الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوسيولوجيا الفرهود بين مصر والعراق

حارث الحسن

2011 / 2 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


اي صورة من الجو لمدينة القاهرة تكشف عن وجود عالمين مختلفين يتجاوران ، الاول هو عالم البنايات الحديثة والاحياء الراقية والاسواق العصرية النظيفة ، والثاني هو عالم العشوائيات وبيوت الطين وسكان المقابر والمزابل . شئ مشابه موجود في معظم المدن الكبرى ، وخصوصا تلك المحسوبة على العالم الثالث . بغداد شهدت منذ الثلاثينيات تشكل عالمي المركز والهامش الحديثين ، مع اقامة الفلاحين المهاجرين من ريف العمارة والكوت صرائف في محيط المدينة ، تحولت الى احياء سكنية فيما بعد ، وشكلت طوقا من الفقر حول احياء الطبقتين الثرية والوسطى . وككل المناطق الهامشية ، فان تلك الاحياء في القاهرة وبغداد وغيرهما عانت من اهمال وتمييز اجتماعي وسياسي وثقافي مما ساهم في تراكم الفقر والعوز والحرمان فيها ، وبالطبع فان هذه البيئات المعزولة عن اهتمام السلطة او الاعلام او "المثقفين النخبويين" المشغولين بـ "القضايا الكبرى" ، لابد لها ان تعيد انتاج ثقافتها الهامشية وقيمها الخاصة ، وتصنع ثورييها ووعاظها ، شقاواتها وحراميتها ، اولئك الذين لايختلفون عن حرامية السلطة وشقاواتها الا في ان ظهورهم العلني بالنسبة للبعض يخدش "حياء المجتمع" ويسئ لوجه البلد "الحضاري" .
العشوائيات ومناطق الهامش تتكيف مع هامشيتها ، فهي لا تمتلك الوعي الكافي للسيطرة على النسل والكثير منها مازال يحمل قيم الريف الذي انحدر منه حيث مزيد من الابناء يعني ذخرا عند الكبر ، و "كلمن يجي ورزقه وياه" . معظم الابناء لايكملون التعليم حينما تصبح تكاليفه اكبر من امكانية العائلة ، او ربما يتم ارسالهم مبكرا للعمل من اجل توفير مزيد من الدخل للاسرة . بالطبع مثل هذه البيئة توفر فرصا كبيرة لتحول الكثير من الشباب الى امتهان السرقة والاتجار بالممنوعات وغيرها من النشاطات غير "القانونية" والتي تنطوي على مخاطر . ووجود هذا النوع من "المجرمين" ضروري ايضا لتبرير وجود اجهزة الشرطة والامن المكلفة بملاحقتهم دون غيرهم من المجرمين "الكبار" الذين ينتمون الى الطبقة الحاكمة وحواشيها.
البرجوازية الطفيلية التي ترعرعت على فتات الأنظمة المافيوية الحاكمة تنظر لانماط حياة ابناء تلك المناطق على انها منفرة ومتخلفة ، وتستنكف الاختلاط بهم ، وتقيم المزيد من الحدود الاجتماعية والثقافية معهم . كما ان السلطة تتعامل معهم غالبا بشدة مفرطة يساعدها في ذلك خطاب تبريري من "مثقفي السلطة" يؤكد على ضرورة فرض احترام القانون في وقت ينتهك اهل السلطة هذا القانون بصفاقة متى ما تطلبت مصالحهم ذلك . هذا الاقصاء والتمييز الاجتماعي يصبح اكثر تعقيدا حينما يتم انتاجه في اطر فكرية تبدو وكأنها مسلم بها ، فعندها يصبح الاقصاء والاختلاف بين ابناء الهوامش وبرجوازية المدن ناتجا عن الاختلاف في السمات الشخصية وعن "كسل" و "تخلف" و "جهل" متوارث في البيئات الهامشية . هذه الايديولوجية تنجح في السيطرة ليس فقط على تفكير من يعتقدون انهم متفوقون و "ابناء عوائل وباشوات وافندية " ، بل على تفكير الكثير من ابناء الهوامش والشرائح المقصية مما ينتج لديهم عقدة اجتماعية متراكمة وميلا لجلد الذات واحساسا بالدونية يشبه ذلك الذي نستشعره في تصرفات العديد من السياسيين العراقيين وهم يجتمعون بمسؤول غربي او بديكتاتور عربي .
الطبقات الحاكمة في المنطقة ظلت تعامل مدن الصفيح والهامش بقدر من التعالي والانكار ، وصل الامر في مصر الى حد الشروع ببناء مدن للنخبة خارج القاهرة لتنقل اليها المؤسسات والجامعات الكبرى ومحال الاقامة والمكاتب كي تتخلص تلك النخبة من مرأى "اولاد الشوارع" يجوبون القاهرة ويملأون احيائها ويقتربون شيئا فشيئا من مناطق كانت تعد سابقا "احياء راقية" مغلقة على "اولاد الذوات". ابناء الهامش يصنعون انتقامهم بانفجار ديموغرافي تديمه ايضا بيئة اجتماعية مهملة من اي رعاية صحية وتعليمية فعالة ، وهم اذ يتراصون في بيوت كعلب السردين ليلا ، ينطلقون صباحا في موجات بشرية الى ارجاء المدينة كل يبحث عن رزقه . وعندما تحين اللحظة وينهار النظام الامني والاجهزة الامنية المكلفة بملاحقتهم والسيطرة على تحركهم ، فانهم يغزون كل مكان يمكنهم ان يصلوه ، ويقومون بالفرهود الذي على الرغم مما يسببه من "خدش" لوعينا الذي يسعى الى انكار وجودهم ورفض ممارساتهم "المخلة بالصورة الحضارية للوطن" ، فانه ليس سوى عملية تلقائية لاعادة توزيع الحظوظ ، وربما الثروات. ان الانظمة الديكتاتورية والكثير من الانظمة التي نعتقد انها ديمقراطية ، انما تقوم على ضمان استمرارية الوضع القائم وماينطوي عليه من تمايزات واحتكار للسلطة والنفوذ من قبل شرائح معينة على حساب اخرى . وانهيار النظام هو بمعنى اخر انهيار لسلطة الحفاظ على الوضع القائم مما يطلق صراعات طالما تم كبتها بادوات القمع والتضليل .
يتحدث البعض من طفيليي النظام المصري عن "صورة مصر" التي شوهها "البلطجية والحرامية" ، في نفاق لايليق الا بالبرجوازية الطفيلية في المدن العربية المرتبطة بالانظمة المافيوية. وهؤلاء انما يمثلون ايديولوجيا مازالت تسيطر على تفكير الكثير منا ، بما في ذلك "مثقفون" لايسترزقون من السلطات الحاكمة ، على الاقل بالمعنى المباشر. انها ايديولوجيا تعير قدرا من الاهتمام للشكل اكبر منه للمضمون ، وهي تعيش دونية خاصة تجاه المركز الغربي الذي تستشعر انها هامش بالنسبة له . لا يفكر هؤلاء بان صورة مصر يشوهها اكثر ان يحكمها نفس الرئيس لثلاثين عاما ، وان يعدل الدستور ليضمن بقائه في السلطة زمنا اطول ، وان يزور الانتخابات لضمان سيطرة عصبته على البرلمان ، وان يعد ابنه لوراثته في ظل نظام يسمي نفسه جمهوريا ، وان يطلق اجهزته القمعية لقتل المتظاهرين المطالبين بحقهم في بلادهم .
احداث السلب التي حدثت بعد تدشين سيناريو الفوضى في مصر ذكرتنا مجددا بالفرهود والحواسم ودلالاتهما في العراق ، ومرة اخرى سمعنا البعض يدين تلك الاعمال ويستنكف منها ويتهم من ارتكبها بالاجرام واللصوصية ، لكن قليلين حاولو ان يفهمو لماذا تحصل هذه الامور وان يدققوا بزعم ان مرتكبيها ليسوا اكثر من "بلطجية" او لصوص اطلقهم النظام . ثقافة المهمشين وسلوكهم ليسا سوى الصورة الحقيقية للمجتمع الذي تشكل فيه هذا الهامش ، والبرجوازية الطفيلية رغم اناقتها الظاهرة ، ليست افضل من الهامش الا بما توفر لها من فرص لم تتوفر لمهمشيه. الفرهود الذي "يخجل" من حدوثه البعض ، كان يحدث في كل يوم ، سوى ان من يرتكبه كان يرتدي بدلة انيقة ويضع ساعة روليكس ويتسلح بدبابات وطائرات ومدافع ، وعندما يفر من غزو "الغوغاء" و "الرعاع" ، فانه يذهب الى شقته الفارهة في ويستمنستر . المجرم الحقيقي هو من كرس وقته وجهده وقلمه لينفي وجود هؤلاء الملايين وبالتالي يحول دون امكانية التعاطي الجدي مع الاشكاليات التي والاسباب الحقيقية التي جعلت الفجوة بين المركز و الهامش بهذا الحجم ، فغضب وانتقام الهامش هو في معظم الاحوال جواب على ظلم ولامبالاة المركز .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست