الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أغنية كونية للأثر الجمالي .. قراءة في حجارة بوبيللو ل إدوار الخراط

محمد سمير عبد السلام

2011 / 1 / 12
الادب والفن


في نصه الروائي (حجارة بوبيللو) – الصادر عن دار الآداب ببيروت سنة 1992 – يعيد إدوار الخراط تكوين النص ، و العالم وفق مبدأ الاتصالية الجمالية التي تقع فيما وراء الاختلاف ، و التناثر ، و التناقض المميز لصيرورة الأشياء ، و العلامات النصية معا .
و يلمح القارئ تلك الاتصالية الروحية الخفية الكامنة في نسيج النص ، و الوجود كما تتجسد في وعي السارد في سياق العشق بمدلوله الواسع ، أو الكوني ؛ إذ يتجلى في التعاطف المادي بين العناصر ، و الدوال التي تميل بحد ذاتها إلى الالتئام مع احتفاظها بالانفصال ، أو التجاور ، و الاختلاف الأصلي أيضا ، و لكن السارد يميل إلى لحظة التجاوز التي تجمع شظايا الحياة ، و ما بعدها في سياق شعري جديد يحتفي بالاتصال الوثيق بين الكائن ، و تحولاته ، أو أطيافه من جهة ، و إيحاءات الذاكرة ، و لحظة الحضور ، و الكتابة من جهة أخرى ، و كأننا إزاء مجموعة من الخبرات الحسية الاستعارية ، تذوب فيها الحدود الزمنية ، و الفواصل بين التكوين ، و الإيماءة ، و الأثر .
و أرى أن الاتصالية الجمالية التي يحاول إدوار الخراط أن يستشرفها ، و يقبض على إنتاجيتها الجديدة في عملية الحكي ، تستمد طاقتها من مدلول أبولو ، و تأويلاته الفنية المحتملة ، و المتجددة في الأعمال الإبداعية بوجه عام ، و في السياق الجمالي الفريد الذي يقدمه هذا النص .
يقدم إدوار الخراط – إذا - قراءة جديدة لدال أبولو ، تقوم على بقاء العلامات ، و العناصر المتحولة ، أو التي يصيبها التلاشي ، و استمراريتها ، و فاعليتها الآنية في النص ؛ فنحن نعاين طفولة السارد في نسيج حكمته ، و نشاهد الموت في وهج العشق ، و إيماءات الذاكرة الشبقية للسارد / الطفل ، و الرجل في آن ؛ فهو يستحضر مرح الطفولة بكامله ؛ ليقاوم قسوة الألم ، و الفقدان ، و الصمت ؛ و هي مفاهيم يكتشف القارئ أنها غريبة ، و عابرة إذا قورنت بالحضور الواسع للإيحاءات ، و الإيماءات الكونية التي تتميز بالأصالة ، و الفاعلية القائمة في لحظات الكتابة المتجددة .
و في (معجم الأساطير) ترتبط صورة أبولو بالنور ، و الطب ، و الجمال ، و الموسيقى ، و الرعاة ، و يروى أنه سحر الحجارة – أثناء بناء أسوار طروادة مع بوسيدون – فتحركت إلى موضعها المحدد من خلال لعبه بالقيثارة (Read / The Dictionary Of Mythology / Arcturus Publishing Limited J/A Coleman 2007 / p.80/81 ) .
و قد تطورت إيحاءات أبولو – عند نيتشه - كمبدأ جمالي يقترن بغياب ديونسيوس في التراجيديا ، و لكن الخراط هنا يحول أصالة البناء ، و البهجة الأبولونية باتجاه الظلال ، و التشبيهات التي يخلفها التجسد ، و الحضور الواقعي في النص ، دون أن يتعمق في وصف المشاعر المأساوية رغم تكرارها ، و تواترها ؛ إنه يبدأ من مسافة احتمالية ملتبسة من الوجود ، ثم يكسبها طاقة النور المجازي ؛ لأنها تبقى في حالتها الاستعارية ، و لا تسقط أبدا في بنية الغياب .
يمثل نص (حجارة بوبيللو) – بحد ذاته – أنشودة للكينونة المؤقتة ، و المتجاوزة لزمانها في آن ، و كذلك الإدراك الحسي المعلق دائما بين البهجة ، و العدم .
النص أنشودة للاختفاء ؛ فهو الكينونة التأويلية للأطياف ، و الموجودات ذات الفاعلية المجازية في الفضاء الكوني / أو النصي .
و تبدو الأصوات ، و الروائح ، و الإيماءات في النص كتشبيهات للذكرى ؛ فالذاكرة هنا مادة للعمل ، و الإنتاجية السردية المؤولة لصيرورة الوعي ؛ إذ تتجدد فيه الحياة من خلال الشاعرية المضافة ، و المتراكمة في سياقات أولى من التحول البهيج دون نهاية .
إننا نعاين الوجود – في النص – من خلال اتصاله السري بالدوال الثقافية ، و الأساطير ، و كذلك تفكيك مركزية التواتر ، دون التخلي عنها أبدا ؛ فهي السمة التي تمنح النص تلك الإيحاءات الفنية الساحرة بضرورة التجميع ، أو الحب – طبقا لفرويد – كخاصية مادية تميز العلامات المتضادة ؛ فالشخصيات النسائية ؛ مثل رحمة ، و خضرة ، و حميدة ، و حنينة تتصل بصور الأم سيبيل ، و إيزيس ، و حتحور ، و ست الحسن ، و عرائس النيل ، و غيرها ، و نلمح تجاورها الآني ، و اختلاط إيماءاتها بالمشهد السردي ، دون إشارات تدل على الاستحضار ، أو الاستباق ؛ إنها فاعلة في لحظة الكتابة .
إن الاختلاف في نص الخراط يتجسد كجزء من حركية التعاطف الكوني ، و ما يحمله من تصوف خفي ، و ثري بالدلالات العميقة .
و يضيف مبدأ التجاور الفني في النص سمة التسامح التي يؤكد حضورها الكاتب بين الأفكار ، و الصور ، و الثقافات ؛ و هو ملمح ما بعد حداثي يؤكد عمق البساطة ، و الخبرات الصغيرة في تفاعلها المعقد بالصور المجازية ، و الثقافية الخفية .
و يمكننا ملاحظة خمس تيمات فنية في (حجارة بوبيللو) ؛ هي :
أولا : من الصمت إلى ولوج جماليات العالم .
ثانيا : تداعيات نصية ، و ثقافية .
ثالثا : بلاغة إدراك الوجود .
رابعا : بين وهج التجسد ، و الخروج المتعالي .
خامسا : عالمية الشخوص ، و الأماكن .
أولا : من الصمت إلى ولوج جماليات العالم :
يعاين السارد ، و شخوصه حالات من الصمت ، و الانتظار المستمر ، و الغربة ، و لكن الصمت هنا يتميز بالإيجابية الإبداعية التي تستنزف اللغة ، و الجسد في الظلال ، و التشبيهات المتضاعفة في النص ، و الوجود معا ، و تعلن عن شبقها التكويني ، و بربريتها الاستعارية التي تعيد استنبات الوعي ، و الجسد في جماليات العالم ، دون نهاية .
إن العزلة التي تستشرف الموت في النص ، تنطلق في موسيقى جمالية تنبع من ولوج الشخصيات للفضاءات الكونية الجديدة ؛ و فيها يتمتع الأثر بالدائرية ، و التحول ، و الفاعلية المتجاوزة للحظات البداية ، و النهاية معا .
و يختلف مدلول الصمت الإبداعي لدى الخراط عن تشكله في أدب ما بعد الحداثة الذي يجمع بين التوقف ، و الغناء كما وصفه إيهاب حسن في كتابه (تمزق أورفيوس) ؛ إذ يميزه بالحديث الصامت ، و خطاب الهاوية ، و المغامرات الروحية المفرطة التي ميزت نصوص نيتشه ، و رامبو ، و كافكا ، و همنجواي (Read / Ihab Hassan / The Dismemberment Of Orpheus / The University of Wisconsin Press / London 1982 / p.vix).
الصمت في (حجارة بوبيللو) مرح ، و يستنزف بنيته نفسها ، و مصادر نشوئه التي تنبع من مخاوف الجسد ، و الإفراط في تأمل التجربة الداخلية كتكوين مستقل ، و ذلك من خلال ولوج الصوت للآثار المجازية المولدة عن لقاء الكون بطاقة الدوال الثقافية ، و الخبرات الحسية التي تقع هنا ، و الآن ، و تتضاعف في المشهد السردي كقوة مضادة للصمت الأول ؛ إنها تدرك الموت ، و لكنها تلج ما يتولد عنه من إيماءات صاخبة ، و استعراضية تناهض بنيته ، أو اكتماله .
إن التجاوز عند الخراط ينبع من أصالة الاتصال بالتكوينات البهيجة في العالم ، و هو ما يستدعي دلالات أبولو مرة أخرى ، و لكن التجاوز لدى إيهاب حسن يأتي من حالة اختلاف جمالية تبدأ من التناثر ، و فنياته الجديدة في الكتابة .
يقوم نص (حجارة بوبيللو) على درجة عالية من التفاعلية المعقدة بين البطل ، و عائلته ، و جيرانه ، و بعض الشخصيات الفريدة المولدة من المكان من جهة ، و الطاقات الإبداعية ، و الثقافية ، و الخيالية التي تحيطها ، و تبقيها في المشهد السردي من جهة أخرى .
تتداعي رغبات البطل الحسية إزاء (رحمة) ، و حكايات الحب مع (لندة) مع صخب أرض بوبيللو في قرية الطرانة – و كانت مخصصة لدفن الموتى – و لكنها تحمل آثار الماضي في فضائها الإبداعي ، و كأن طاقتها التوليدية تستنزف ظاهرية الصمت باتجاه حياة قيد التشكل ، و البعث دائما ؛ فهي تعيد إنتاج طفولة السارد ، و بكارة إدراكه للعالم ، مثلما تؤجل الموت ، بل التجسد بحد ذاته في الصوت الشعري المتعالي للمواد المؤقتة ، و الأطياف .
يقول :
" تراب الكهنة و الشعب و الجنود و التجار يغذو القمح و البرسيم و الشعير ، و يمتزج بعصارة جذور الجميز ... أعواد الذرة الغضة ، و حبوبها السكرية ؛ دورة مشرقة الحلقات أم ثأر يأخذه لنا و لنفسه الفلاح الذي لا يموت أبدا " .
الخبرات الجسدية الأولى تلتقي – هنا – بالمرح المصاحب لظهور المادة ، و الأثر ، و النور جميعا دون انفصال في المشهد .
الطفولة تستنبت الفلاح الذي صار بلا اسم ، أو جسد محدد ؛ إنه طاقة تلازم أخيلة المكان ، و تنتشر في لا وعي الشخوص ، و روائح المكان ، و البهجة المتجددة في الأجساد الحية ، و الميتة معا ؛ فالحياة النورانية في وعي السارد تهمش الصمت ، و تقصيه عن المشهد ، و تعيد تكوينه في النسيج المادي المتداخل للطاقات الاستعارية الحقيقية في الكتابة السردية .
قد تموت بعض شخصيات المكان ، أو العائلة ، و لكنها تزداد توهجا في لا وعي السارد ؛ مثل أخته عايدة التي ماتت بالتيفود ، و خضرة التي قتلها زوجها ، و حميدة ، و غيرهن ؛ فما أن يأتي خبر الموت في النص حتى يشتبك بالمتواليات السردية التي تضاعف من النور ، و العشق ، و الصوت الكوني الملازم للأخيلة البديلة عن الشخص .
و من أهم الشخصيات التي تصارع الصمت في النص (حميدة البرصا) التي تعاني من العرج ، و التشوه ، و العزلة ، و انتظار النهايات ، و لكن السارد / الطفل يعيد اكتشاف نفسه فيما وراء ذلك السلب المضاعف ، و يتحد بالطاقة الروحية لحميدة ؛ فيحتضنها كأنهما تكوين واحد ، و يرى نفسه في عمق عينيها الخاليتين من الانتصار .
هل كانت نهايات حميدة بداية لنشوء آخر ؟ أم أن السارد ينقل صمته الخاص في طاقتها المحولة البهيجة عقب الموت ؟
يخبرنا السارد أن حميدة صارت نجمة مضيئة ؛ أي صارت نورا خالصا من داخل هيمنة الهدم ، و التدمير في بنيتها ، و كأن الصمت في النص معبر لما وراء النهايات الزائفة ، و ليس مدلولا لها .
و قد تختلط آثار المادة بالفضاءات التشكيلية الفنية ؛ فنعاين جماليات العالم في تكوينات الموت نفسها . النشوء هنا دائري ، و يستشرف تحولا ، أو بعثا دون تحقق كامل ؛ فلحظة الحضور تتمركز حول التشكيل الحي للموت ، و ليس ما يتجاوزه .
التكوين يستنزف نفسه في طبقات بهجة عميقة لا يمكن محوها من صمت المادة ، كما تعلن الحياة عن نفسها بصوت صارخ ، و خفي في آن داخل نسيج اللوحة الكونية الحارّة .
لقد أعاد السارد تأويل رأس غزال صغير وجده في الصحراء من خلال عوامل النشوء المتجددة ، و الكامنة في بنية الصمت .
يقول :
" هيكل بريء تماما من كل لحم ، من لوثات الحياة ، عظم أبيض صاف و صلب ، عيناه محجران مجوفان مفتوحان على ظلام الجمجمة الداخلي " .
هل استحال ظلام الجمجمة نورا بفعل التشكيل الجمالي للعلامة ؟ أم أن الحياة الدائرية هي براءة أولى من التجسد ؟
لقد اختلطت عوامل العشق ، و التدمير مع غلبة البهجة في التكوين ؛ فرغم أنه ميت ظاهريا ، فإنه يتصل – بصورة خفية في وعي السارد ، و لا وعيه – بنشوء جمالي غامض ، و متكرر في العالم .
ثانيا : تداعيات نصية ، و ثقافية :
تشارك العلامات الفنية ، و الثقافية في بناء المشهد السردي في (حجارة بوبيللو) ؛ فهي تحول وعي السارد إلى فراغ منتج لتجاورها الإبداعي في لحظة الحضور ؛ و هي ثرية بالموجودات ، و الإيحاءات المتراكمة في الأكوان الصغيرة ، و الكبيرة في النص ، كما تتحدى الأبنية المعرفية للسارد ، و كذلك اكتمال أي مدلول في النص السردي .
التداعيات النصية هنا تشبيهية أيضا ؛ لأن العلامات تكتمل في نشوء الدال الآخر دائما في نسيجها نفسه ، و هو يتصل بها رغم الاختلاف الظاهر ، و كاننا أمام احتفالية سيميائية كونية تقاوم الماضي ، و سكونية الإشارات الثقافية التي صارت مؤثرة في تكوين المشهد بفضل اتصالها النصي بالسياق المتجدد للكتابة ، و التكوينات الفريدة لشخوص النص .
يتداعى المدلول الثقافي للعقاب في النص مع أحلام الحب ، و العشق في وعي ، و لا وعي السارد في سياق نصي تشبيهي يؤكد أن العقاب مازال معلقا في بهجة الحلم ، و التداعيات الأنثوية .
يروي السارد حادثة وقوع حائط الكنيسة القبلي على العم (باسيلي) ، و يتخيل أن ملاك الرب قد ضربه بسيف ؛ ليعاقبه على ذنب لم يفعله ، ثم يعاين صورة أرضية من الملاك ، تتبعها أحلام الحب التي تشكلها الدوال النصية ؛ مثل (حميدة) ، و (حنينة) ، و الأسطورية ؛ مثل (جنيات الليل) ، و الثقافية ؛ مثل (عرائس البحر) ، و (جواري ألف ليلة) .
إن عقدة الذنب بما تحمله من أخيلة أوديبية هنا تسير في اتجاه مضاد لبنية الموت ؛ إذ يتضاعف العقاب في أخيلة الاتحاد الجسدي بما تحمله من موت محتمل دائما ؛ لأنه يقترن بتجدد قوي للحياة ؛ فحميدة نجمة مضيئة ، و عرائس البحر تحمل ذكرى الخصوبة ، و حنينة تتصل بالصوت الخفي الصاخب للعم باسيلي المشلول .
علامات العقاب تلج التحول مباشرة قبل أن تشير إلى الموت المحتمل ، و كأن التداعيات النصية ، و الثقافية تؤول النشوء الآخر للحدث في سياق الاتصال الروحي بين العناصر المتعارضة .
و قد تتداعى المرأة المتخيلة داخل وعي السارد أثناء عمله في الصحراء باستعادة أصوات شعراء الغزل في الثقافة العربية ؛ مثل امرئ القيس ، و عمر بن أبي ربيعة ، و المجنون ، و جميل ، و كذلك العنصر الجمالي البارز في نسائهم المعشوقات ، و هو الاستدارة مع الامتلاء ، و الخصوبة .
و أرى أنه ثمة لقاء سري في اللاوعي بين تلك الأنثى الحلمية الممثلة لصوت السارد ، و مشاهد البهجة الحسية في معلقة امرئ القيس ؛ فلقائه بالعذارى ، و أكله معهن يعبر بدرجة كبيرة عن استعارة حلمية بهيجة ، لا واعية ، و أصيلة في تراثنا العربي ؛ فهناك عشق ينبع من الأحلام الذاتية ، و يتراكم هنا في الدلالات الثقافية للصحراء ، و يقع بين رحلة السارد إليها ، و الفاعلية الجديدة للدوال الثقافية .
و قد يغرق النص في تجميع الدوال النصية ؛ كي يلفت النظر إلى تلك الحياة السرية التي تكمن في الإيماءات الصغيرة ، و الأطياف ؛ فما أن تبدأ العلامة في الظهور حتى تتولد منها إشارات حركية تعلن عن تحدي الحياة الجزئية في العالم لأي مركزية ، أو صوت مكتمل .
تتداعى تراتيل الهارب في وعي ، و لا وعي السارد مع صوت الناي ، و خشخشة علب السافو ، و صخب إعلانات التليفزيون ، و كراسي التخت ، و ضربات الخشب ، و صرخات الفتيات ، و قرع الطبل ، و ترجيع الكروان ، ثم الضوء الملتبس بين السطوع ، و الظلمة .
إن التراكم اللازمني للأصوات هنا يدل على الفاعلية الشبحية للموجودات الجزئية التي انتصرت على كينونتها المؤقتة في المشهد ، و صارت ممتدة من خلال قوة التراكم النصي ، و الاشتباك الاستعاري بالدوال الأخرى .
اللغة الاحتمالية عند الخراط تعيد بناء الهدم في موسيقى جديدة ترتكز على الانتشار ، و التناقض معا .
ثالثا : بلاغة إدراك الوجود :
يشكل السارد موضعه في العالم انطلاقا من بلاغة المعرفة نفسها ؛ فالوعي يحدد كينونته انطلاقا من رؤى بلاغية مجازية ، و قد لاحظت أن أخيلة الطيران هي الأكثر حضورا في النص ، و ترتبط بانتشار الحب ، و فقدانه ، و استعادة وهجه مجردا في آن .
لقد عاين السارد حضوره في صورة عصفور شفاف ، ثم سرب من الطيور الزرق التي تنتشر نحو السماء ، و تمثل الأشواق ، و أحلام الحب ، ثم قام بتأويل مشاعر الخواء ، و الفقدان عبر وسيط الغربان التي تتجه نحو الاحتراق دون اهتمام ، و لكنه يمنح روحها اشتعالا متساميا يوحي ببعث الحياة مرة أخرى من خلال فعل الطيران .
الطيران عند الخراط نشوء مرح متجدد ، و هروب مجازي مستمر من النهايات ؛ إنه أنشودة للصعود الدائري المعلق بين الأرض ، و السماء .
رابعا : بين وهج التجسد ، و الخروج المتعالي :
يقع سارد الخراط ، و شخوصه في النص بين الوهج الجسدي الذي يتفاعل مع الإشارات الثقافية ، و الكونية ، و صخب النهايات التي يفكك بنيتها التحول باتجاه كينونة شعرية جديدة ، و متعالية في الوقت نفسه ؛ ففي داخل العم باسيلي العاجز صرخة توحي بتجاوز الألم ، و استشراف بدايات جديدة ، كما تتجلى أمامه أنوثة (حنينة) ، و أمومتها الأسطورية ؛ أما تحول حميدة إلى نجمة مضيئة ، فقد تماس مع الأيقونة الحزينة للمسيح ، و على رأسه تاج الشوك ، و كأن حياة حميدة الحقيقية تبدأ من لحظة تحولها الشعري في الكون الآخر .
و من أهم المقاطع التأويلية في النص ما يجسد فيه السارد شاعرية الظلام ، و النهايات في فعل الاحتراق الاستعاري .
يقول عن النصف القاتم من حميدة عقب تحولها :
" اللهم اجعلني وقودا للشطر المحترق ، اللهم اجعلني هشيما للنصف المشتعل . اللهب ، اللهب ، أريد بقاء ساطعا في اللهب ، لا ، بل أريد الظلام .. أريد نشواته ، و خفاءه " .
هل كان الظلام بحد ذاته تشبيها لطاقة الحياة المتجددة ؟ أم أنه فاعلية المجاز المحولة لمدلول النهايات الزائف ؟ .
إن السارد يكرر علامة (اللهب) ؛ كي يمنح الكينونة سحرا استعاريا متعاليا من خلال تلك اللغة التي تتحدى الظلمة ، و الصمت في النص ، و تستبدلهما بخصوبة للنور .
خامسا : عالمية الشخوص ، و الأماكن :
تتجاوز الفضاءات ، و الشخوص في (حجارة بوبيللو) حدودها المحلية باتجاه النزعة الإنسانية العالمية عبر وسائط الاندماج في الآثار الفنية ، أو الأخيلة ذات الطابع الفردي ، و المؤولة للمحلي في سياق كوني كبير يجمع بين الداخل ، و الخارج .
لقد أعاد السارد إنتاج الراقصات في فرح الخال فانوس ، و وديدة انطلاقا من تداخلها مع راقصات هنري ماتيس ، كما تحولت جذور الأشجار في وعيه إلى أعمدة تطير في بحور العشق .
الأجساد الصاخبة عند ماتيس تستعاد في تلك الطاقة الإنسانية الخفية ، و المكررة في العلامات الجزئية ، و المحلية ، مثلما تصير معالم القرية أساطير للعشق ، و الغناء الكوني .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - هل الفنان محمد علاء هيكون دنجوان الدراما المصري


.. كلمة أخيرة - غادة عبد الرازق تكشف سر اختيار الفنان محمد علاء




.. كلمة أخيرة - الفنانة سيمون تكشف عن نصيحة والدها.. وسر عودتها


.. كلمة أخيرة - محدش باركلي لما مضيت مسلسل صيد العقارب.. الفنان




.. كلمة أخيرة - الشر اللي في شخصية سامح في صيد العقارب ليه أسبا