الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية العراقية واستلاباتها المتعددة

حارث الحسن

2011 / 1 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



بغض النظر عن الارتباك الاصطلاحي واللغوي والفكري الذي تثيره كلمة العلمانية ، وبغض النظر عن التأصيل التاريخي لها والتباين في استيعابها وفهمها بين الحقل الثقافي الغربي وغير الغربي ، الا ان شيوعها يجعلنا نفضل استخدامها على معظم البدائل المقترحة في الخطاب السياسي والفكري السائد مثل "اللادينية" او "الليبرالية" او "الالحاد" . فالعلمانية كما افهمها هي موقف فكري يجد مرجعيته في خطاب الحداثة والتنوير الذي يمركز العقل ويقدمه على اي سلطة ذات اصل غير عقلاني . المشكلة التي واجهها "العلمانيون" العراقيون والعرب والمسلمون هو في التعامل مع العلمانية كملحق لايديولوجيات اخرى ، بمعنى انه لم تكن لدينا حركة تنظر للعلمانية بوصفها عقيدتها الاساسية ونظامها الفكري الرئيسي ، بل دائما ما كانت العلمانية مفيدة لافكار اخرى وخاضعة لها ، هكذا كان الامر مع علمانية اليسار ومع علمانية التيار القومي ومع علمانية من يسمون انفسهم اليوم بالليبراليين .
مع اليسار كانت العلمانية ضرورة لتعزيز التفسير المادي التاريخي ولعزل الدين بوصفه "ايديولوجيا" الاقطاع و"افيون الشعوب" ، ولذلك كان اليساريون علمانيون بقدر ماكانت العلمانية قابلة للاستخدام ضمن منظومتهم الايديولوجية وفهمهم للصراع السياسي والاجتماعي ، ولكن منذ انهيار المعسكر "الشيوعي" وانتكاسة اليسار ، صار البعض ينظرون بـ"دهشة" لتحول الكثير من اليساريين في منطقتنا الى حلفاء للاسلاميين وبما يشبه اعلانا بالتخلي عن علمانيتهم ، لكن هذه الدهشة ستزول ان فهمنا ان العلمانية لم تكن قضية اليسار الرئيسية كما انها ليست بالضرورة مدخلا للتحرر من الاستغلال والتهميش الاجتماعي والطبقي سواء داخل حدود الدولة او في اطار العلاقات العابرة للدول . الثورة الايرانية وصعود حركات اسلامية مناوئة للغرب ولنظام الهيمنة الراسمالي ، بل دمج الكثير من هذه الحركات للخطاب اليساري الكلاسيكي في لغتها السياسية عكس تحالفا بين اليسار وشكل معين من الاسلام السياسي ، ذلك الذي يتجه الى تحدي نظام الهيمنة العالمي والانظمة الديكتاتورية المستندة في وجودها عليه .
مع التيار القومي كانت العلمانية ضرورة لاستيعاب الطبقات الاجتماعية الجديدة التي كانت اخذة في الظهور خلال الحقبة مابعد الكولونيالية وكانت تعبرعن مطالب وطموحات وخلفيات اجتماعية مغايرة لتلك التي عبرت عنها الطبقة التقليدية التي غالبا ماكانت متحالفة مع القوى الكولونيالية ومع الاسلام التقليدي ، افراد هذه الطبقة الجديدة غالبا ماحصلوا على تعليمهم في ظل الدولة "الوطنية" ودخلوا الى الجيش او تم استيعابهم في احزاب راديكالية ، وكان يسعون الى التخلص من سيطرة النخبة التقليدية وبنفس الوقت كانو ميالين لايديولوجيا الحداثة بالنمط الذي عرفته الانظمة العسكرتارية او انظمة الحزب الواحد في المعسكر الشرقي وفي ظل الحكم النازي والفاشي . كانوا ايضا يمثلون للغرب بديلا افضل من اليسار في استيعاب الحراك الاجتماعي وفي تقديم فكرة التحرر "الثقافي" كبديل عن التحرر الاجتماعي وهو ماكان يناسب الغرب في وقت تراجعت معظم الدول الكولونيالية عن مواقعها وبدأ عالم مابعد الحرب الباردة يتشكل وماعادت النخب التقليدية قادرة على استيعاب هذا الحراك . من هنا كانت علمانية القوميين رد فعل على الاسلام التقليدي كما محاولة لتحقيق الاندماج الاجتماعي والتحديث "القسري" الذي كان يتطلب ضرب القوى الاقطاعية التقليدية واضعاف المنظومة الدينية بوصفها عائقا امام هذه السياسة . ولكن في زمن حكمهم استخدم القوميون الدين لضرب القوى اليسارية التي ارادت زخما اكبر في التغيير الاجتماعي وردم الفجوات الاقتصادية والاجتماعية ، ولضرب القوى الليبرالية التي كانت تريد مزيدا من الحريات ، في تلك المرحلة تحديدا بدأت تظهر مقولات من مثل ان "الاسلام هو روح العروبة" وتراجع البعث عن موقفه المحايد بين الدين والالحاد ، واشهر ميشيل عفلق اسلامه ، ووصل البعث في مرحلة ما الى تبني شعار "الحملة الايمانية" . مرة اخرى وكما هو الحال مع اليسار لم تكن العلمانية سوى استراتيجية مرحلية عند القوميين .
اخيرا ظهر في المنطقة العربية خلال العقد الاخير من يسمون انفسهم بالليبراليين ربما اعتقادا منهم بان كلمة الليبرالية اخف وطأة من العلمانية في مجتمعات تميل الى التوجس تجاه الكلمة ، لكن هذه الليبرالية سرعان مافقدت معناها حينما صارت مظلة لكل من يتخذ موقفا سلبيا من القوى السياسية الرافضة لعلاقات الهيمنة السائدة اقليميا ، وتم اغتصابها من الماكنة الاعلامية لدول البترول التي صارت تستضيف كل الحانقين على التيارات الرافضة للوضع القائم في المنطقة ولعلاقات الاستتباع بين النظم الحاكمة والمصالح الدولية "النيوليبرالية" . لذلك سرعان مانأى الكثير من المثقفين والمفكرين ذوي النهج الملتزم بأنفسهم عن هذه الموجة واختطوا خطا مستقلا لايؤجر علمانيته لقوى يمينية مرتبطة بمصالح الرأسمال الدولي ومشيخات البترودولار ، ولايحول نقده للفكر الديني الى وسيلة للانتقاص من ثقافة الغالبية ، واشير هنا على سبيل المثال الى اسماء معتبرة من مثل برهان غليون وسيد القمني وصادق جلال العظم وعلاء الاسواني ونصر ابو زيد واسامة انور عكاشة واسعد ابو خليل .
الكثير من "الليبراليين الجدد" في العراق هم ايضا بعيدون عن معنى الليبرالية كتيار انساني يقوم على اولوية الديمقراطية واحترام التعددية وتمكين الانسان تجاه السلطة . هؤلاء الذين حاولوا تركيب الليبرالية على توجهات سياسية في جوهرها مغايرة للهم الليبرالي كان بينهم شخصيات سياسية وثقافية مرتبطة بالانظمة العربية المتسلطة وعلمانيتهم تتسم بالسطحية والبراغماتية المفرطة ، والكثير منهم هم نماذج للمنطق العدمي الذي بات يسود العديد من الاوساط السياسية والثقافية في المنطقة بفعل الانتكاسات وخيبات الامل الكثيرة. وهؤلاء لاتشغلهم ابدا اشكالية تأصيل العلمانية وطرحها كخيار شعبي بديل عن الاسلام السياسي ، بل انهم يريدونها كخيار تسلطي يقام "رغم انف" الاغلبية التي لايستطيع احد انكار انها متدينة او ترى في الدين مرجعيتها الاساسية . لذلك ليس غريبا ابدا ان ترى زعامة هذه "الليبرالية" في العراق منهمكة بالتواصل والتعاون والتحالف مع انظمة المشيخات والملكيات المستبدة لخدمة مشروعها الذي يهتم بالعلمانية فقط من حيث كونها وسيلة لضرب تيارات الاسلام السياسي وادراج العراق تماما ضمن نظام الهيمنة الاقليمية والعولمة النيوليبرالية. وللاسف فان الكثيرين وقعوا ضحية هذا الشرك لمجرد انهم كانوا يتطلعون الى تمثيل علماني ووجه اكثر حضارية بمواجهة فشل بل وانحطاط معظم افراد الطبقة السياسية الاسلاموية .
من هنا يبدو لي ان العلمانيين العراقيين اليوم في مواجهة تحدي مهم جدا يتمثل في تعريف القضية العلمانية وعدم قبول العلمانية كمطية لايديولوجيات بديلة جلها استخدمت "في الحكم" ممارسات قمعية ، وغالبا ماتخلت عن "علمانيتها" عندما تطلبت مصالحها ذلك . اعتراضات العلمانيين العراقيين مؤخرا ضد السلوك التسلطي والنزعة الثقافوية الارتدادية والتدخلية للاسلامويين ، على الرغم من محدودية تاثير هذا الاعتراضات وخبوها المحتمل ، يمكن ان تمثل بداية لطريق طويل تصبح فيه العلمانية بالتعريف الذي اقترحته بداية المقال قضية حقيقية . ولاجل ذلك لابد لهذه العلمانية اولا من ان تحرر نفسها من القوى السياسية التي ارادت استخدام الشعار العلماني لغايات اخرى ، وان لاتسمح بتوظيفها ايديولوجيا وسياسيا لأهداف لاعلاقة لها بمايفهمه العلمانيون عن مبادئ الحداثة والتنوير . ان التغول التدريجي لقوى الاسلام السياسي سيضع العلمانيين امام تحديات حياتية صعبة وقد يهئ ظروف الانزلاق نحو شكل جديد للدولة الايديولوجية الاقصائية ، ولكن قوة هذا التحدي وجنينيته هما بالضبط مايجعل العلمانية في وضع الاستجابة ، بداية بتعريف نفسها والتحرر من كل ماعلق بسيرتها عندما كانت مجرد اداة ، عندها سيكون بامكان العلمانية ان تكون نفسها ، مشروع واضح للتغيير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س