الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق يُزاحم اللَّة في عرشهِ!

آکو کرکوکي

2011 / 2 / 5
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير


في العاشر من يناير، أفتتح السيد غسان شربل مقالته بعبارة " لا تُغتال البلدان من خارجها. الطعنات القاتلة تأتي من الداخل". والمقالة التي حملت عنوان "من جوبا الى أربيل"، كانت أفتتاحية لصحيفة الحياة حينها. وأصبحت فيما بعد، محط إهتمام الوسائل الأعلامية الرسمية، في جنوب كوردستان. وإن كانت العبارة، أو بالأحرى كامل المقالة، تنم عن الألم، والأسى، والحسرة، الذي شعر به الكاتب، تجاه ما أسماهُ بـ"أغتيال بلدانهم" ، إلا إنهُ برع في صياغة مقارنة قصيرة، و مكثفة، بين تجربتي الجنوب السوداني، والجنوب الكوردستاني. فطرح فيها دعوى مؤداها: إن عدم إحترام التعددية والحرية من قبل الحكومات، سيؤدي بالضرورة الى تقسيم البلدان، إلا إنهُ شَّبهَ التقسيم بـ"الضربة القاضية" الموجه لتلك البلدان.
وهكذا مقارنات، بحد ذاتها، لم تكن الوحيدة، أو حتى الأولى من نوعها، في هذا المجال، بل سبقتها، ولحقتها، العديد من المقارنات، والتحليلات، التي شابهت بين تلك التجربتين، أو حتى تجربة جنوب كوردستان، مع كوسوفو أو تيمورالشرقية. لكنها وللأسف، لم تحظ، بنفس الإهتمام والمتابعة، من قبل الاعلام الكوردي، ولربما يعود ذلك، الى إن معظمها، قد خُطت بأيدٍ كوردية، فهي بالنسبة لهم، تحصيلُ حاصل. بيد إن هذا الأهتمام، بحق تقرير المصير وإستقلال كوردستان، من قبل الإعلام الرسمي الحزبي، هو على طرف نقيض، من الموقف الرسمي الحزبي بشأن نفس المسئلة. وتلك هي المفارقة الطريفة التي تجلب إنتباهك.
ولكننا في هذا المقال، سنتطرق الى بعض الإشكاليات والعقبات، التي تعترض إستقلال جنوب كوردستان، فنسلطُ الضوءَ، على أهم عقبتين في رئينا.
وأولهما: عزوف السياسية الكوردية، عن الجهر بتطلعاتها الإستقلالية، ومن ثم الألحاح عليها.
وثانيهما: الأيمان الدوغمائي، بوحدة، وقدسية "الوطن"، لدى الآخر.
تاركين مسئلة تحديد الترابط العضوي بين العقبتين، أو التصنيف الذي يحدد أيهما العلة وأيهما المعلول، للقُراء الكرام.
وحيث إن المبادرة بإقتحام المعاقل الرحيبة والخيوط الشائكة لهذه المسئلة لم تأت جزافاً وليس بالأمر الهين بالطبع، إلا إنهُ غنيٌ عن الذكرِ، مسيس إحتياج الكورد الى دولة مُستقلة، تضمهم وتحفظهم من حملات الإبادة والصهر المتسلسلة والمتكررة. وكيما يدانو بينهم، وبين اللحاق بزهاء المائتان أمة في هذا العالم، اللواتي ضمِنَّ لأنفُسهنَّ دولاً و أوطاناً قومية.
والباحث في الأسباب السياسية، التي دفعت بإتجاه ولادة القضيتين في الجنوبين، يمكنه ببساطة، أن يصنفهما على إنهما، ردود أفعالٍ طبيعية، على محاولات التعريب، أو الأسلمة، أوالصهر القسري. ويمكنه أيضاً أن يكتشف التزامن المثيُر بين اأهحداث، والمراحل، والتحولات، التي رافقت كِلا التجربتين، وعلى مر السنين السابقة. ومن هنا كان التماثل الظاهر بين تجربة الجنوب الكوردستاني والجنوب السوداني.
وحقيقةً، إن التماثل هذا لايرقى لمفهوم التطابق، لأن عليه الصمود، أمام جملة، من الأختلافات التي تميز كِلاهما، وفي نقاطٍ جوهرية عدة، بحيث تجعل المقُارِن حائراً، في تحديد الجهة، التي تُريد، أنْ تتشبه بالأُخرى!
فهل الجنوب السوداني،الذي يتميز في ظرفهِ الحالي، بإقتصادٍ ردئ جداً (على الرغم من إنه موعودٌ بالتحسن)، وبلاتجانسٍ إجتماعي يسودُ مُجتمعاتِها، و بإنتشارٍ هائل للمليشيات، والسلاح، والأمُيّة، يجوزُ لها، أنْ تُشَّبه بالحالة الإقتصادية الجيدة نسبياً، في جنوب كوردستان؟ حيث إن هذه الاخيرة، تتميز أيضاً، بوجود المؤسسات، والاجهزة الامنية، وأستقرارٌ أمني وسياسي نسبيان، وتجانسٌ عالي الدرجة بين صفوف الشعب الكوردستاني، وبخزين جيد من الثروات الطبيعية أيضاً.
وفي سياق هذه المماثلة بين التجربتين، فإن العامل المقُرر في رئينا والذي أدى الى إختلافهما بجلاء، وأفضى الى خلق دولة في جنوب السودان، والى بقاء جنوب كوردستان، بكل تلك المقومات المتوفرة فيها، مجرد تابع للدولة العراقية. فقد تمثل بالمطالبة الرسمية، والعلنية، والمستمرة، بحق تقرير المصير، والاصرار عليها، من جانب الجنوب السوداني. وإقتصار المطالب الرسمية، والعلنية، للجانب الكوردستاني، على الحكم الذاتي، أو الأقليم الفيدرالي. وبالتالي فقد أستطاعت، التجربة السودانية، أن تُخرِج للواقع الموضوعي، أهدافها وطموحاتها في الاستقلال، دون إمتلاك مؤسسات دولة قبلاً. بينما التجربة الكوردستانية، فقد أخرجت الى الواقع الموضوعي، مؤسسات سياسية وأقتصادية لابأس بها، ولكن طموحاتها في الأستقلال بقت خلجات ذاتية، لاتمتلك أي تجسيدٍ موضوعي، على أرض الواقع. فعالرغم من إنها تعبر عن نفسها بين الحين والاخر، على شكل تصريحاتٍ سياسية خجولة، أو ضمنية، ولكنها سرعان ماتعود لكي تختبئ في نفوس القادة والقاعدة معاً، حين يتخلى عنها الساسة، ويعودوا، ليحوروا تصريحاتهم، في صالح مايطلقوا عليهِ تجملاً "الوحدة الأختيارية مع العراق". نعم، إن إنشاء الدولة شئ، والأمنيات المكبوتة شئٌ آخر.
والحديث عن الخجل والتحفظ، يقودنا الى إلقاء الضوء، على فرضية شائعة، حول تبعات المطالبة، بإستقلال كوردستان. وتقوم هذه الفرضية، على عدد من الحجج، من قبيل، إن كوردستان ليست مطلة على البحر، وإن كل دول الاقليم والمحيط بكوردستان، تُعادي قيام دولة كوردية. ولسوف تحاصرها، وتقتلها، في مهدها. بل إن الفرضية تتمادى أكثر لتقول: إن كل الاسرة الدولية، بما فيها القوى العظمى، لها نفس الموقف. وتتداخل هذه الفرضية مع تعميمٍ آخر، وتشويشٍ مُتعمد، في إن الدولة الكوردستانية المعنية، هيّ كوردستان الكبُرى، بكل أجزائها الموزعة على الدول الاربعة. وفي المقابل فكل هذه الحجج الكلية النزعة، وذوات المحتوى الاخباري اليقيني، واللواتي ينمن عن إمتلاكٍ فض ومغرور للحقيقة، والثبوتية، والازلية. يمكن أن يثار حولهن العديد من الأسئلة، والتشكيك، و يتعرضن للنقد بالطبع.
ولا يخفى على أحد، من إن أحد مُعتنقيها، هو الرئيس جلال الطالباني، حيث إنتهى وفق الفرضية تلك الى إن الدولة الكوردية، حلمٌ شاعريٌ مجرد! ولكنهُ ورغم هذا الأنفجار المدوي الذي فجرهُ في بهو السياسة الكوردية، على أثر تصريحهِ المثير للجدل ذاك، إلا إن الفرضية التي أستند عليها، تبدو لنا مُهلهلة، بل غاية في الإهتراء. لذا لاينبغي أن نتركهُ، بغير أن نعرضهُ لمعيار النقد.
وقصارى مايجب قولهُ، في الحجتان الاولى والاخيرة للفرضية، إنهما سهلتا التفنيد. فيكفي أن تلقي نظرة على خارطة العالم، لكي تعد عدداً وفيراً من الدول، التي لا تطل على البحر. ويكفي أن تشهد حجم الاختلافات، والتباعد، التي تعيشها الاحزاب والقيادات وحتى المجتمعات الكوردستانية، في تلك الاجزاء الاربعة، لِتعرف إن فكرة الدولة الكوردستانية الكبرى، غير واقعية بالمرة، ولكنها ليست الهدف المعني، بل المقصود والمنشود حالياً بدعاوى الأستقلال، هو قيام دولة كوردستانية في جنوب كوردستان وحسب.
ويبدو إن الحجج الأخرى، قد أكتسبن درجة عالية من اليقينية، في ذهنية الكثيرين، وذلك بسبب الإعتقاد الاستقرائي، الذي مردهُ الحس المشترك والفطرة الأنسانية. فهذا التفكير الإستقرائي ذو الاسس الموضوعية الخرافية، ينظرُ للأحداث التأريخية والسياسية، وكإنها تجري بشكل مُطّرد، وعلى وتيرة واحدة لاتتغير، فما حدث بالأمس سوف يحدث اليوم، وفي الغد، والى الأبد. وهو يخرِجُ من الامثلة التي لاحظها، بتعميمٍ مُطلقْ، يطبقُ فيهِ ما رآهُ، على مالم يراهُ أصلاً. فيحاول أن يسقط تكرارات الماضي، على المستقبل، دون أي إعتبارٍ لِوجود التغيير في السياسة، ومجمل الكون.
ودون المضي قدماً، في فند الحجج الاخرى، بتبريرات منطقية بحته. يُمكننا أن ننتقل مباشرة، الى النتائج التجريبية المتوفرة. فالمناورة السياسية، التي قام بها الرئيس مسعود البرزاني، لجس نبض المحيط السياسي لكوردستان. ونقصد هنا إشارتهُ لحق تقرير المصير، في مؤتمر الحزب الديمقراطي الأخير. يمكننا أن نعتبرهُ تجربة عملية، لقياس مدى صحة الفرضية، التي تدعي: بمعارضة كل الجوار الأقليمي، وكل الأسرة الدولية، لهذا الحق. فردود الافعال كان فيهِ فرزٌ بيّن، للمعارضيين والمؤيدين أو حتى المحايدين، تجاه تلك المسئلة .
وجليٌ، بإن المعارضة الحقيقية، والوحيدة، قد أتت، وبشكلٍ رسمي، وعلني، من الجانب العراقي، وفقط ولاغير. والذي بدورهِ يعتبرُ، المعني الأساسي، والطبيعي بهكذا أمر. أما الدول الاقليمية والدولية، فقد التزموا الصمت والحياد، على الأقل، في المعلن من المواقف.
علاوة على ذلك، فإن مستوى العلاقات المتطورة نسبياً، بين أقليم كوردستان والجوار الأقليمي، والأسرة الدولية، وحتى بعض الدول العربية، لو أُخِذَّ بِنظر الإعتبار كمؤشرٍ تجريبي آخر، والذي يعبر عن نفسهِ، بالقنصليات العديدة في أربيل، وحجم الأستثمارات الضخمة، ومجموع الشركات العاملة في الاقليم، أو الواقفة في طابور الأنتظار للعمل في كوردستان. فإن نتائجهُ يترك لديك إنطباعٌ مُخالف تماماً للحجة المدُعّية: بالمعارضة المطلقة، من قِبل تلك الاطراف، لإستقلال الأقليم.
وبغض النظر، عن درجة التغيير هذا والذي أصاب الموقف الدولي والاقليمي تباعاً. لكن المعارضة والتشدد العراقيين في هذا الشأن بالتحديد، يمكنهُ أن يختزلا ويربطا كامل الطموحات الكوردستانية، بموافقتها، ويجعلاها تحت رحمتها، كما هي الآن. وذلك لأن الأقتصاد الكوردستاني المزدهر ظاهرياً، هشٌ في جوهرهِ، حيث لايعتمد على مصادر ذاتية من زراعة وصناعة، بل على واردات النفط المركزية. وكذلك الانفتاح على العالم نفسه، وكسب الشرعية الدولية مربوطٌ مرة أخرى بالعلاقة مع بغداد والعراق معاً. فإقليم كوردستان، كيانٌ سياسي يكتسب شرعيتهُ وشخصيتهُ القانونية من الدستور العراقي. ونقطتا الضعف تلك تتحمل السياسة الكوردية بإدارتها الذاتية التي تناهز العشرون عاماً، معظم أعباءهِ وتبعاتهِ.
لم يكن للأستفتاءِ في الجنوب السوداني، أن يقوم له قائمة، ويصبح واقعاً ملموساً، لو لم يكن أصلاً، أحد بنود الدستور الأنتقالي للسودان، وأتفاقية السلام الموقعة في 2005، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان، وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، في خرطوم. وبالتأكيد لو لم يكن أصلاً، شعاراً وهدفاً ومطلباً مُعلن، مِن قِبل الحركة الشعبية.
في المقابل، فكيف يمكن لجنوب كوردستان، أن تحلم بهكذا إستفتاء، دون أن يكون أصلاً، بنداً في الدستور العراقي، أو حتى بنداً، في أي أتفاقيةٍ كان، مع بغداد . لابل، ودون أن يكون مطلباً رسمياً، وعلنياً، لهم. فهل يُعقل، أن تتكرم بغداد طواعيةً، بطرح هكذا فكرة على الكورد؟
وحتى لو سلمنا مجازاً وجدلاً، بإنهُ قد يصبح يوماً مطلباً رسمياً وعلنياً، فلماذا تشيرُ بوصلتنا بشكل خاطئ دوماً، الى أنقرة، وواشنطن، دون بغداد، كجهة معنية لتقديم هكذا طلب؟
فهل طموحات الجنوببين في السودان، قد عبرت في طريقها، نحو الأستقلال، مدينة الخرطومِ أولاً، أم واشنطن، أم طرابلس، أم القاهرة؟
لربما يمكننا رد هذا التطلع الكوردي الدائم، نحو واشنطن، والعواصم الاوروبية، والأقليمية، لنيل موافقتها، على مطالبها المكبوتة، والخجولة تلك، الى يأسهِ من الموقف العراقي المتشدد، وهذا بدورهِ يثير التساؤل التالي حول أسباب التشدد هذا، بعد مُضي زهاء القرنِ من الزمان، التي فيها زُهِقت الأرواح، وسُفِكت الدماء، وسادها اللإستقرار، وأكتوى بها الجانبان على حدٍ سواء.
وليس هذا التشدد في التمسك بوحدة العراق، بوهمٍ مُختلق، بل بواقعٍ ملموس، وجدي. يُنبأك مُتيقناً، إنه قد بلغ من الرسوخِ، مبلغاً عظيماً. وقد غرز جذورهُ، في العقل السياسي العراقي، على أكثرِ من بعدٍ ديني، وأخلاقي، وسياسي. بل أضحى الأيمان بوحدة العراق، يقينٌ مقدس، لايُداني رفِعتهُ شئ. حيث إن التمسك بهِ قطعيٌ وصارم، ومحاولات التفكير بنقدها وإيجاد البدائلِ لها، جريمةٌ مابعدها جريمة، بل كفرٌ محرم تعرض المنتقد فيها الى القتل. وهذا هو الأيمان الدوغمائي، وهو الطريق الذي يفضي دائماً الى الكارثة كما كان وسيكونُ في العراق. والأيمان الدوغمائي بالدولة، هذا الكيانٌ المخُتلق من قبل الإنسان ولأجل الانسان نفسهُ، هي الوثنيةُ بعينها.
فالقومية بصورتها الفاشية تلك، وعلى أخص الخصوص، عندما تكون واهنة الأسس، وجماعتها المتخيلة، موغلةٌ في التجرد والميتافيزيقيا، حيث لا أساس تلمسه لها في الواقع، سواءاً لو تحركت مكاناً أو زماناً. في هذه الحالة، تلجأ وبحركة متطرفة عكسية، لِئن تختلق تاريخاً طويلاً سحيقاً لأمتها، وتتنبأ لها بمستقبلٍ مشرق وخالد، كأمجادها الغابرة. إي تختلقها خلقاً، فتعطيها الحياة والروح، ومن ثم تخلدها الى الأبد. ولكي تحميها من منهج الحياة والتطور أي النقد واللايقينية والتواضع، فتشرع برسم إطارٍ محكم حولها بإضفاء هالة من القدسية عليها، ولمِا لا؟ فمن يمكنهُ، أن يكون، حياً قيوماً، خالداً أزلياً، وجليلاً، سِوى الآله والصنم المقدس: العراق العظيم، دار الإسلام والعروبة، وبلاد الرافدين مهد الحضارة الإنسانية جمعاء!
ولكن، هل تجنينا وتطرفنا نحن أيضاً برئينا هذا؟
لربما، لكنه من المؤكد أنهُ أهون تطرفاً، من رجالات الدين، اللذين يفتون بقتل من ينادي بتقسيم العراق، وحتى بالفيدرالية. والذي كان آخرهم المدعو زيدان، وزميله في هيئة الجهلاء المسلمين، حارث الضاري. تحت دعوى، إن العراق دار الإسلام، وإن النبي محمد، قد أفتى بقتل من يفرق شأن هذه " الأمة". ونقول آخرهم، لأنه يأتي كحلقة في سلسلة، من الفتاوى الأسلامية الدموية، والتي دفعت قبل فترة وجيزة، بالملايين الى الشوارع، لكي ينادوا " كلا... كلا فيدرالية" وبعدها " لا اله إلا اللة وكوردستان عدو اللة"، وكلمة "اللة" هنا، المقصود بهِ هو العراق. فكوردستان ليس بمخلوقٍ ناري كأبليس، ليكون نداً لله، بل كوردستان وطن وكيان سياسي، فيمكنهُ فقط، أن يكون نداً، وخصماً، لكيانٍ سياسي آخر، مماثل له، كالعراق. المفارقة إن زيدان وغيرهم، يُعتبرون في عرف إسلامهم، "كفرة"، لأنهم يرتكبون أكبر الموبقات، وينتهكون أجل المحضورات، حيث إنهم يشركون بالله، إلهاً آخر، بل وثنٌ، من صُنع الإنسان!
ورجالات الدين، ومآربهم السياسية، والتي سنأتي على ذكرها لاحقاً، هم جزءٌ، من فريق قوميٌ فاشيٌ أشمل، من ضباط عسكرين، وكتاب، وأحزاب سياسية، وحكومات، حيث لم يتوانوا قبلاً، بوصف من خالفهم بالرئي حول العراق بـ"الخائن". سواءٌ كانت المخالفة بالرئي، حول بقاء العراق كدولة وكيان موحد، أم مجموعة دويلات مستقلة. أو حتى حول العراق كنظام سياسي، أي العراق الموحد مركزي أم لامركزي "فيدرالي". والمعروف إن الخيانة كالكفر، حدهُ القتل، في كل الأعراف، والشرائع، والقوانين، والأديان.

وعلى ذكر الأديان، وعلى مر التأريخ والزمان، كان الدين والسياسةُ، صنوانِ لايفترقان، وههنا نعني الأديان الشرق أوسطية، من إسلامٍ ويهودية ومسيحية. فها هيّ اليهودية تصبح قومية، تبني أمة ودولة إسرائيل الفتية. وتلك هيّ المسيحيةُ، تحكم أوروبا، فتستبد وتظلم، لقرونٍ طوالٍ، مظلمة، حالكة أوسطية. أما الحديثُ، عن الأسلام والسياسيةِ، فذو شجون. يبدء من هجرة محمد الى يثرب، وينتهي بآخر فتوى، حل محل، الأخلاق، والعقل، والقانون.
يقول آرنولد توينبي، في كتابه عن تأريخ البشرية: إن محمداً كان سياسياً محنكاً. فعندما تعب وكلّ من اهل مكة، في دعوتهم سلمياً للأسلام ، ولمدة ثلاث عشرة عاماً، وعندما هجر الى يثرب وتلق أول دعمٍ شعبي، و أول دورٍ قيادي هناك، بعد توسطه بين القبائل المتناحرة. عندها صار يتعامل أزاء دعوتهِ، بمنطق الأمبراطوريات السائدة آنذاك، أي الفارسية والرومانية، ويقصد هنا منطق "شن الحروب". وههنا نعتقد نحن: إنه أستخدمَ ستراتيجية، لطالما أتت أكلها في السياسة، ولطالما بقت هي ستراتيجية المفضلة لدى الأسلاميين ولحد اليوم. وهي ستراتيجية "الترغيب والترهيب". فمن الترغيب بالجنة وملذاتها المادية، الى الترهيب بالجحيم، وعذابها الأليم. من الترغيب بطوق كسرى، وكنوز الروم، وقافلة أبو سفيان، الى الترهيب بالقتل، والكفر، والخروج عن الأمة. أما في يوم مماتهِ، فخرجت أول طائفة على الأمة، وهم الأعراب، وبدء أول صراعٍ سياسي، على قيادة هذه الأمة. وكان من الشدة بمكان، بحيث جعل من صحابتهِ، ينسون أمره بسرعة، ويفضلون نقاشهم حول السلطة السياسية، على مصاحبة جُثمانهِ للقبر. ومنذ ذاك الحين، والطوائف والملل، تنشق عن هذه الأمة، بأسلوبٍ تفاضلي، وتكون السلطة والسياسة، هما الدافع والسبب.
وإقتداءاً بفتوى الخروج عن الأمة، فكم من طائفة وملة، تستحق القتل، بل كم من دولة محسوبة على إلاسلام والعروبة؟ إذن فمن يجب أن يقتل من؟ حيث بات لايعرف من هم المنشقون ومن هم أصلاً "الأمة"؟ الشيعة أم السنة؟ المسلمون أم أهل الذمة؟ القوميون الأفندية، أم أهل الجبة والعمة؟ ومن هم أمة زيدان " الأمة العراقية"،أم "الأمة العربية"، أم "الأمة الأسلامية"؟ فلا كل العراق مسلمون، ولا كل المسلمون على مذهب زيدان، ولا كل العراق عرب، ولا كل العرب يودون العروبة، ولا كل العراقيين، ينتمون الى الأمة العراقية، ولا كل الذي ينتمون للعراق ولائهم لها، ومثلهم هيئه الضاري الموقرة، التي أعتادت على أن تقضي الليالي الحمراء، راقدةً في أحضان الغرباء!
لقد أعمت الدوغمائية، والرغبة في الوثنية، بصيرة العاقلين، فراحو يتصورون العراق مرةً بلاداً تأريخية قديمة ومهد الحظارات، ومرةً داراً للإسلامِ، ومرةً داراً للعروبة وهكذا دواليك. وقد آزرهم في نظرتهم تلك، جملة من الأحداث، والوقائع، والالتباسات، والمغالطات. أولها وقوع العراق جغرافياً، على جزءٍ من الميزوبوتاميا، بكل شعوبها التي سكنتها والامبراطوريات التي حكمتها. وكون بعض المدن، مثل الكوفة، والنجف، والكربلاء، كانت مسرحاً لأهم الأحداث الأسلامية، والتي أفضت لأكبر إنشقاقٍ، أصابت الأمة تلك. وكانت مدينة بغداد عاصمةً، لأهم الأمبرطوريات الأسلامية العربية.
وكل هذا سليم تماماً، لكنه لا يميز العراق بوضعهِ الراهن، فبلاد الرافدين "الميزوبوتاميا"، والتي تمتد جغرافيتها، من منابع الدجلة والفرات، الى مصباتها، لاينطبق حدودهُ مع حدود العراق الحالي، بل تتجاوزهُ بمساحاتٍ شاسعة، فلما هذا التشبيه القسري بين الأثنين؟ ورغم إن الامبراطوريات المدينية، والتي أنطلقت من سومر وأكد وبابل ونينوى، والتي لم تكن، تتسم يوماً، بهيكلٍ سياسي أو جغرافي موحد، بل كانت غارقة في حروبٍ طاحنة، مع بعضها البعض، وفي تمدد وتقلص في جغرافيتها، والتي لاتشبه الدولة العراقية الحالية الممتدة من زاخو الى الفاوِ في شئ، إلا إن هناك، ربطٌ عضويٌ قسري بين الأثنين، في كون إحداها، قد أنبثقت من رحم الأخرى. ورغم إن عمر الأسلام نفسه لايتعد مجرد أربعة عشرة قرناً، وليس كل العراقيين مسلمين، وليس كل المسلمين على مذهبٍ واحد، وليس كل مذهبٍ يتبع مرجعية واحدة، ويستببع هذا إنه ليس كل العراقيين عرباً، وليس كل المحسوبين على العروبة، يعتبرون نفسهم عرباً، بل لربما يعتبرون أنفسهم سومريين، أو بابليين، أو آشوريين، أو ماشابه. فكيف يمكننا أن نعتبر العراق، ذو التأريخ، الممتد لعشر الالاف سنة (حسب فرضيتهم) ، أو حتى العراق، الذي يمتد عمرهُ الى قرنٍ واحد، داراً للأسلامِ والعروبة معاً. وإذا كنت تريد أن تبحث عن نسبٍ واحد، لساكني العراق الحالي، أو حتى ولاءٍ وإنتماءٍ واحد، أو دينٍ أو ثقافةٍ واحدة، على طول كل هذا التأريخ، فهل يمكن الخروج بنتيجة واقعية، تفسر أسطورة الأمة الأزلية المفترضة؟ بالتأكيد لا. فلا تواكب زماني، ولاتواكب مكاني، لمقومات الأمة المفترضة تلك.
ورغم هذه المحاججة، فإن فكرة العراق التأريخي، وقدسية، ووحدتهُ، لايجرؤ أحدٌ أن يشوبها بشائبة، أو يقترب منها. فأي حديثٍ بشأن حق تقرير المصير، هو في عرفهم تقسيم تخريبي، يبدء بإنفصال كوردستان، ويستمر بأسلوبٍ تفاضلي، حيث تنشق فيها الفروع عن الأصل، في حين الصائب في نظرهم، أن تتوحد الفروع في الأصل، بإسلوبٍ تكاملي.
ولنر كيف تكامل هذا الأصلُ أصلاً:
ففي اوائل القرن الماضي، إصطنع البريطانيون من ولايتي البصرة وبغداد العثمانيتين، دولة العراق، على أنقاض بقايا الأمبراطوريات التي حكمت بلاد الرافدين. ولم تكن رغبات المندوب السامي البريطاني، السير بيرسي كوكس، والمس بيل تتوقف عند هذا الحد، بل تعدتها مدفوعةً، بتطلعات أصدقاءهم من الضباط الشريفيين والملك الحجازي فيصل بن الشريف حسين، لضم ولاية موصل الغنية بالنفط والمنتوجات الزراعية، والضامنة بجبالها الوعرة الحدودية، لردع الترك من مهاجمة الدولة الفتية. وتم لهم ذلك. وكانت الدولة الفتية تلك، تفتقر الى الهوية الجامعة لكل الأطراف. فغدت تطبق إستراتيجيات عنيفة، من صهر، وطردٍ، وقتلٍ، للحصول على شعب متجانس. أما هوية هذا الشعب المتجانس، فإن الحصري، والضباط الشريفيين، بأفكارهم الفاشية الدولتية، أخذوا على عاتقهم، مُهمة تخيلهِ ووصفهِ. لقد تردى الدولتيون في مهاوي العروبة والوثنية، بسبب روادهم هؤلاء.
وحيث إن الأمة التأريخية خرافة، فيستحيل أن يميز القومية العراقية، من أي زاوية، وإذا كان قد بدء يستمد قدسية زائفة، من القوى الدينية، أو السياسات القومية، فإننا نتسائل لماذا هذا التشبث الأعمى به؟ ولماذا هذا الأصرار العنيد عليه؟ إصرارٌ يصيب المتتبع بالملل،والحيرة، فلم يكن، من هذه السياسات والوثنية والدوغمائية، إلا أن تفجر جملة من الصراعات الحامية الوطيس، التي يخوض غِمارها، أبناء الأمة فيما بينهم. أ و لم نر الحروب وهي تحتضن جبال كوردستان ولاتفارقها، طوال قرن من الزمان، أ و لم نر الصراعات التي نشبت بين السنة والشيعة، فبدى وكإن الأمل الوحيد الذي يهفو اليه نفس أحدهم: أن يلغي الآخر بأي ثمن!
وبعد هذا، لم يعد أمامنا أي مجالٍ كيما نناقش، هل العيش في كنف الأمة العراقية، يصلح كخيار، أم لا. فليس هناك أصلاً هوية جامعة لكل الأطراف، والتمايز على أسس فيدرالية أو حتى على شكل دول مستقلة، ليس بكفر بل عقلانية مابعدها عقلانية، لأنها تحمل رسالة نصها:
ياأيها الدولتيون الوثنيون، لا أعبد ماتعبدون.
ولا أنتم عابدون ما أعبد.
لكم أوطانكم ولي مواطني.
لكم دولكم، وأوثانكم، ولي إنسانِ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - خارطة الطريق
سمير فريد ( 2011 / 2 / 6 - 05:43 )
السيد اكو كركوكي المحترم
طوال تاْريخ نضال الحركة الكردية من اجل الانعتاق من الظلم القومي الذي كانت تعاني منه جماهير القومية الكردية من تخلف الحكام العرب في بغداد فاْن اي توجه نحو بغداد لمحاولة طرح المطالب البسيطة لللشعب الكردي كانت تقابل اما باْنصاف الحلول او بالوعود الكاذبه او بمحاولات التسويف ويمكن ملاحظة ذلك طوال ال70 السنة الماضية.لكن وبعد المتغيرات الدولية التي حدثة في الربع الاخير من القرن الماضي والتوجه المباشر للقيادة الكردية نحو اميركا وبشكل صريح حدث التحول الكبير وتم رسم خارطة طريق جديده لنيل الحقوق القومية لشعبنا الكردي .ان تقبل العراقيين لنيل الكورد حقوقهم القومية لم يكن ان يتم بمعزل عن النضال الدؤوب للحزب الشيوعي العراقي بطرحه شعارات تنادي بالحقوق القومية لكل الاْقليات في العراق .ان ما انتهجته القيادات الكوردية في التوجه نحو اميركا يمكن ان نشاهد نسخه اخرى من في علاقة الحركات الفلسطينية .حماس .منظمة التحرير وربما غدا سوريا في حل مشكلة الجولان .صحيح ان لاْميركا مصالح لكن ومن الافضل استغلال ذلك في حل مشاكلنا العالقة وبخلاف ذلك سنضل نشرب من البحر تحياتي ومحبتي للجميع


2 - الوطن كعقيدة!
آكو كركوكي ( 2011 / 2 / 6 - 09:52 )

الأ ستاذ سمير فريد
تحية طيبة وبعد...
شكراً لمرورك الكريم، نعم أنا لا انكر دور العامل الخارجي في حل هذه المشكلة، لكني أرى إن العامل الداخلي أي العراقيين فيما بينهم، لهم الدور الاكبر والأكثر تأثيراً. بالتأكيد وقوف الولايات المتحدة، أو أي قوة دولية خلف الكورد، سيحسن من موقفهم التفاوضي مع بغداد، لكن لايحسمها برئي. لأنه يبدو لي إن فكرة العراق الواحد قد تحول الى عقيدة، من الصعب أن تجد من سيوافق على تقسيمه. ثانياً فإن الجانب الكوردي متقاعس في المطالبة رسمياً بهكذا أمر. وجل ما يمكننا فعله، هو نقد هذين الأمرين معاً عسى ولعل يتغير شئ..

اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ