الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعيداً عن الدَولَتيّة، وسلطة الرمْلِ،البحثُ عن حياةٍ أفضل!

آکو کرکوکي

2011 / 1 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


مازلت أتذكر اكتوبر الماضي، حين أفتتح الرئيس المصري حسني مبارك، القمة العربية الأفريقية، في سرت الليبية، بصفتهِ شيخ الرؤساء او"رئيس السن"، بين زعماء الامة العربية . ومبارك الذي بلغ من العمر أثنان وثمانون سنة، قد قضى قرابة خمسة وثلاثون منه في الحكم، سواءً كنائب أو كرئيس للجمهورية، تمرن خلالها على إلقاء الخطب الرنانة، وعبارات الشجب، والتنديد، والإدانة. كاد فصاحتهُ، وسلامة لغتهُ، ومهاراتهُ الخطابية أن تكتمل فعلاً، لولا عُقدة حرف الجيم اللعينة، التي مازالت تلاحقه وتصحبه كظله في كل خطبة ومناسبة. و يبدو أنهُ سيُورثها مرغماً مع السلطة، الى نجلهِ من بعدهِ. ولكن في أجل مجهول، و غير معلوم، لحد الآن. حيث لايبدو عليهِ، بأنهُ ينوي أن يبرَحَ مكانه، في القريب العاجل، وحتى بعد تخطيه سنهِ التقاعدية، بأثني عشر سنة!

وفي جواره جلس زميلهُ الليبي مُعمر القذافي، الذي بلغ بدورهِ، من العمرِ، ثمان وستون سنة، قضى إحدى وأربعين سنةً منهُ في الحكم(اي حوالي ثلثي عمره). القذافي وبالنقيض من مبارك، فلقد حرر نفسهُ من رتابة الخطابات المعُدّة سلفاً، وعُقدة حرف الجيم والقاف وماشابه، والتزم بعفويتهِ الفطرية، ليُعلقَ على الشؤون السياسة كمُعلقٍ مُشاكس، لم يفصح لسانه بعد. حيث يُدمدم بكلمات مشوشة تارةً، وبأصواتٍ وخرخشاتٍ مُضجرة تارةً أخرى. والجدير بالملاحظة إن هذه المدد القياسية في الحكم، نادراً مايُسجلُ خارج المجال العربي. لإنهُ وخلال تلك العقود الأربعة الماضية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها، قد غيرت ثمان رؤساء، وكان لهذا الرقم أن يزداد لأثني عشر رئيساً، لو أكتفى أربعة من هؤلاء الرؤساء، بدورة واحدة فقط.

ولكن الزعماء العرب، في سرت لم يجتمعوا لمقارنة أعمارهم وسنين حكمهم مع بعضهم البعض، بل لكي يصدروا بياناً يُندد بمحاولات تقسيم جمهورية سودان الشقيقة، ويطالبوا بأحترام سيادتهِ ووحدتهِ وسلامة أراضيهِ، والدفاع عن هويتهِ العربية الأسلامية، كما دأبوا من قبل أن يرددوا نفس الشعار والمطالبة، حول وحدة المغرب، والجزائر ،والعراق، ومصر، ولبنان، وسوريا، وجمهورية يمن التعيسة أيضاً. حيث إن كل هذه الدول، لديها نفس المرض، وتعيش نفس الكابوس. وهاجس النزعات الأنفصالية وحلم الدولة والاغتراب يراود مخيلة ووجدان، الكورد والأمازيق والأقباط والطوائف المسيحية والشيعية وغيرهم من الجماعات والملل، التي تعيشُ مُرغمةً، ومُجبرةً، بين ظهرانيها.

وكان القذافي قد شرع بالإعتراض على هذا الامر، لسبب وجيه، ومهمٍ جداً في رئيهِ، الا وهو: إن أطفالهم في المدارس الليبية، قد تعودوا على رسم خريطة سودان الحالية، وكما هيّ ، وبإن أطفالهم غير مستعدين ليتعلموا، رسم خارطة جديدة لسودان!

والشعار الذي يرفع عنوان الحفاظ على الهوية العربية الأسلامية، و سيادة ووحدة الأراضي، لتلك الدول، ومنها العراق طبعاً، كانت تلفتُ انتباهي. لأنها كانت تتكرر دوماً، وفي نهاية كل الخطابات والبيانات، ولكل الدول العربية، وبمناسبة أو حتى بغير مُناسبة.

في البداية كنت أعتقد، إن إحترام وحدة وسيادة الدول، لهو امرٌ روتيني، لإنها جزءٌ من أحترام الدول للمعاهدات التي تربطها مع بعضها البعض، وإحتراماً للقانون الدولي بصورة عامة. إلا إن تلك القناعة الرصينة، بدءت ركائزها تهتز في ذهني، شيئا فشيئا. وذلك حينما بدءت أسمع، بين الفينة والأخرى، مطالبات خجولة، بتقسيم إيران واستقلال الاهواز ، أو إستعادة وتحرير أسكندرون من تركيا، ولكنها في الحقيقة بدءت تنهار كُليةً، عندما تعلق الامر بأسرائيل، حين أعاد القمة طلبهم القديم الجديد، في حق الفلسطينين في إقامة دولتهم، والاستقلال عن اسرائيل. ورغم إن هناك، على الأقل، دولتان، هما: مصر والأردن، ترتبطان بمعاهدات سلام مع إسرائيل. ورغم إن القذافي، وفي مشاكسته المتكررة، لطالما طلب من الفلسطينين، أن يعيشوا في كنف دولة اسرائيل الواحدة والموحدة، في سلام وود وطمأنينة مع اخوانهم اليهود. ورغم إن كل هذه الدول المشاركة في القمة، مثلهم مثل اسرئيل، هم اعضاء في الأمم المتحدة، وتسري عليهم بالتالي نفس القوانين الدولية. إلا إن الجماعة أتفقوا وتوحدوا، على المطالبة بضرورة إستقلال الفلسطينين عن إسرائيل، وإقامة دولتهم المستقلة.

وبالتاكيد سيتبع هذا تقسيمٌ لاسرائيل وتغيرٌ لخارطة فلسطين أيضاً، تلك الخارطة التي تعودنا على رسمها ونحن أطفال كما تعود أطفال ليبيا على رسم خارطة السودان، تلك الخارطة القديمة والتي كانت تشبه الخنجر في شكلها، والتي جعلتني ولمدة طويلة أعتقدُ متوهماً، إن عبارة " إسرائيل خنجرٌ في خاصرة الأمة العربية"، قد قيلت، لأن خارطة فلسطين تشبه الخنجر و تتوسط ما يسمونه " الوطن العربي". نعم تلك الخارطة ينوي الجماعة اليوم تقطيعها أرباً أربا. وياللمفارقة !!

لم يكن هذا إلا توهماً وتخريفٌ مني بالطبع، ليس فقط لأني، شابهت بين الصورة المجازية، التي رسمتها الأيدولوجية القومية العربية، في اذهاننا، عن إسرائيل وعن الوطن العربي، وبين الصورة الجغرافية، التي رسمتها القوى العظمى، لخارطة فلسطين، وكل دول الشرق الأوسط، في بدايات القرن المنصرم. وليس أيضاً، لأن إسرائيل لاتمثل خطراً على تلك الدول والانظمة حقاً، بل هي لربما كذلك فعلاً ، بمخابراتها وعلاقاتها الدولية وديمقراطيتها ووحدة شعبها، ولكن لأن الخرافة كانت تحاول أن تتخبى، بين ثنايا العبارة التي توهمنا بوجود شئٍ إسمهُ الوطن العربي، يمتدُ من الخليج الى المحيط وحتى الاندلس.

فهذه الأيدولوجية القومية العربية، مازالت تُرددُ أدبياتها وبدعها السياسية الذاتية علينا، خلال اليوم الواحد، العديد من المرات. بدعٌ ومفاهيم من قبيل: الوطن العربي، والأمة العربية، والخليج العربي، وجامعة الدول العربية، والهوية العربية الأصيلة للعراق، ولعلان ولفلان، وحتى للارض، والجنة، والملائكة، والنبي، والأسلام، والقرآن، واللة أيضاً. فكلهم أجمعين، يتحدثون العربية، وبالتالي يحملون هويتها، حسب رئيهم!

لا بل إن أختيارها لمفاهيم وعبارات مثل: إنفصال جنوب السودان، او الحلم والأنفصال الكوردي من جهة، والأستقلال والتحرير والحق الفلسطيني، من جهة أخرى، لم يأتي أعتباطاً. فالفصل هو تجزئةٌ وتمزيقٌ، للكيان الواحد، وهيّ بالتالي خيانة ورذيلة. في حين الأستقلال والتحرير، هيّ رفعٌ، لغبن وأحتلالِ كيانٍ لكيان آخر، فهي بالتالي حقٌ وشرفٌ وفضيلة.

لرب قارئ أو حتى الكثير من القراء، سيلومونني وينتقدونني لِهكذا مقارنة، وأعني بين حق الفلسطينين العرب بتقرير مصيرهم بحرية، وإنشاء دولتهم المستقلة، وبين الجنوبيين في السودان، اللذين صوتوا للأنفصال عن الشقيقة السمراء!


وأقول للقارئ هذا: إني مع المبادئ الأنسانية، وفي شجب إضطهاد الناس، وسلب أرضهم وحريتهم وأستعبادهم، بأسم الدين أو غيرهِ من الأيدولوجيات، وإني لأقف معهُ، ومع هذا الانسان، في نيل حريتهِ وتقرير مصيره وبحثهِ عن واقعٍ أفضل. ولكني في نفس الوقت، يعتريني الشك والريبة، في أن يبقى، هكذا قارئ، يشاطرني نفس المبدء، فيما ساقولهُ لاحقاً. ويخال لي ذلك، لأني سأسعى لأعمم ذاك المبدء، والذي سأسميه (مبدء حق تقرير المصير والبحث عن حياة أفضل)، في كل مكان وزمانٍ وعلى كل دين وشعبٍ وملة. ولأني كما ذكرت سلفاً، أن الوطن العربي والوحدة العربية، ومايسبقها ويلحقها ويتبعاها، ويُشتق منها، من مفاهيم، لا يحظى عندي بأي أساسٍ موضوعي، فهي خلجات ورومانسية، أعترت ومازالت تعتري الذات القومية العربية.

والذات القومية العربية، كانت قد اعادت بعض النخبة، خلقها من جديد، وكان هذا في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات وأواساط قرن العشرين، واعني ههنا الأفغاني وتلاميذتهُ: الكواكبي ومحمد عبدة، ومن بعدهم، الحُصري، وفيما بعد البعثيين والناصريين أيضاً. والمعروف إن الرومانسية القومية التقليدية، تميل لأن تسبغ على جماعاتها، أبعادٍ تأريخية سحيقة. وهكذا فعلت النخبة العربية.

أما النزعة القومية والدولة القومية، بمفهومها الحديث، فهي فتية العمر، وكانت نتاجٌ غير مقصود لِجُملةٍ من التحولات الأجتماعية والأقتصادية والفكرية، التي سادت أوروبا في القرن السادس عشر الى التاسع عشر، من علمنة ولبرلة وتحديث وتصنيع وتمدين. أعطت للذوات والنزعات القومية في النهاية بُعدٍ موضوعي، تمثلت بالدولة القومية والامة. ولكن هذه التحولات لم يكن تأثيرتها قد عبرت حدود الغرب، إلا على شكل قوى كولونيالية وأفكار نظرية. ولاحقاً أنتخبت هذه القوى الخارجية، شعوباً وجماعات معينة، وحسب رغباتها ومصالحها حينئذ. لتبني لهم دولٍ قومية ولكن دون ان تطال تلك المجتمعات، تحولاتٍ كالتي سادت اوروبا لتُنقذها من تقليدتها.

أما تقليدية المجتمع العربي، فجليٌ بتشابك وشائج ثقافة المجتمع مع البداوة، الذي تجذر في الأسلام والأسلاموية أيضاً. ولا بأس إن أعدنا موضوعة البداوة هذه، الي أذهاننا مرة أخرى، ومن خلال أطروحة أبن خلدون، أو آراء الوردي، أو حتى كتاب رافائيل باتاي (العقل العربي). فالبدوي هو العربي الذي يعيش في البيداء (الصحراء)، معتمداً في معيشتهِ على رعي الأبل، ومتنقلاً في الصحراء، للبحث عن مراعي لها، والبيئة الصحراوية بيئة قاسية، تختزل مكوناتها في رملٍ وشمس حارقة في النهار، وبرٍد قارس في الليل، تدعو الحاجة الأقتصادية، والظروف البئية القاسية، وقلة المراعي، الى تكتل البدو، على شكل قبائل تقوم على رابطة الدم او النسب، يحمي بعضهم البعض، وتقوم كل قبيلة بالأغارة على القبائل الأخرى، لكي تنهب ممتلكاتها ولتسد بعض ماينقصها من متطلبات معيشية ومادية. والفرد هناك ولكي يحمي نفسهُ، يجب أن يمتثل لقيم القبيلة.

والعصبية تلك والتمسك بها، كانت وراء إشتقاق القيم والمعايير الأخرى، من شجاعة والشهامة والكرم والشرف عندهم. فهي قيم اكتسبت محتواها الأخلاقي، حسب المعيار البدوي، فقيمة الشجاعة في سلب الآخرين مثلاً، هيّ جزءٌ من التأكيد على قابلية البقاء في تلك الظروف القاسية، وكل هذه القيم، والألتزام بها، هي محاولة، من الفرد، لكسب أحترام ورضى وحماية الجماعة. وفي رئي أبن خلدون، فأن تلك العصبية، بمماهاتها مع الأسلام، كانت وراء النجاحات التي حققها العرب، في غزواتهم أبان عصر الأمبراطورية الأسلامية حينها. وأستيلائهم على مساحات شاسعة، فأُدخل سكانها عن رِضاً أو عنوةً، الى الأسلام، ومن بعدهِ الى العروبة. ولكن وبعد زوال تلك العصبية، وبسبب إنشغالهم بالملذات، ونشؤ أمبراطوريات أخرى، أفِلَّ نجم العرب، وفقدوا سُلطانهم. وحينها وحسب فالح عبد الجبار ، فأن القبيلة عادت لتكون، أكبر تركيب سياسي، يمكن ان تبقى على قيد الحياة، وتستمر في البيئة الصحراوية،التي كانت واقعة تحت سيطرة أمبراطوريات عديدة ومتعاقبة، كانت آخرها الأمبراطورية العثمانية.

أما ولادة، تراكيب سياسية أعقد، كالدولة بمفهومها الحديث مثلاً، فكانت تحتاج الى أقتصادٍ يزيد فيه الانتاج على الحاجة، كي تستطيع تمويل مؤسسات استهلاكية كالتربية والجيش وماشابه، وهذا لم يكن ممكننا الا بعد إكتشاف النفط. وتزامن هذا الأكتشاف مع مجئ أو حتى بفضل القوى الكولنيالية الأوروبية، وفيما بعد أنتخابها الأنتقائي للشعوب. لكي تصنع لهم دولاً حديثة، على غرار دولها هيّ.

وبهذا الصدد يحضرني الآن، واقعة طريفة، أوردها المستشرق الألماني كارل ماي، في كتابه عن خط بغداد للسكة الحديد. حيث يقول: إن لورانس( الآثاري وضابط المخابرات البريطاني)، عندما طلب من فيصل أبن الشريف حسين (ملك العراق لاحقاً)، أن يساعدهُ في أعماله التخريبية ضد خط سكة حديد الحجاز، والعثمانين بصورة عامة، مقابل وعدٍ منهُ بمنحهم دولة مستقلة. فإن فيصل أبن القبيلة الصحراوية لم يوافق على العرض، الا بعد أن لُبيَّ طلبهُ، بمنحهِ مئة الف جنيه أسترليني كراتب شهري، وتم له ذلك. ولربما لم يجد فيصل، من مسئلة تأسيس الدولة، بالمكافاءة المرضية لهكذا عمل!

إذن الدول العربية أُسست بفعل القوى الخارجية، وبنيتها قبلية، تربط أجزاءها العصبية البدوية. وجاء النفط ليسد الحاجة الاقتصادية لها. ولكن الأشكالية الأخرى التي ولدتها مجئ النفط، هي السلطوية، فبسبب ملكية النفط للدولة فجعلت الدول تلك، تحكم بأنظمة تشبه الزعامات القبلية، من حيث إنها أبوية، ورعوية، وسلطوية، ووراثية (عائلوية)، وأزلية. بحيث تجعل من القذافي وزيد وعمر، أن يجلسوا الفرقصاء في كراسيهم، غير آبهين ومطمئنين، والى أبد الآبدين، ليورثوها لخلفهم وأبناءهم وذريتهم من بعدهم. أما العصبية والروحية البدوية بهذا الشكل، فهي بالضد من النزعات الفردانية واللبرالية، فالخروج عن سلطة المجتمع القبلي، هو الأنتحار والهلاك بعينه. والابوية وتماسك الجماعة، باتت تضاهي تماسك الدولة نفسها. فهي أذن الحارس الأمين، على وحدة الجماعة والدولة والقبيلة تلك، ضد كلُ من تسول له نفسهُ، أن يعبث بوحدتها وسيادتها وسلامة أراضيها وسلطانها!

اما ريوع النفط فتجعل الجماعة في غنى عن التصنيع. وملكية الدولة للأنتاج، ولكل شئ تقريباً، تجعل من فُرص الرأسمالي الحر، ضئيلة في إنتاج مجتمعٍ مدني حُرّ، ورعوية الدولة تمنحها السلطان الابوي. لذلك فأن الحداثة والديمقراطية، لم ولن تجد طريقها الى تلك الدول. ومن نافلة القول إن الروح البدوية هي بالأصل خليقة البيئية الصحراوية القاسية، والعاملان الحاسمان هنا، هما الشمس الحارقة، والرمل الجاف. لذا يمكن القول مجازاً إنها سلطة الرملْ، كما وصفها القباني من قبل.

ولننتقل هنا، من مجال البنية الأجتماعية البدوية لهذه الدول، الى مجال الفضاء السياسي، الذي صاحب نشؤها، ففي حين إن الدول المصطنعة تلك، جاءت بسبب إنتخاب القوى الأستعمارية، لتلك الجماعة حصراً، الا إن هذا النشؤ جاء بالتوافق مع بعض طموحات النخبة القومية العربية، السالفة الذكر. صحيحٌ إن الدولة العربية الواحدة، بقت في إطار الطموحات غير المتحققة، إلا إن الدول المصطنعة الجديدة، تنفع لتكون نواة هذا الطموح الكبير. فشرعت تلك النخبة لتصبغ كل مافي الدولة الجديدة بلونٍ عربي، وصارت تنُظرُ، وتُبررُ، وتُفسرُ، وتُؤولُ، لوجود وبنية وشرعية هذه الكيانات المصطنعة، طبعاً حسب أهوائها، وتعطيها بالتالي أبعادٍ تأريخية وإجتماعية وسياسية خيالية. لتصورها على إنها ولادة إجتماعية سياسية حتمية وطبيعية. مُتجاهلةٍ حقيقة كونها كيانات مُصطنعة بفعلٍ خارجي.

لم يستند حتى التنظير والتفسير هذا، الى منهجٍ ذاتي، بل حتى هذا، كان فيه أستيرادٌ جم للأفكار الغربية. وأذا تأملنا أفكارهم وأفكار من يسير على نهجهم اليوم، يمكننا وبكل سهولة ان نتلمس المحور الذي يدورون حوله، في مناقشاتهم وطروحاتهم. الا وهو تقديس الدولة، وتركيز السلطات في مركز واحد، او حتى بيد رجل واحد. وهي أسهل الطرق وأفضلها لخلق الديكتاتوريات، حيث إن السلطة والمعرفة مسئلتان متتامان، فكلما زاد السلطة أزادت المعرفة اللازمة لأدارتها، وبما إن قدرات الأنسان العقلية محدودة، فكلما زادت سلطته كلما قلت معرفته، والعكس صحيح، وبالتالي يتمم المعرفة السلطة بعضيهما البعض، وينتجان دائماً نفس الوحدة.

أما تقديس الدولة فهي من بنات أفكار الأيدولوجية النازية والفاشية. حيث الدولة هي المطلق والناس نسبيين. أو كما يقولون "ليمت الناس جميعا فداءاً للوطن"، أو حين يتردد عبارة "العراق العظيم" مثلاً، أو "الوطن والوطنية" على مسامعنا في تكرارٍ يوميٌ مُمل، وهستيري بعض الشئ. والوطن ههنا، هي فقط التسمية الرومانسية، فهي في الأصل، إستعاضةٌ ذكية عن "الدولة القومية". أما النزعة لمنح الدولة القدسية والسلطات، على حساب المجتمع المدني، فيسمى في أدبيات علم السياسة بالدولتية.

وهناك أيدلوجياتٍ أُخرى كالماركسية والأشتراكية وحتى بعضٌ من الليبرالية مثلاً، قد سادت الأفكار في تلك البلدان ولفترات طويلة نسبياً، حيث إنها لاتولي مفهوم الدولة دوراً رئيسياً بل ثانوياً. ففي حين ترى الماركسية، الدولة، كحالة ثانوية ومؤقتة وضرورية فقط، لحد تحقق الشيوعية، وإن القوانين والمؤسسات والأنظمة السياسية، في مجملها غطاء للحالة والقوى الأقتصادية السائدة. فإن المرء يجد عند الليبراليين، مقتٌ وكرهٌ للدولة. لأنها تُقيد المجتمع المدني، وتحتكر إستعمال العنف. ولا يمكنهم أن يعيشوا الا في الدولة الضعيفة الحارسة لممتلكات الناس. إلا إن المثير في الامر، بإن الأفكار الفاشية هي التي طغت على تعريف ومفهوم الدولة ودورها، لدى معظم النخب العربية. فما السر في ذلك؟

ومهما تبصرنا في المسئلة ودفعنا الأثارة، فلا يمكننا أن نؤول هذا السر، إلا بتطابق ميول التعصب والأنتماء البدوي للجماعة، وقدسية وحدة القبيلة ، وسلطتها ورعايتها للفرد، أقول بتطابق، هذا مع ميول الفاشية لتقديس الدولة والأمة، وضرورة الحفاظ على وحدتها بكل ثمن، وضمان سلطانها على رعاياها. فالفاشية، دخلت بالتالي الى أغوار القومية العربية، وتناغمت وتشابكت خيوط أفكارها وتفسيراتها، مع مفهوم الدولة، والأمة في النظرية القومية العربية.

واذا كان التغيير والتطور هما ناموسي الكون بلا منازع، فأن القومية العربية، وانظمتها، وسلطانها، على الأقوام والأثنيات والشعوب التي تحكمها، وأقصد هنا حتى العرب أنفسهم، ليسوا بمناءى عن هذا التغيير. لقد حكم العثمانيون لقرون، ولكن الحرب العالمية الأولى، والنزعة القومية التركية، والحداثة الأوروبية، كانت من الأسباب المباشرة، لأنهيار الأمبراطورية العثمانية. وكانت قبل أن تلهث أنفاسها الأخيرة، قد أكتسبت أسماً جديداً وهو (الرجل المريض). واليوم بعد أن عصف بالعالم هزات وتغيرات عظيمة، من أنهيار الاتحاد السوفيتي، وتحول العالم الى أحادية القطب، أو تعددية الأقطاب، الى العولمة والثورة المعلوماتية...الخ. او حتى الأفرازات الداخلية، لهذا النظام العروبي، من إرهابٍ وكراهية وتخلفٍ وقمعٍ...الخ. كلها تشارك معاً لتمنح اليوم تسمية (الرجل المريض)مجدداً للنظام العربي، الآيل للأنهيار.

فاليوم نجد إن أصوات الأثنيات، والقوميات، المطالبة بحق تقرير المصير، قد أرتفعت، وبدءت بالفعل، تجني ثمار نظالاتها ومساعيها ومحاولاتها العديدة، وتضع نهاية لمعاناتها الطويلة مع تسلطية وفرضية القومية العربية، وكما نشهده اليوم في جنوب السودان، ونأملهُ غداً لكوردستان. ولباقي الشعوب الأخرى. فهي فرصة لحياة أفضل.

ونقول فرصة، لأن الأنسان، وفي مجمل معرفتهِ، وعلمهِ، وتأريخهِ، وسياستهِ، وليس فقط الأنسان، بل كل الكائنات الحية، أعتمدت ومازالت تعتمد، على منهجية المحاولة والخطأ. فالحقيقة المطلقة، والجنة الموعودة غير مُدركة. والمحاولة هي دائماً للأقتراب منها، أي الانتقال من حالٍ معين الى حالٍ أفضل، في عملية تطورية، يلعب النقد الواعي، دوراً كبيراً في إستبعاد الفرضيات والمحاولات الخاطئة فيها. وكما يشبهها كارل بوبر في كتابه (بحثاً عن حياة أفضل)، بحال الأمبيا والعالم العظيم آينشتين. فالامبيا عندما تجابه بظروف بيئية جديدة، تحاول التكيف مع هذه الظروف، بإحداث تغييرات جينية فيها، وكذلك آينشتين عندما يجابه بمشكلة فيزيائية جديدة، فأنه يحاول أن يجد لها تفسيراً وفرضية جديدة. المهم في الأمر، إن محاولة أو فرضية الأمبيا إن نجحت، أنتجت كائناً جديداً، وحسنت بالتالي ظروفها، وتطورت نحو الأفضل، أما إذا فشلت فمات الكائن بفشل وخطأ محاولتها. أم مايميز محاولة آنيشتين، فإنها إن نجحت ساهمت بتقدم العلم والمعرفة، وإن فشلت تعرضت للنقد وبدلت بفرضية أخرى. كلاهما محاولة ليست بخالية من الخطأ، ولكن إحداها محاولة أحادية التفكير، تفتقر للنقد، وتتسبب في حال فشلها، بموت حاملها. والأمر المهم الآخر، إن عملية التطور هذه، لم تعد فكرة الأنتخاب الطبيعي الخارجي، تلعب الدور الرئيس فيها، بل إن محاولات الكائن نفسهُ، أي الإنتخاب الداخلي، تأتي لتتوافق مع الأنتخاب الخارجي. أي بعكس التفسير الدارويني الكلاسيكي: في إن البقاء للأصلح، والأصلح يحدده الطبيعة أو العامل الخارجي.

القومية العربية، وأحلامها الكلية النزعة، الفاقدة للنقد الواعي، والغارقة في تخلف التقليدية، وبعد تجربتها لمدة تناهز القرن، في طريقها اليوم الى الموت، لعقم محاولاتها، وفشلها بمجاراة التغيير العالمي. أما الشعوب المضطهدة، فلديها اليوم فرصة، لكي تحقق حياة أفضل، بتقرير مصيرها بنفسها، وخاصة إننا نعيش اليوم عالم جديد، لا يقتصر فيه القرار على الأنتخاب والأختيار الخارجي (القوى الدولية العظمى)، وكما كانت قبل عقود، بل للأنتخاب والأختيار الداخلي النابع من رحم الشعوب هذه، دورٌ أيضاً.

تبقى على هذه الشعوب (في جنوب سودان، أو كوردستان، أو غيرها)، أن تعتمد على النقد الواعي في محاولاتها، لكي تتخلص هي أيضاً من تقليديتها وعوامل الضعف التي شابت المحاولة العربية، ولا تحاول أن تحاكيها وتقع في شِراك إغراءاتها الرومانسية، لأنها ستلقى ببساطة مصيرها. فلا يفوت المراقب، بوادر الزعامات الوراثية، والولاءات والعصبيات القبلية والحزبية. والمماهاة بين الدين والسياسة، التي تلحظها في بنية النشاطات السياسية لتلك الشعوب، وفي مقدمتهم الكورد، والفلسطينين.

وهذه التجربة الفاشلة للقومية العربية، حريٌ بنا أن نتجنبهُ، لأنها لم تكن قد أضرت هذه الشعوب فقط، بل هيّ ورّطت الشعب العربي نفسهُ بدكتاتوريات وهزائم وتخلف ، بحيث جعل رائد الرومانسية العربية الحديثة، وعاشق العروبة، يُكفرُ بالعروبة ويقول: إنهم يحاولون رسم بلادٍ تسمى مجازاً بلاد العرب. فصوت نزار قباني في رائعته (متى يعلنون وفاة العرب؟) كأنهُ لسان حال الشعوب تلك، والتي تتوق للأنعتاق من العبودية لسلطان البدواة، والرمل، والعروبة ، وهي ترى هذا المستبد المريض، الهرم العتيد، وهو يحتضرْ. بعد ان جثم على صدورها لقرونٍ وعقودٍ، فحول عالمها الى صحراءِ قاحلة جرداء،حيث لم يبق لا ماء ولامطرْ ولا شجرْ...سوى الرمل.
حيث يقول القباني:
أحاول أن أتبرّأَ من مُفْرداتي ومن لعْنةِ المبتدا والخبرْ...وأنفُضَ عني غُباري. وأغسِلَ وجهي بماء المطرْ...أحاول من سلطة الرمْلِ أن أستقيلْ...وداعا قريشٌ...وداعاً كليبٌ...وداعاً مُضَرْ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: حماس تمارس إبادة جماعية ورفضت جميع المقترحات المتعل


.. الدكتور مصطفى البرغوثي: ما حدث في غزة كشف عورة النظام العالم




.. الزعيم كيم يشرف على مناورة تحاكي -هجوماً نووياً مضاداً-


.. إيطاليا تعتزم توظيف عمال مهاجرين من كوت ديفوار وإثيوبيا ولبن




.. مشاهد جديدة وثقتها كاميرات المراقبة للحظة وقوع زلزال تايوان