الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفكير في زمن التطبير !

حارث الحسن

2010 / 12 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ليعذرني الفقيد نصر حامد ابو زيد اذ احاكي هنا عنوان كتابه "التفكير في زمن التكفير"، ولكن هنالك مايجعلني اتذكر الرجل وكتبه وكلماته باستمرار هذه الايام ، في كل مرة اطالع اخبار العراق التي أخذ مؤشر التكفير يتحرك فيها من التنظيمات الاصولية المتطرفة وماينسب اليها من قتل على الهوية وتفجيرات واختطافات ، الى اعضاء مجلس محافظة بغداد والكثير من السياسيين الاسلاميين وهم يصبحون اكثر جرأة في فرض وصايتهم على الشأن الخاص وفي محاولة تسفيه المعارضة لمثل هذه الوصاية عبر اختزال الموضوع الى صراع بين رجال الفضيلة (وهم في هذه الحالة هؤلاء السياسيين) وبين "المخمورين" الذين لاهم لهم سوى المطالبة باشاعة "الفسق والفجور" ونشر "السكر والعربدة" في مجتمعنا الاسلامي "المتدين" .
تذكرت لقائي الأول والاخير بابو زيد عندما جاء محاضرا حول الخطاب القرآني الى ايطاليا ، حيث جلسنا على مائدة عشاء واحدة نتبادل الهموم والشجون وكأنني كنت على الدوام تلميذه ، وهو كان على الدوام استاذي . تحدثنا عن الهم العراقي و الهم المصري ، تسائلنا اي مستقبل ينتظر المنطقة وكل من مصر والعراق يتصحران فكريا كما جغرافيا . وادي النيل وبلاد النهرين ، موطنا اقدم الحضارات ، يتنكران لماضيهما ويفقدان الذاكرة تحت وطأة ضربات الاصولية التي انفلتت مع كل صراعات الماضي لتعبر عن معضلة مجتمعات الهامش السياسي ، والاقتصادي ، والثقافي. ضحكنا بحزن ونحن نراجع معلومات تقول ان اكثر الكتب مبيعا في مصر هي تلك التي تتحدث عن عذاب القبور والجان ، واكثر شخص مقروء في مصر لعدة سنوات هو محمد متولي الشعراوي . حدثته عن تحول المجتمع العراقي تدريجيا الى التزمت الديني والاصولية وثقافة التطبير ، وناقشنا الاسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
قلت له انك مقروء من المثقفين العراقيين وكثير منهم يتمنى ان يراك يوما في بغداد ، قال انه تلقى دعوة لحضور مهرجان في كردستان ، لكنه آل على نفسه ان لايكون دخوله الاول الى العراق في مدينة غير بغداد . قال بغداد بطريقة من يعرف كم هي كبيرة وغنية تلك الكلمة بكل مافيها من تاريخ وجمال وابداع وفلسفة وشعر وادب ... قلت له انها اليوم مدينة الكونكريت والتفجيرات والموت والعنف والعويل ... والتطبير.
بعد حوالي شهرين ، رحل ابو زيد . لم ير بغداد ، وذلك افضل لأنه فارقنا وفي ذاكرته حنين الى الف ليلة وليلة وابو نؤاس والمعتزلة ، سيكون مؤلما اكثر ان يستبدل تلك الصورة بعبوس الواقع الذي جعلنا نحن ابنائها واصدقائها وعشاقها القدامى ، ننسى من هي .
برحيله ، مصر تصبح اكثر تصحرا ، اما بغداد فتوغل بالانتقام من نفسها وبالتخلي عن ذاكرتها وبالتحول الى مسخ . عندما داعبتني احلام الحرية تصورت بغداد تستقبل كل المنفيين العرب ، كل الاحرار الذين تلاحقهم انظمة التسلط ومحارق التكفير ، تصورت ابو زيد يقرأ محاضرة في مجمع كليات باب المعظم عن "التأويل والخطاب القراني" ، ومحمد اركون يتحدث في الجادرية عن "تاريخانية القرآن" ، والجابري يحل باحثا لا ايديولوجيا متحزبا كما كان يوما ، مستبدلا وهمه السابق عن الديكتاتور بالحفر في ايركولوجيا "العقل المتسلط" في احدى قاعات الجامعة المستنصرية . لكنهم جميعا رحلو قبل ان تعرفهم بغداد الحرة ، قبل ان تصبح جميلة بما يكفي لاستقبالهم ، متسامحة بما يكفي لسماعهم ، منفتحة بما يكفي لاحتضانهم .
يبدو رحيل الثلاثة علامة فارقة في زمن القحط هذا ، حيث التسامح والانفتاح والتفكير هي ظواهر مدانة ومهددة لما يسميه البعض "هويتنا" . بدلا من ان تقبض بغداد على حرية نالتها بالصدفة ، لتتنفس هواءا نقيا وتجدد روحها المتعبة وتجرب متعة الانعتاق من اغلال التسلط السياسي والفكري ، هاهي تبحث عن الاغلال وكأن لا "هوية" لها الا ان تكون مستعبدة لفكرة ما او لعقيدة ما او لايديولوجية ما ، لاتستطيع بغداد ان ترى نفسها اكبر من مجرد فكرة واحدة ، ولون واحد ، وطعم واحد ، لاتتذكر انها شهدت قبل اكثر من عشرة قرون جدالات فلسفية (برعاية الدولة احيانا) تناولت كل مايمكن للعقل الانساني ان يفكر به ، حدود المفكر به اتسعت الى حدود مايمكن للعقل ان يفكر به . مع ذلك لم تفقد بغداد "هويتها" بل كانت تلك هي هويتها التي جعلت منها بغداد ، الارض التي حلم ابو زيد برؤيتها قبل رحيله .
بغداد اليوم تبحث عن غل جديد ، تريد شنق حريتها الجنينية والحصول بدلا عنها على طمأنينة العبيد : انا آكل ، اذن انا موجود . بدلا من توافد المفكرين والمناضلين في سبيل الحرية ، بغداد تريد ان توصد الابواب ، ان لاتسمع شيئا مغايرا لما يعتقد سدنتها الجدد انه الصواب ، ان تواجه الاعتراض بلم الجموع والقرع على الطبول واعداد المشاعل لحرق الزنادقة والكفار و "المخمورين" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا اريد ان ابكي
مارا الصفار ( 2010 / 12 / 15 - 11:20 )
رغم ان دموعي نزلت بفعل الجاذبية دون ان الحق بمسكها ....تأثرا بوصفك بغداد وتصحرها القادم
مقالك يا سيدي مؤلم .... جدا
لانه واقعي ببساطة
دواوين الزندقة قد دقت اوتادها وغرستها في قلوب اهلنا هناك
ولكنها لن تعمر طويلا
فالعراقيون ادركوا قاتلهم مرة اخرى
ولن يصبروا عليه ...... انها مسألة وقت


2 - ايها الرائحون
اليزيدي عبدمناف ( 2010 / 12 / 16 - 10:57 )
ايها الرائحون ... افيقوا
قد بدا الحق ... مــبينا

قد علمنا ... فاستبينوا
ان نارا ... تكتـــــويـنا

غادروا ارض العراق
وبلاد ... (الله ) سينا

حيث ... للمـــــــوت يدُ
خلف اسوار ... المدينا


3 - ايها الرائحون
يحيى بن سرحان اليزيدي ( 2010 / 12 / 16 - 10:58 )
ايها الرائحون ... افيقوا
قد بدا الحق ... مــبينا

قد علمنا ... فاستبينوا
ان نارا ... تكتـــــويـنا

غادروا ارض العراق
وبلاد ... (الله ) سينا

حيث ... للمـــــــوت يدُ
خلف اسوار ... المدينا

اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س