الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : ظلال الغبار

رغد علي

2011 / 1 / 11
الادب والفن


ظلال الغبار

أن تموء القطط أمر طبيعي... في كل زمان ومكان ، ماذا يعنى ؟، لا شىء ،.. والوجود كله لا شىء ..لان الغبار قد يغطيه فيصبح مجرد غبار .

هذه بلاد عجيبة ، لا تهدأ فيها العواصف الترابية ، تراب يتطاير لا يستعصي عليه عائق ، لا يعترضه عارض، أدق وأصغرالموجودات يكتسح المدينة ، الارض تفور، تنفخ ما فوقها ، شىء أشبه بغليان الماء حين يتحول الى بخار، فعل الطيران واحد ، ضد الجاذبية ، حتى تصرعه الجاذبية ، لاشىء يخالف الطبيعة ، لابد من لحظة السقوط ، فالهاوية نحو قبريئن ، ثم يثورالآخر على شكل ذرات من الدقيق الاصفر تغطي كل المكان، تدور الارض لتنبش المخزون في جوفها ، كمن يفتت شخصاً نام سنينا في الكهف !! لا عجز أو توقف ، استمراريتحرك باتجاه مجهول ، لا هدوء أبدا ً، الحياة تتقلب دوما !، آهات بعض المرضى تحفر نفقا في الروح ينخر الآذان ، لا أحد يعرف مداه ،ودموع مالحة مقهورة مكسورة الأمل تمضي لحال سبيلها !!

، لا معالم واضحة ، الوجوه ، الاشجار، الشوارع ، المدن ، الرجال النساء والاطفال ، يتشابهون جميعا في لحظة عاصفة، كلهم ظلال ترقص مع عزف الغبار بظل الريح ، ، القادم يخترق كل الحواجز، لا موانع ولا سدود ، فهو يتسلل بخفة نحو المجرى التنفسي ، تضعف أمامه كل وسائل المناعة ، صراع الطبيعة ، لا غالب فيه لا مغلوب ، لا فرق بين بصر النسر و البصير، الحلم والحقيقة سواء.!! لحظة خفية .. من يلتقطها ويصل الى مغزاها ؟!.

ليتراكم هذا الدقيق الاصفر أينما يشاء ، وكيفما يريد ، لكن ليبتعد عن خدش روح هذه الصورة الوحيدة على الجدار، فمطاردة الغبار شىء من الجنون الذى تعودت على ممارسته ، لست أبالي كثيرا بأحكام الطبيعة ، الطبيعة حمقاء ، ولن أكف عن هذه المطاردة ، من حق الصور أن تتنفس ، الأمر ليس سهلا ً أبدا ً ، كل ذرة منه تحاول ان تسرق شيئا ً ، لتلهمه ، لا يغرنكم هذا القادم برقته ، فهو أكبر مغرورعلى وجه الارض !

الصعود أينما كان سيمنحك بهجة الاطفال ومرحهم ، لذا لم يعد الامريثير الخلايا العصبية في دماغي ، فقط عليّ أن أكون نشيطة ومرنة ، وأصعد فوق الاريكة ،ثم ان النظر من أعلى يفاجئك بأشياء لم تكن تبصرها ، حتى لو كان الصعود من اجل طرد الغبارالمتناثر، السعادة الخفية تكسوني تماما ، كم أجد متعة في هذه المطاردة !!

هذه الزاوية تبدو نظيفة نعم ، تشبه نظافة أمي ، لكن لا ، هناك أثر عنيد لا يطاوع حركة يدى في الصعود والهبوط ، لن أتراجع عن عملية التنظيف ، هذا الأثر قد يشوه رؤيتي ويشعرني بنقصان ما ، لا بأس ، لن ينتصرعلي بنعومه انتشاره ، الآن كل شىء يبدو براقا ً للغاية ، الصورة تلمع ، تبرق ، كم هي رائعة ، هي كل ما تبقى !!


التفت خلفي ، لأرى امامى طفلاً وطفلة ، أشعر بخليط غير متجانس من الذهول والغرابة والخوف ، ألوان ممتزجة ببعضها في لوحة تشكيلية :
- من انتما ؟ كيف دخلتما ؟ من فتح لكما الباب ؟ تكلما بسرعة .
بنبرة غريبة أجابتنى تلك الطفلة :
- انزلي أولا من تلك الاريكة فقد تقعين ، والاطباء كلهم مشغولون بمرضي هذه العاصفة ، كنا نلعب، وهبت العاصفة الترابية ولم نجد مكانا نشعر فيه بالراحه مثل هذا البيت ..
لم تطب لي رائحة كلامها ، فيه نكهة لم أتذوقها قبلا ، ادهشني الحدث ..

- ولكن كيف دخلتما ؟ من أي باب ؟؟
- نحن ندخل من اي باب نشاء لا تقلقي.... أنزلي على مهل .. احذري حافة الاريكة ، فهي حادة .

، تلاشت كل متعتي في الصعود حين هبطت من الاريكة ، صار للهبوط معنى آخر أشعره ، لم اكتشفه بعد، ، هذان طفلان بريئان ، قطعاً لن يخيفنى الأطفال ،وقفت أتفحصهما بدقة ، وجدتها طفلة حنطية اللون ذات عينين سوداوين كبيرتين تغطى نصف وجهها , وتبدو طويلة بالنسبة لسنها ، أقدر انها لا تتجاوز التاسعة ، لها ضفائر طويلة خلف ظهرها ، تبدو وديعة للغاية ، رق قلبي لمنظرها ،لا أعتقد أنني رأيتها قبلا ، ثيابها قديمة نوعا ما لكنها نظيفة جدا , ربما أهلها فقراء ، ليت الارض تبتلعني ولا ألمس أوجاعها !!

يصحبها طفل يبدو بسنها تقريبا ، أسمر البشرة ، عيناه ايضا كبيرتان ، ذو شعر رمادى اللون ، بالتأكيد اكتسبه بالوراثة ، فلا يعقل ان يشيب شعر طفل . يمتاز بشامة كبيرة في وسط خده، هناك تشابه واضح بينهما ، كم هو مؤلم تهاوي القمم من عليائها ، بتأثيرأسواط خبيثة تنهش فيها نهشاً ، رغم ان القمم لا تستسلم بسهولة حتى لحظاتها الاخيرة !!

سألتها وهي تبدو قائد حملة الغزو التي أعلنوها علي :

- هل انتما أخوان ؟؟ من الجيران ؟
بسرعة ردت علي : طبعا لا .. نحن رفيقان تعودنا ان نلعب معاً ونتجول معا ،..لا لسنا من الجيران ...

لا أحب ضجيج الاطفال ، وصلت مرحلة من العمر لا أحتمل أي طفل لأكثر من ساعة ، ويبدو انهما ينويان البقاء هنا حتى تهدأ العاصفة ، ماذا سأفعل بهما ؟

تحرك الطفل في الصالة بخطوات واثقة ، يسير رافعا ً رأسه بصورة ملفتة للنظر ، وتبدو على وجهه علامات الجدية والصرامة ،كان صامتاً تماماً ، أردته أن يتحدث ، لأصل الى مكنونه :
- لماذا انت صامت ؟؟
رد علي بنبرة فيها شىء من الحدة والغضب ، عقد حاجبيه :
ـ وهل هناك سبب لأتكلم ؟ ، قلة الكلام دلالة على الهيبة والاحترام ، عليك ان تتعلمي أن من يتكلم كثيرا ً انسان فارغ !!!

هززت رأسي أريد أن أستوعب كلام هذا الطفل الرجل الحقيقي ، أغمضت عينيّ بشدة لأتأكد من أنني لست في حلم ، وحين فتحتهما وجدت الطفلين أمامي أيضاً . أحيانا يحفظ الصغار كلام الكبار ويرددونه دون أن يعوا معناه ...أمر عادي جدا ، فلماذا أعظّم الامور ؟..
ما زال هو يتجول في أرجاء الصالة كمن يتفحص المكان ، أردت ان أهدّأه قليلا ، قلت له وانا اتوجس مما سأسمعه منه :
- هل تبحث عن شىء ؟؟ هل تحتاج شيئاً ؟؟
التفت نحوي التفاته اللامبالي بغرور : لا.. لا شىء . لكن هلا صنعت لى فنجانا من القهوة المرة !!
فتحت عينيّ على وسعهما ، قلبت شفتيّ ورفعت كتفيّ ، أقنعت نفسي انني امام فلم كوميدى يقوم ببطولته الصغار .
- لكن ألم تخبراني بأنكما جئتما للعب .. ماذا ستفعل بالقهوة المرة ؟ دعنى أمنحك كأساً من الحليب .
هذه المرة ، دق ناقوس الخطر، فعلاً ،و تصاعدت أمواج الخوف داخلي . صار البحر متماسكا أكثر والموج يعاندني أكثر، قضيتي صعبة جداً ، لم يحتمل مخلوق بنفس صلابتي ما تحملته .
ارتفع صوته بلهجة الغاضب :

- كل شىء له وقته ألا تفهمين هذا ؟ الآن أريد قهوة مرة ، سنلعب لاحقا ً ، الحليب عند النوم أو عند الفطور، فهويحتوي على الكالسيوم الضروري لتقوية العظام ، فقط هيا تحركي !!

ما هذا ؟ هو يصرخ بي وكأني خادمة عنده ، لو علا صوته ارتج كل البيت وتزلزل ، من يجرؤ ان ينطق في حضرته ، أو يرد له أمرا ؟، بالتاكيد هما يتعبان والديهما ، تربية الاطفال صعبة في هذا الزمن ، ويبدو انهما وقحان وطويلا اللسان أيضا ً ، عليّ أن أتحملهما ، قلبي لا يستطيع ان يطردهما والعاصفة الترابية خارج المنزل تعصف وتعصف ..قد يتيهان في الطريق ، وقد يصابان بنوبة من الربو ، قد يخطفهما أحد ، حالات خطف الاطفال منتشرة هذه الايام ، لا لن أطردهما ، لن أفعل !

سمعت تلك الطفلة وهي تقلب الكتب في المكتبة تقول وهي تدير ظهرها لي : ما دمت ستصنعين له القهوة المرة فأنا اريد شاياً بالهال واذا كان لديك بعض اوراق النعناع ، سيكون أقضل .
- نعم ؟ ماذا تريدين جنابك ؟ شايا ً وبالهال والنعناع ايضا ؟!
- واجلبيه مركــّزاً .. لا تخففيه بالماء ، واحذري ان تحترقي و أنتِ توقدين الموقد .. ثم التفتت الي : اين كتاب الفرنسية ؟؟

هذه الحسناء الصغيرة تريد شاياً مركزاً وبنكهة الهال والنعناع !! ، طفلة تميز هذا المذاق ، ربما هناك اطفال يحبون الشاي تقليداً لأهلهم ، ربما أهلها ادخلوها المدارس الفرنسية ، ليس من غرابة في أن تطلب كتابا ً بالفرنسية ، لا باس .. هما ظريفان على كل حال .
سألتها : وهل تجيدين الفرنسية ؟
ردت كمن يستهجن أمرا ً : أنا أقوم بتدريس الفرنسية للطلاب !

الصمت حمل سلاحه بوجهي ليفرض عليّ أمره بالخضوع ، الافلاك تدور ، تجعلنى أدور معها داخل حالهما الغريب لأتصارع وحدى مع خبيث لا اراه ، أبسط الاشياء في الحياة تمتلىء غرابة ً ، لكننا لا نشعر ، فمن يشعر بشعيرات رأسه مثلا شعرة شعرة .. إلا اذا انسلت بين يديه ؟ من يفكر بالدم الذي يجري في عروقه .. إلا اذا أصابه فقر الدم ؟، الدهشة في كل مكان وما مجرة التبان إلا واحدة من عالم غير متناه ٍ ...ومن يضع أوراق النعناع بالشاى مرة ستطيب له !!

صارت المسألة ان أستمتع بوجودهما معي كيفما كان ، سأرضى به ، فهما هنا بالتأكيد ، أراهما ، وألمسهما أيضا ً، الأهم من كل هذا ها أنا اقبض على لحظة نادرة يضحك فيها قلبي ، غادرتني تلك اللحظات ، غادر الأمن والدفء بكل ألوانه . قررت أن أتعامل مع الامركالمتفرج الذي لا يتوقع الحدث التالي في الفلم .. سأنتظر النهاية .
اعددت لهما ما أرادا ، وعُدتُ للصالة أحمل صينية الطلبات وكأننى عاملة في مقهى ، المقهى يمتلئ بالزبائن ، ربما هناك خمسون زبونا ً ، سأسرع . تلك السيدة طلبت عصير برتقال ، كيف نسيت ؟ قالت لي أنها مستعجلة ، عليّ تلبية طلبها قبل أن تثير زوبعة ، أعرف انها ليست سهلة التعامل ، ثلاثة من زملائي غائبون اليوم وليس هناك سواي ، أنا وظلي . كم العمل مرهق لأجل لقمة العيش ، جميل جدا أن تعمل بأمرة الأطفال ، أمر شيق للغاية ، يعيد للروح طفولتها الخفية ، كلنا أطفال ، شئنا أم أبينا ، لكني أجهل لماذا لا تستقيظ طفولتي ، ما الذي يمنعها ؟! لماذا فرض علي ان أقوم بدورالأم ؟ مازلت صغيرة ، أطعم المرضى بيدي ، أسهر الليل ، أمنحهم الدواء اللازم ، بل وأجوب المستشفيات في الليل ، و حين يغرس الظرف انيابه في لحمي ا ُترك وحدي ، فلا تخرج آهتي كي لا أسمع نفسي فأتراجع ، أنا الطفلة التى ما زالت بحاجة للرعاية لا للهَم ، لست أفهم بعلم الفلك ؟؟! .

وجدت الطفلة الصغيرة تجلس على الأريكة ، تضع ساقا ً فوق ساق ، وفي حجرها كتاب الفرنسية ، تقرأ فيه من الوسط . الأيام الجميلة تسافر ولا تترك سوى الصدى ، الطلبة وحدهم يتذكرون أساتذتهم ، من علموهم النطق والكتابة ، قصة ( فولتير) تلك المقررة في المناهج ، كم أخذت عطاء وتفانياً ؟! أول من وضع القلم بين أصابعي ، فكان الخط ، أصعب العلوم تلونت بألوان قوس قزح ، لا شىء صعب ، فقط المزيد من الجد ، ( تعالي أراجع معك الدرس ) ، البحر خبيث جداً رفض الانصياع لضربة تجديف من طفلة صغيرة ، والطفلة تصرعلى مواجهة اخطبوط البحر....
اما ذاك الشقي صاحب اللسان الطويل فقد كان يجلس مقطبا ً حاجبيه كالملك المسيطر على عرشه الذهبي ، لا ينقصة إلا تاج ، في الحقيقة يليق به هذا الدور، كأنه صُمم من أجله ! ، حركة من عينيه تكفى دون كلام ، الكلمات لا يستهلكها ذوو الكبرياء وعزة النفس ، صورة ظاهرها القسوة ، لاعتقادها بأن إظهار العطف واللطف قد يقلل من شأنها أو حظوتها فتجعل كل حنانها مستورا ً !!

التفت اليّ مؤنبا ً وهو يمسح الطاولة بإصبعه السبابة :
- ما هذا الغبار ؟ أليس من المفروض ان تنظفي الطاولات ؟؟ أنت ليس لديك شاغل الا تلك الصورة .. وتنسين الطاولات . متى تصبحين مسؤولة حقاً ؟؟؟

ارتبكت من أسلوب حديثه المؤنب شديد اللهجة ، هذا الطفل مغرور جدا ً، عقله أكبر من عمره ، ما هذه الكارثة التي حلت علي من القمرمن السماء ؟، فلو لم يكونا أمامي كبشر لظننت انهما جنيان أو عفريتان او حتى من سكان الكواكب ، لكن لا أجد أي اشارة لهذا .

قاطعته هي بصوت يفيض عذوبة مثل الماء البارد السلسال في قيظ الصحراء ، وصل لسمعي خارجاً من كهف :
- لديك الحق لكنها مسكينة ، ترفق بها ، هذه العواصف الترابية لا يفيد معها أي تنظيف فما أن تنظف من هنا حتى تقبل الاخرى ، لا تقسُ عليها بالله عليك .

أشار بيديه بعصبية :
- كفي عن الدفاع الدائم عنها .
لم استطع كبت ما يتراكم داخلي من ألغاز عجيبة تتجمع على شكل صخرة أرغب بتفتيتها لذرات ، لتتلاشي ، موج البحر يشتد علي دون هذه الصخرة ، حتى رددت:

- الدفاع الدائم عني !!

لم يعلق احد منهما ، واكتفيا بابتسامة امتصت كل قلقى ، أسعدني هو بالذات ، كانت أول مرة يبتسم فيها هذا الطفل القادم من الفضاء ، يبدو انني سأقوم بعد ابتساماته الوقورة هذه ، انه جميل حين يظهر اسنانه ، أما هي فمن اللحظة الاولي والابتسامة مزروعة فيها زرعاً ، فوجهها مبتسم دون أن تتحرك عضلاته .

انقضى وقت لست أحسبه بمقياس الزمن ، ساعة الرمل القديمة لم تعد تجدى بهكذا مقياس ، سوى انه كان سريعا ً طائرا ً بالتأكيد ، كيف يطير الوقت بلا اجنحة ؟ هل له ريش لا نبصره نحن ؟، وأين يذهب الوقت حين يطير، هل يعود ثانية ؟؟ أم تراه ينتقل الى عالم أخر؟ .. كباقي القصص التي بلا أجوبة .. لكنها تحدث ايضاً !!

لابد أن أعترف وأكشف ما في سريرتى ، رفقتهما بكل ما فيها من دهشة غير مسبوقة ، شىء يبلل الروح بقطرات ندى تسقط علي ورود تختنق ، يعيد لها نضارتها وأنفاسها ، هناك دائما سم قاتل في الحياة لابد من التخلص منه ، والا أدى الى الفناء التام .. كل شهيق لابد وان يرافقه زفير ، وحده الغبار يخلق مشكلة !!

هذا الطفل أكمل أخر غرائبه حين طلب منى برتقالة ً ، ليمسكها بين يديه ويرفض منحه السكين، ثم يقسمها الى نصفين أو مجرتين في فضائهما العجيب ، نصفا البرتقالة ما زالا بقشرتيهما ، و دون ان تقطر اي قطرة بدأ بالتقشير، فتحت عيونى للمرة الالف لأراقب كيف يقشر البرتقال بالمقلوب ؟! ومن أين تعلم هذه الطريقة ؟!! كلما فعل ذلك استغربت ، لكنه يفعل دوما ..

فجأة وقفت تلك الطفلة تنظر من النافذة واستدارت نحوه قائلة :
- لقد هدأت العاصفة .. علينا ان نغادرياعزيزي .
أجابها هو : نعم يا عزيزتى .
حين شعرت بأنهما سيغادران ، شيئ ما بداخلي اندفع يتشبث ، يكاد يبكي كغريق يبحث عن طوق نجاة ، وليس من نجاة ، كلنا لا محالة غارقون، الزمن هو الزمن، أي دموع أو توسلات لن توقف مسيرة الطبيعة ، ولا شىء أكثر سوى توقف العاصفة الترابية ، ليعود كل شىء الى مكانه ، كأن شيئا لم يكن ، صوت يخرج من داخلي :
- انني مستأنسة بوجودكما . مازال الوقت مبكرا ً ...
- أجابتنى الطفلة : لا يا حبيبتي علينا المغادرة ، ساعة نومنا قد حانت ، سأدعو الله أن يحل لك كل مشكلاتك .. لا تقلقي ..!!
ثم مالت علي تقبلني وتحتضنني حتى شعرت بأننى تعلقت بهما صدقا ً ، الحقيقة تصلك متأخرة أحيانا ، اذن ما جدوى كل المطاردة أصلا ؟ ، قلت لها :
- لكنى أحببتكما ً .. كانكما ولداى .

منحتنى ابتسامة غامضة المغزى ، قرأت فيها نوعا ً غريبا ً من الحزن الذي أجهل سببه ، ابتسامة بعيدة طويلة المرمي، لو رميتها على ايامي الراحلة والقادمة لغطتها ومنحتها حسا ً بالامان يكفيها دهرا بأكمله .
- بالتأكيد نحن ولداك .. ما من شك في هذا .
حين عانقتنى شممت فيها رائحة منعشة ،لا أصدق بوجود عطر أشد منه حضورا ً حتى وهو يغيب ، سارت هي من أمامي ،رأيتها ترتفع وتهبط سبع مرات امام باب بيتي ، حاولت نداءها :
- عانقيني للمرة الاخيرة ، قليلا من عطرك قطرة واحدة فقط .
لم تلب ندائي ، مع أنها سمعتني . للعطور أسرارها وعالمها الآخر ،هذا العطرهو الذي رسم حدود العالم بالتأكيد !!....
....................................................................................................

خرج هذان الشقيان ، تساءلت كيف تتحول الشرنقة الى فراشة ؟ أليس هذا عجبا ً ؟ وهل لهذا التحول علاقة ما بالغبار؟ لأكن واقعية ، تخلصت منهما أخيرا ً، الخلاص أن تزيل ثقلا ً عن كتفيك ، و يحدث ان تفتقد أثقالك حين تشكل جزءا ً من زمنك القادم ، لا محالة كل شىء قادم ، لا شىء يعود الى الوراء ، الدواء اللعين أيضا قادم يسري في الانبوب الدقيق الشفاف، ليصل ببطء الى المحيط ، ليعلن دماره ، بعض الأدوية سلاح دمار شامل .

كانا يرهقانني ولا يرهقان بطلباتهما ، خصوصا ً ذاك الطفل المغرور، أما الطفلة فقد كانت حنونا ً أكثر مما ينبغي ، نعم .. بدت غير طبيعية الأطوار وأتعبت فكري بتصرفاتها وكلامها غير المفهوم ، أكانت تعد أمرا ما ؟؟!! .

لم استطع النوم تلك الليلة ، آهات مرضى تلاحقني ، كأنها أشواك تتوالد في مضجعي، رغم كل الحراسة الدقيقة المشددة كانت المقاومة تضعف ،الغبار يتسلل من حيث لا تتكهن ، مواء تلك القطة اللعينة أمام نافذتي ، ولولا نعاسي وكسلي لقمت وطردتها شر طردة ، أشعر بالحقد عليها ..
.................................................................................................................
قمت في الصباح ولم أخذ كفايتي من النوم ، فتحت باب البيت لأبصر في الحديقة تلك القطة تستفىء تحت الشجرة وامامها خمس قطط صغار ، ساعة العصريطيب الحديث .. الضحكات تعلو ، وتبدأ النزهات .
فهمت . فقد كانت ولادة اذن ، بقيت أراقب تلك القطة وصغارها بعيون ضامئة ، حتى وجدت ان القطة الأم تقوم من مكانها وتنظرالي شزرا ً، وكأنها تطلب منى المغادرة والابتعاد ، لعلها تخاف مني ، تعاطفت مع تلك الام ، أفهمها تماما هي محقة ، لأنني كائن من فصيلة مختلفة ، أغلقت بابي ، ثم عدت اليهم ثانية ً بطبق من الحليب في محاولة مني لكسب ثقتها وودها ، وضعته وسط الحديقة، ودخلت الي البيت لأمنح تلك القطط شعورا بالأمان .

راقبت القطط من النافذة ، كفها لامس وجهي ، وجودى يفيض من وجودها ، نبعة ريحان تتجول، هل عادت كل السفن للمرفأ ؟ ، لكن الغبارلا يستثني أحدا ً، يعزف مع الريح معزوفته ، تارة بقرع طبول يصم الاذان ، وتارة بأنغام خافتة بطيئة الوصول ، فهو يجيد عزف كل انواع المعزوفات بمهارة قاسية !!

قامت القطة الأم من مكانها وهي تلتفت يمينا ً ويسارا ً ، وحين حاولت احد ى القطط الصغار ان تلحق بها دفعتها القطة الأم بساقها الصغيرة ، وتحركت وحدها ببطء شديد ووقفت عند طبق الحليب ، أدارت وجهها بكل الاتجاهات ، تنظر بعيدا ً، كمن يلتقط في المدى شيئا ، دقائق وانحنت وبدأت تلعق من الحليب ، رفعت رأسها ، حركت لسانها داخل فمها الصغير، ابتلعت ريقها ، ثم عادت أدراجها نحو صغارها تدفعهم ، تحرك الصغار بطاعة خلف الام ، وحين وصل الجمع عند طبق الحليب بدأ الصغار يلعقون ، أما القطة الأم فما كانت تفعل شيئا سوى الوقوف والدوران حول الصغار ...
مائدة الطعام مكتملة ، ليس من مقعد شاغر، الدجاج لذيذ جدا بهذه الطريقة من الطهي ، أخبار النهار ، ضجة صامتة ، ساعة الرمل تفرغ من محتوياتها ..
................................................................................................................

حدثت نفسي : اذن كيف تركت صغيريّ بالامس يرحلان بسهولة ؟ أين ذهبا ؟ ليس من الضروري أن أنجبهما من رحمي ليكونا ولديّ ، كنت أرعاهما زمنا . ما الذي تغير؟ تكاثرت الأسئلة في داخلي كأنها بيوض تفقس أفراخا ً ، أكان أصلي دجاجة يوما ً ؟؟! ، البسمة على وجهيهما ، الرضا التام ، السكينة في المخدع حين تمتد يد وتغطي المستلقي في السرير، ورفقة الطريق الطويل القصير. كل ذلك كان يوما واحدا لا أكثر!!
..
هو الحنين العجيب الذي جعلني مع كل عاصفة ترابية أجلس امام الباب في انتظار عودتهما ، بعد الاعتناء الدقيق بتنظيف الصورة ، ولم يعودا ، دب الوهن في فكري ، دبيبه أمواج تضرب روحي ، تخدشني القطع المهشمة ولا أنزف ! ألن يعودا حقا ؟؟!

لحظات تختلط فيها البهجة بالنمو والتفاني العميق ، صدقا ً لم اعرف من هما حقيقيان بوجودهما مثلهما ، لقد احببتهما . نعم ، الحب ليس له قانون في الارض، أنا اعترف بأنني أحببت هذين المجنونين !! ومن الطبيعي ان أبحث عنهما وادافع عمن أحب !!

قررت ان ابحث عن نجاة لترسو عليها أفكاري ، لم أجد سوى أخي خالد سأحدثه ، فهو انسان عاقل وسيفهم كلامي ، لكنه فاجأني بمنطقه الغريب :
- علينا ـ يا حياة ـ تغيير مفاتيح البيت . قد يكونان من أفراد العصابات وجاءا الينا ليتفحصا البيت ، قضية دخولهما غريبة أشك أن لديهما مفتاحا ً ..
- لا يا خالد قلت لك انهما بريئان جدا ً ، منطقهما فقط هو الغريب .
- هنا القضية يا أختي .. هذا منطق رجال العصابات !!

لم أجد في خالد خلاصا ً ، بل متاهة أخرى . لم أفصح أكثر ، خشية أن يظن بأن أخته مخبولة ، لكنى أعرف أن منطق الرجال دائما هكذا ، منطق مادي جامد لا يتعامل مع الاشياء إلا بظاهرها ، ربما هم محقون ، فبعض المفكرين يقول ان الاشياء هي كما تبدو بظاهرها ، ولكن من يبصر ظهورالأشياء بعينيّ أنا .؟؟ علي التحمل أكثر والبحث عن الحل بنفسي ، لا أحد سيقف معك يا حياة . يبدأ الصداع المستمر، فالغثيان والهزال ، يتبعه تساقط الشعر، من سيعيد تلك الخصلات الكثيفة ؟ تطفو الرئة بالماء ، علامة الغرق ، أعرفها جيدا، تماسكي يا حياة ، ليس سواك من يواجه الأمر ، تظاهري بالقوة ، كي لا تتكسرتلك الاوراق وهي تتساقط من الشجر، فقط ساعديها لتسقط متكاملة جميلة ، ساعة الرمل تستمر بافراغ محتوياتها !!
............................

بدأت أتجول بحثا عنهما يومياً في منطقتنا ، أسحب معطفي الاسود ، أضعه على كتفي وأسير ببطء شديد ، يالذاك المعطف ، دائما يقع وأرفعه ، لا أتعاجز من رفعه أبدا ً ، سألت عن مواصفاتهما ؟ حاولت بشتي الطرق أن أعثر على أي خيط يوصلني ، بحثت في الوجوه التي حولي عن أي شبه لهما ، لا شىء أبدا ً إلا عزف الغبار مع الريح ، وفقدان معطفي الجميل في احدى جولاتي ..!!، صرخت أخيرا بعد ان استسلمت، اعترفت بهزيمتي ،..كيف تجبر زجاجة متحطمة ؟؟ ،انتهى الأمر، ياللطبيعة اللئيمة ، وقعت أرضا !!
..........................

وصلت المدينة الحبيبة على قلبي ، استقبلتني الغربان بنعيقها ، والكلاب بنباحها ، والمدينة تسخر من كل شىء ، بيوتها بسيطة من الحجر والطين ، بلا أبواب ، بعض من يدخلون اليها يطيب لهم المقام ، لما تقدمه لهم من اغراءات الراحة ، والاخرون مثلي زائرون باحثون عن شىء ما ، حركة متواصلة لاتتوقف ، بعضهم يأتونها محملين و يعودون فارغين ، وبعضهم يصل مشيا ًعلى الأقدام ، تسمع أصوات اهلها بلا رنين ، وجوههم شفافة لا أثر لعروق الدم فيها ، ان حاولت لمس احدهم وجدت يدك تسقط في الهواء، فهم يقبلون ويذهبون ثم يختفون لا يسمحون لأحد بمسهم ..

افترشت الارض ، ولان البيت مكشوف بلا سقف ، جلست قرب تلك الشجرة الذابلة العتيقة ، بعض الاشجار تبقى تمنح ظلالا ً وان كانت ميتة ، كان يوما ً مشمسا ً حارا ً صافيا ً ، دون غبار، أحنيت رأسي المتخم بالأسئلة ، استرخت كل قواى ، وبدأت ممارسة طقوسي المعتادة ، بكيت بسخاء مجنون ، قرأت بعض الأشياء ، تكلمت كمحروم ممنوع عن الكلام ، كنت كمن يقف امام كاهن يقدم له كل الاعترافات ، أتطهرعلى طريقتي الخاصة ، بعض الذنوب صغيرة يمكن غفرانها لى وبعضها استحق عليها درسا ً وتعليما ً ، بعضها لا يستوعبها عقلي الصغير، وبعضها كهذه المطاردة تأخذ الثمن وتمضى ، لكنى دوما أفرغ هنا كل أثقالي ، حتى يصيبني العجزيوما ً لأكون أنا كل الحمولة..!

تشوه العزف الذي كنت أتمايل معه ، صار العزف نشازا ً ، والنساء يجدن متعتهن في القهوة المرة ، يتلذذن يها ويطلبن المزيد ، يتراقصن امامي بالسواد كأنهن في مهرجان او كرنفال ، يتحدثن بجمل لا التقطها ، تتعالي أصواتهن في أذني أستجهنها ، تتداخل مع معزوفتي الداخلية ، انهن يزعجنني، أنا المخدرة في عالم آخر، كلهن قبيحات بلا حس يمثلن أدوارالحكماء ، تكسر مجدافي وفقدت أجنحتي ، لم يبق لي جناح ، حتى الريش لم أعد اقوى على لمه ، كل شىء تطاير بعيدا ً واحتضن الغبار .. اختنق بالغبار . يحاولن علاجي برذاذ من العطر ، أرفضه.، لم يكن العطر الذي صنع العالم، اختلط ـ ساعتها ـ الضحك عندى مع البكاء ، لم أكن أعرف قبلا ً كيف يمكن لإنسان أن يبكي ويضحك في آن واحد . قالوا لي انها طيور الجنة ترفرف ...
...............................

غادرت المدينة في وقت بدأت العاصفة الترابية مرة ً أخرى ، لكني كنت أحمل معي سكينة جديدة من نوعها ، وطوال طريق عودتى كنت افكر بكل ما حصل معي ...

ها قد وصلت الى منطقتي والتقيت جارتي ام محمد في الشارع :
- أرجوك ـ يا حياة ـ كنت ابحث عنك لان ابنتي بحاجة لبعض الدروس الخصوصية في اللغة .

كيف نسيت يا الهي مشكلتي الرئيسة ؟ ، أين كنت ؟ ما الذي جرى لفكرى ؟ ، كنت اعاني من ضائقة مادية لدفع أجور القسط الاخير الى الجامعة ، الحمد لك يارب .. أخيرا سأستريح .

بحثت كثيرا عن مفتاح بيتى في الحقيبة ، عثرت عليه بصعوبة ،ربما موج البحر بضحكته الساخره مني يصم بصري ، ، كأنه يحذرنى ألا أنسي جبروته وألا أعانده ثانية،
تهرع ابنة اخي الكبرى نحوى :
- عمتى لقد جاءت طفلة صغيرة ، أعادت لك معطفك الأسود الذي فقدتيه ، وأبلغتني أن أوصل لك رسالتها بأن تنتبهي فلا تضيعيه ثانية ..لان الجو بارد هذه الايام ...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان