الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسئلة الغاز

ميثم سلمان
كاتب

(Maitham Salman)

2011 / 1 / 13
الادب والفن


مهداة إلى ضحايا حلبجة
لم يترك قريته الشمالية بهذا السكون المقيت، قبل شهر، عندما رشت أمه على آثار خطواته سطل ماء ممزوج بتمائم غامضة، اعتاد سماعها كلما تأبط مخاوفه وحاجات أخرى محشورة في حقيبة بلون الخوف. رجع إلى البيت مبتهجا بإجازته القصيرة، ثلاث أيام فقط. مدة لا تكفي لكنس يباس ينهش مخيلته. كلما قضى شهرا هناك، انمحى فصلا من ذاكرته، ليشغله حجر يشع غبارا على مد البصر.
عدة أعوام مضروبة بنفسها، مضاعفة بفعل الأنين، وهو مقصي عن كتبه وحبيبته. فلم يعد يذكر بالتحديد بدء علاقته مع ذاك اليباس.
لا يعرف لماذا يتحتم عليه التشكل مع أنساق مآلها الرماد، أنساق تبتهل لغفلة الرصاص وأخطاء القذائف. عاثت الاستفهامات في جسده حتى أدمن نخرها، داولها باحتضار طويل الأمد، أسئلة محفورة في رأسه: "لماذا كنا؟ ماذا يحدث لو لم نكن؟ لماذا نتفسخ؟ ألخ" ترسبت أخيرا بهيئة شبحيه لها طعم البساطيل، منصهرة في سؤال كالقيح: "لماذا نحترق؟".
ولج غرفة الضيوف. واجهته لوحة يحصرها إطار خشب أسود. خطت عليها كلمات تشكيلها يصدر صلصلة عالية، دونت منذ مئات السنين، لكنها حافظت على نصاعة خطوطها وكأنها تسجل مجددا. اعتاد قراءة أول سطرين فقط، أما اليوم فاضطر لإتمامها رغم وساوسه وقلقه جراء الصمت المطبق الذي يلفع البيت. ارتطمت نظراته، عند انتهاءه من القراءة، برأس أبيه الأبيض وهو يلصق جبهته على سجادة ويسور رأسه بأصابع نحيفة ومجعدة شحبت وازرقت، كأن ذالك السائل القاني رقأ في عروقه منذ دهر وليس قبل أيام عدة. لملم فورة نواحه ومنحه الصوت حشرجة مقتضبة وصدئة بدلا من الصراخ المفرط.
انسحب للغرفة المجاورة، تعثر بجسد أخته المنكفئة على رأسها، تواريه باستقامة يديها الملتصقة بخرقة، وكأنها مصرة على مسح البلاط لآخر لحظة. منذ أن خط حروف طفولته على هذه الحياة وهو يراها بنفس المشهد، حتى انه حسد ذكورته لاستثنائه من تلك العبودية، لكن عند بلوغه سن الحرب تمنى العكس. فمن يدور نحن أم التأريخ؟ نتقلب فوق سعير الجمر إلى أن نغدو فحمة ونسمي ذلك صيرورتنا! متى نعي حقيقة كوننا حطب لهذا اللهيب الذي يدعى الزمن.
بحث عن أمه، فوجدها تعلق يدها اليسرى على حافة السرير وتدس نظراتها في ظلام أحشاءه مسندة يدها اليمنى على برودة البلاط. يتدلى حجابها الداكن ملامسا الأرض ومخفيا ملامحها. فلم ير من أمه سوى جسداً متكوراً على هموم وانتظارات دائمة وتحديق في الظلام.
أراد القول: "ها أنا ذا عدت سالماً يا أمي". لكنه ابتلع غصته، وتراجع ناحية غرفة صغيرة تحتضن كتبه. شوقه عارم لمداعبتها بيد أنه وجد الكتب ملتصقة ببعض وكأنها عانقت بعضها قبل أن تموت هي الأخرى، أتعبها الفراق، فالكتب/الأفكار تجف إن لم تداولها العقول. كيف له أن يقارع الفكرة وهو يلهث متقافزا من موت لآخر؟
همس بألم: "ما بالها هجرتني؟ ألم تدرك أننا سفن محطمة تجرفها شهوة الريح؟ سفن ثقبتها الأقدار... لابد من بوح تلك المشاهد الداكنة للبياض، لتفجير دمامل الوجع، سعيا لتفريغ حسرات تراكمت لقرون صارت دهشة دائمة أو سؤال مر: هل حقا يحدث هذا؟".
سال دمه الأسود على الورق وخط: "إلام نمحى بمنجنيقات فائقة التطور؟. أهوالنا لا تبوحها الكلمات، هاك مخاض تجسيدها واتركني للنحيب".
استرسل بتدوين دموعه المتدفقة كشلال، جرف مدن وبشر في أزمنة مختلفة ليصطدم بحجر كبير ينحت دائما سؤال البوح، ويفضح خيبة الراوي: "كيف حدث هذا؟".
ردت عليه جدران البيت مثل صدى: "بسبب رائحة بيضاء سامة أمطرتها طائرات حنطت البشر وأحالت القرية إلى متحف لتأريخ الألم".
رد على الصدى: "كيف لي وصف رائحة لم تلامس أنفي بعد؟ القواميس تعجز عن ذلك، وخيالنا كالشعاع فلا بد من بداية".
في المطبخ توجد قنينة غاز تتكفل بالإجابة على سؤال الحجر وتمنح الراوي التجربة.
حرر الغاز الذي تسارع لتشكيل السؤال على أوراقه:
ل..م..ا..ذ..ا....ن..خـ..ت..ن..ق...؟

كندا/ أدمنتون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله