة الأراكيل، وإحتساء المشروبات، من دون أن ترى لها أثراً يذكر على أرض الواقع، وفي الميدان. وغلبتهم (حالة الانفصام) بين الفكر والتطبيق، بين القول والعمل، فقليلاً ما تجد أحداً منهم يعيش أفكاره ويلتزم بما يطالب الناس أن يلتزموا به، ويمتنع عما يعيبه عليهم. كما يعاب عليهم (الانسلاخ) من الجذور الثقافية للأمة، والالتحاق بقيم الحضارة الغربية، من دون أي اعتبار للسياق الحضاري، والمناخ الملائم، والجذور والبيئة وضرورات التكيف.
في عالمنا العربي اليوم مازال هناك كثيرون ممن يرون أن المثقفين هم من صنع أو يصنع الطغاة، ويتحملون وزر صناعة وتأليه (الدكتاتور)، لأن (الطاغية) لا ينشأ من فراغ، فالمثقفون – لا أقول كلهم بل نسبة لا يستهان بها منهم!- هم الذين يقومون بتمجيد الحكام وإلباسهم هالات البطولة والزعامة والعبقرية والتفرد، حد التأليه!، وينشدون لذلك قصائدهم ... ويدبجون مقالاتهم .. وينثرون النثر.. ويرسمون اللوحات.. ويقدمون العروض المسرحية.. حتى ينتهي الأمر بتصديق الطاغية لما يكتبه المثقفون وما يقولونه عنه... وفي رأيي أن الطاغية لا ينتهي بالصورة التي بدأ عليها، ولكن من يفيدون منه يحرصون على أن يصبح طاغية، إلتماسا لنيل المغانم وسعيا لسلطة زائفة وإرضاء لغرور طائش تراهم يتفننون في تبرير وتسويغ كل فعاله وآثامه!.
إن محنة الثقافة العربية اليوم محنة عسيرة، والمشكلة هي في إصرار هؤلاء على إلغاء دور التجربة، والتعنت على مواقفهم التي عانت الأمة مرارة نجاحها في تحقيق أشنع الهزائم والانكسارات فضلاً عن إخفاقها في تحقيق أي تقدم يذكر خلال ما يزيد عن نصف قرن من التجارب المريرة لنظرياتها الهجينة، متناسين أدوارهم وذنوبهم في (تصنيع الطغاة).
ثمة ملاحظة لابد من إتيانها ونحن في هذا السياق، يجب أن نقر أن الطرف الآخر التقليدي (من غير الحداثي) من مفكري الثقافة العربية الإسلامية، قد لا يكون أقل أحادية وإعجاباً بالذات، ونفياً للآخر، ورفضاً للحوار معه، فهو غالباً ما زال يعيش في صوامعه، مستغرقاً في تأملاته، ماضوياً في خطابه، مدبراً غير مقبل، منفعلاً غير فاعل، ينتظر ظهور (مهدي آخر الزمان)، ليصلح العالم ويقضي على الفساد في الأرض!.
إن ما تحتاجه الثقافة العربية اليوم، هو نمط مجدد آخر من المفكرين، نمط واعٍ لثقافة أمته، ولمخزونها الفكري والقيمي العظيم، ولموقعها الراهن على الخط البياني لدورتها الحضارية، مدرك للنبض الثقافي والحضاري العالمي، ولحاجة الإنسانية الماسة إليه في أزمتها الفكرية والفلسفية والأخلاقية الراهنة. ولا أظن أن التحالف غير المقدس القائم بين (مثقفي السلطة) و(محترفي الثقافة) سيسمح لمثل هذا النمط بحضور فاعل ومؤثر في الساحة. وهنا نعتقد أنه ما على المجتمع، إذا كان حريصاً على الحيلولة دون مزيد من التشويه والتزييف لثقافته وتراثه، إلا أن يحزم أمره، ويضع برامجه، معتمداً على نفسه وعلى إمكاناته التي هي بالتأكيد أكبر وأجدى على الثقافة من الإمكانات السلطوية، لأنها منبعثة من إيمان وإرادة، وتلك الرسمية إمكانات سيأكلها الروتين والبيروقراطية والتنازع المصلحي مهما تعاظمت، وعسى أن يكون مستقبل ثقافتنا (المهضومة) أفضل من حالها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن