الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أين موقع الثقافة العربية من العلمانية؟

رندا قسيس

2010 / 11 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تطل علينا من حين إلى آخر اقتراحات تؤكد حتمية وجود النظام العلماني في المجتمعات العربية، لتخرج أصواتاً أكثر صراخاً و أكثر تعداداً من قبل الجهات الدينية المخالفة للأولى ترافقها صيحات استنكار من أفراد هذه الشعوب محتجين على المؤامرة العظمى التي تخاط منذ قرون على مجتمعاتهم.

نلاحظ، و بشكل واضح، تأجج حالة التعظيم عند أفراد هذه الكتل من خلال مفرداتها المتكررة و المتجلية بإعتقادات وهمية مركزة على مؤامرة بقاع الأرض ضد بلدانهم، و كيف لا، و هم أبناء السماء التي اصطفتهم من دون غيرهم. تشبه هذه الحالة حالة المريض المقهور من محيطه، فنراه و تحت كم من الضغظ يلجأ إلى تعويض ما ينقصه من خلال هلوسات مزمنة.
تعكس هذه الحالة واقع عدم اكتفاء الفرد على جميع الأصعدة و انسحاقه الشديد تجاه كتلته الجماعية المتقمصة بالسلطة، رجال الدين و العائلة...فنراه يردد و بشكل آلي جميع المفردات التي غرستها جماعته في أعماقه.
لهذا أجد أن علينا الكف عن محاولة تكرار مفردة العلمانية، فهي تثير حالة ذعر و خوف عند أفراد هذه الكتل، كما أعتقد بضرورة مراجعة التاريخ قليلاً علنا نستطيع استخراج بعض النتائج المفيدة من تجارب السابقين، للكف عن هدر طاقة في التكرار و الحفاظ عليها في ايجاد حلول لواقع مأساوي يعيشه الفرد و من ثم الجماعة عن طريق تجنب بعض الكلمات المرتبطة بمشاعر مقيتة، فكتلنا تحتاج إلى علاجات نفسية مطولة، كي تهدم جدرانها النفسية و تتخلى عن تشنجها الثابت من أجل اكتساب مرونة في التفكير.

دعونا ننظر تاريخياً إلى حركة التغيير في جميع الكتل على مر العصور، نجد أن القوانين الجديدة في أي مجتمع ترتكز على ماض و ثقافة كتلته، حتى أننا نجد في أكثر القوانين الثورية عنصراً محافظاً داعماً لعامل الربط بينه و بين أفراده.
على الباحثين و الساهرين على مجتمعاتهم لتحسين أوضاعها أن يدرسوا و بشكل دقيق وعي مجتمعاتهم ليكون لهم القدرة على دغدغة مشاعر أفرادها، كي يتمكنوا من القفز بهم إلى مستقبل موعود، و ربما قبل المطالبة بنظام أو قانون، عليهم إيجاد مفاهيم جديدة يمكن تداولها بين أفراد المجتمع، كي تتمكن هذه المجتمعات، يوماً ما، من التحول إلى نظام و قانون يجمعان جميع أفرادها تحت غطاء واحد.

أعود إلى رفض هذه المجتمعات لمفردة "علمانية"، من وجهة نظر خاصة، أجد أن المشكلة تكمن في مفهوم الكلمة، فقبل أن نتناولها بشكل مسطح، علينا أن نعلم أن معنى العلمانية ليس مفهوماً ثابتاً، بل يتلخص جوهره بذاك المتغير المتماشي مع تطور الحياة، كما أن تشنج بعضنا في ايجاد معنى و صيغة واحدة ثابتة لهذه الكلمة تضعنا أمام اشكالية أخرى و هي استبدادية "الأنا" المعرفية، فقبل المطالبة بتطبيق أي نظام مؤسساتي، على جميع أفراد هذه الكتل تعلم السباحة في معاني الكلمات و التجول الحر في فضاءاتها.

قبل أن أقوم بجولة سريعة لتاريخ العلمانية، اسمحوا لي بسؤال بسيط عن مغزى ايجاد صيغة جماعية لا حراك فيها؟ فإن فعلنا، ألا يعني ذلك أننا أمام استنساخ التشريعات الدينية الثابتة بقوانين مدنية مشابهة لها؟
فهل توقفت العلمانية في فرنسا، على سبيل المثال، عند مبادئها الأولى التي تشكلت أثناء الثورة الفرنسية؟
من الملاحظ تماماً أن هذه المبادئ قد تغيرت بشكل تدريجي منذ القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين، فقد بدأت بمبادئ أولية تتجلى بمساواة حقوق الأفراد، لتكتسح شيئاً فشيئاً كيان الدولة، و التي نتج عنها بعد ذلك في بداية القرن العشرين قانون انفصال الكنيسة عن السلطة، مع العلم أن علمانية 1905 في فرنسا تختلف بعض الشيئ عن مفهوم علمانيتها في وقتنا الحالي و التي تفصح عن نفسها بشكل قوي في رفض المجتمع الفرنسي لكل الرموز الدينية، و لا يقتصر هذا الشيئ على الرموز الاسلامية بل يعمم على جميع الديانات، كما علينا أن نعلم ان العلمانية لن تتوقف عن التحول بل ستبقى ذاك المتغير المؤسس على معيار حرية الفكر و التعبير. مازال للعلمانية طريقاً طويلاً لتحقيق حريات أكثر للأفراد، و مساعدتهم على التحرر من جميع العبوديات، فالعبودية لا تقتصر على الدين و الإله، بل تمتد إلى عبوديات متعددة، كعبودية الاستهلاك و العمل القائم على روتينية محددة و مجردة من أي عمل فكري، فهي المؤجج ل "الأنا" الصغير القابع تحت سلطة العبودية.

لن نختلف كثيراً على أية كلمة أو غطاء يمكنه أن يساعد في عملية التغيير ليصب في خانة مصلحة الفرد، لإنشاء توازن مابينه و بين مصلحة كتلته، لهذا علينا بالبحث المتواصل عن مفهوم جديد يصب في هذا الغرض، لنتجاوز عبودية المفردات و الكلمات، علينا الإبداع لملامسة الشعور الإنتمائي الديني لأفراد الكتلة و البحث عن طريقة في احداث بعض التغيير في المشاعر نفسها و بأساليب مختلفة من دون رميهم في أحضان عدو الحياة.

لا يمكننا أخذ محصول ثقافات مختلفة عنا في تاريخها و ظروفها ان كانت دينية، سياسية أو اقتصادية...، و تطبيقها بشكل آلي في مجتمعات تختلف بطانتها عن تلك. ما يمكننا فعله هو دراسة و تحليل هذه الحركات للتوصل إلى الجوهر الأساسي في عملية التغيير، و من هنا ينطلق الخيال بعيداً ليصبح قادراً على الإبداع.
أعتقد ان الوقت الحالي في مجتمعاتنا بما فيه من تفكك مذهبي يشكل أرضية مناسبة لعملية التغيير التي لا تأتي من فكرة التوحيد، و لا تأتي من اتفاق الطوائف فيما بينها، بل هي ناتج عن الاختلافات و التخبطات بين الطوائف و المذاهب و الرؤى، هذا العامل المحفز على انشاء مفاهيم و تشريعات حيادية تضمن حرية أفرادها.

الاسلام ليس حلاً و لم تكن المسيحية حلاً و لا توجد حلول في أية قوانين ثابتة، بل جاءت الحلول العلمانية من خلافات الكنيسة فيما بينها و رغبة استقلال بعضها عن السلطة البابوية لمصلحة ملك أو امبراطور، ناهيك عن عوامل اجتماعية و سياسية و أخرى... اجتمعت كلها لتكون السبب الرئيسي في عملية التغيير.
لا ننسى ان ماوصلت اليه أوربا اليوم قد دفعت ثمنه من أجساد أفرادها، فكما قال اختصاصي الأنتربولوجيا فريدزر بعد دراسته لحركة الشعوب الوحشية "ان قوة أية كتلة تتلخص في امكانية أفرادها بتضحية الحاضر لمستقبل كفيل أن يحقق لها اكتفاءاتها، و هذا ينطبق أيضاً على الفرد".

لم أكتب هذا المقال لإيماني الشديد في تضحية الفرد لكتلته، ربما لأني خارجة عن موضوع الإنتماءات الانسانية بكل معاييرها الحالية كالقوميات، الأوطان و النوع الإنساني...، فإنتمائي إلى الحياة و إلى ما تجسده في كل كائن حي، لكنني أعلم ان ازدهار كتلة جماعية معينة تتلخص في هذا السياق.

أخيراً، لا أستطيع إلا القول ان بداية أي تغيير تبدأ أولاً بالتحرر من كلمات و مفردات، و الكف عن تقليد التاريخ، فالظروف المحيطة التي ساعدت دولاً أخرى في تخطي ماضيها الاستبدادي لتلحق بعجلة التطور و الحياة، لا تتوافق تاريخياً و لا جغرافياً مع دول أخرى. ربما آن الآوان في تحريك تفاعلاتنا النفسية من خلال إبداع كلمات و صيغ جديدة تتناسب مع البطانة التاريخية و الدينية لهذه المجتمعات، و من يعجز عن الإبداع و التفكير للحاق بقطار الحياة، فلن يصيبه إلا الزوال و الاختفاء.

تعلمنا و من خلال مراجعة التاريخ و الدراسات الأنتربولوجية، أن الحياة أساسها التطور فهي من تنتقي عناصرها الملائمة لها و المتماشية مع كل متغيراتها.
و ربما من الأفضل لهذه الشعوب أن تدرك أن مصيرها الزوال في حال اصرارها على التشبث في ثوابتها التي لا تتلائم مع النظام الطبيعي، و بعد هذا كله لا يسعني إلا أن أطرح سؤالأً أخيراً عن جوهر الفكرة الرئيسية المتحكمة في مصائر هذه الشعوب المتلخصة بالتشنج المزمن لها، فهل هو نتيجة لبحثها اللاواعي في الخلود بجوار إلهها؟ وكيف لا، فهي التي ترعرت و نشأت على حب العبودية و الموت في آن واحد.
ربما آن الآوان، كي نبدأ بإعادة جديدة لمفاهيم عالمية، و طرح انتماءات جديدة للأفراد خالية من الأوطان و الأعراق، كي ندعم الأفراد الراغبة في الانتحار لتحقيق حلمهم الفانتازي و مساعدتهم في الرحيل إلى جوار إلههم، فلهم الحق في الاختيار ما بين الموت و الحياة، فلكم الهكم الميت و لنا حياتنا المتغيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مهمة المثقف بالنقد هو فضح الواقع
محمد البدري ( 2010 / 11 / 21 - 12:36 )
للاسف فان الههم لازال حيا ونحن لازلنا نحبو في محاولات للتغيير، ولاتمام عملية موت الاله فان فضح القيم السائدة وكشف مدي انتسابها الي بدائيات بربرية كفيل بان يسرع بخطي من لازال يحبو من اجل التغيير. تقدير وشكر للاستاذة الفاضلة رندا.


2 - الطريق لازالت طويلة
وردة الشام ( 2010 / 11 / 21 - 14:13 )
لاأعتقد أن المشكلة هي في تغيير المصطلحات أو المفاهيم فمهما تغيرت المعاني سيكون الأساس واحد وهو حرية الإنسان في الإبداع والتفكير وعدم تقيده بحياته بمنظومة دينية يسير عليها كالأعمى ليصل إلى ربه كما قلت عزيزتي الكاتبة فكيف لك أن تقنعي شعوب بأن مصيرها الزوال إذا مابقيت متشبثة بثوابتها وقيمها التي توارثتها وتتمسك بها بالرغم من معرفتها بعدم ملاءمتها للنظام الطبيعي بل هي تعتقد أن ماتؤمن به صالح لكل زمان ومكان لتصل للنتيجة وهي الخلود إلى جانب الإله الأبدي إن المشوار طويل وطويل جدا على أمل ألا تملوا من محاولات التغيير وشكرا


3 - هذا المقال الرائع هدية مني للأديبةمنهل السراج
الحارث السوري ( 2010 / 11 / 21 - 20:44 )
أرجو أن تقبلي مني هذا المقال العلمي الواقعي وتعليقي عليه بقلمك الحر مع التحية ...


4 - تحية للأستاذة الكاتبة رندا قسّيس
مريم نجمه ( 2010 / 11 / 21 - 22:21 )
شكراً لك أختي الكاتبة الفاضلة رندا ,, على موضوعك الهام ( شعار المرحلة ) بالنسبة للكثير من السياسيين والمثقفين والمشتغلين للصالح العام .. وأنا منهم طبعاً التي تنادي بهذا الشعار .
الشعار كااستراتيجية , نعم - أما كيف ومتى وأين ولماذا فهذا يعود للزمن والوقت المناسب ضمن إطار ولغة وطريقة تتعاون فيها كل مكونات الشعب في بلد ما معين , مع الأخذ بعين الإعتبار الظروف والمستوى الفكري والإقتصادي والإجتماعي , وليس نسخاً فوتوكوبي عن أي دولة أخرى , فلكل مجتمع خصوصية وواقع موضوعي , ( الدين لله .. والوطن للجميع ) , ما لله لله , وما لقيصر لقيصر ) ) على كل البحث جميل والّاّراء حوله متشعبة وكثيرة يحتاج إلى مناقشات مستفيضة ...وكل شئ في الحياة يتبدل ويتغير لا شئ ثابت في الكون والمجتمعات البشرية .
تحية وشكر لأسلوبك وبحثك العلمي الجميل
محبة


5 - سيدتي العزيزة
محمد م ديوب ( 2010 / 11 / 22 - 11:05 )
أوافقك الرأي بأنه علينا تحديد معاني المصطلحات لأنه بدون تحديدٍ لها نكون كمن أصيب بالعشى الليلي . إلا أن المسألة ألتي توازي التحديد هذا أهميةً هي معرفة بنى القوى المحركة لمجتمعاتنا كي نستطيع التعامل معها وتفكيكها ومن ثم القضاء عليها . إن الرجل الشرقي بشكلٍ عام متمسك بالدين ليس لأنه يحب إلهاً ما أومقتنعٌ بصوابية قول إلها ما إنما الرجل الشرقي متمسكٌ بكلِ ما من شأنه تعزيز سلطته في المجتمع الذكوري الذي ينتمي إليه ولذلك نرى الكثير من الفتاوى في هذه الأيام تتجه بإتجاه تعزيز دور الرجل وتقليص ما أمكن من مساحة الحرية للمرأة ولامانع من حبسها في البيت حتى الموت فهذا الرجل ما زال في لاوعيه ومحمولاً على جيناته سلوكيات ما قبل الدين حيث كانت المرأة هي السيدة ولايزال يعاني بشكلٍ أو بآخر من عقدة أ وديب لذلك نرى فتاوى إطاعة ولي الأمر تسير جنباً إلى جنب مع فتاوى التضييق على المرأة وتدخل في طاعة ولي الأمر طاعة الوالد والكبير إلى آخره ممن يمثلون سلطةً ما على هذه الأ رض فإحدى التوجهات التي يجب علينا العمل عليها هي توعية المرأة ودفعها لتكون رأس الحربة في تحطيم سلطة الرجل ولك كل الإحترام

اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح