الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشهد الأخير للقومية: أزمة الدولة العربية

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 3 / 5
السياسة والعلاقات الدولية


لا شك ان تكريس الدولة الوطنية القطرية ، يشكل نفيا واقعيا للوحدة القومية ، بيد أنه من الخطأ اعتبار هذه الدولة مجرد بقعة جغرافية ذات حدود ، بل لا بد من وصفها كمؤسسة قانونية سياسية وكياناً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مميزاً ، وضمن هذه الصفة فان الدولة القطرية بما آلت إليه من سياسات أوصلتها الى حد التناقض الكامل مع "الوحدة القومية" تعاني أزمة حقيقية واقعية جراء السياسات نفسها .
وبعد الأعوام التالية لحرب رمضان 1973 ، وفي أعقاب ما بدا من "انتصار" عربي في تلك الحرب على إسرائيل، وما بدا أنه انبثاق قوة عربية صاعدة، أطلق عليها بعض دارسي العلاقات الدولية وقتها، "القوة العالمية السادسة" (بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين، واليابان، وألمانيا) برز عنوان رئيسي للمرحلة القادمة عنوانها هو "المشهد الأخير للقومية بعد ازمة الدولة العربية اليوم"، إذ انفرط العقد العربي بسرعة فائقة. كان المشهد الأخير هو مشهد انصراف كل قطر عربي إلى مشروعه الخاص، وليس إلى المشروع القومي العربي. كان المشهد هو مشهد الصراعات العربية الأهلية، أو العربية العربية، أو الصراعات العربية مع دول الجوار الأصيلة : مثل إيران وإثيوبيا وتشاد.
وكان أهم الصراعات جميعاً ، من حيث تأثيره السلبي على مفهوم وحركة القومية العربية هو الحرب الأهلية اللبنانية ، وحرب الخليج الأولى (مع إيران)، والثانية (بسبب غزو العراق للكويت) ، والثالثة ( الاحتلال الانجلو أمريكي للعراق) .
لقد كان القرن العشرين كله هو قرن القومية العربية، بالنسبة لهذا الجزء من العالم ويمكن القول عموماً أن هذه الملاحظة متسقة مع التاريخ العالمي ، فقد كان القرن كله بالفعل هو قرن قوميات الجنوب أو العالم الثالث والتي كانت سبباً ونتيجة لحركات التحرر الوطني من الاستعمار ، فإذا كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هما قرني "القومية"، في أوروبا والأمريكتين، فان القرن العشرين كان قرن القومية في أسيا وأفريقيا .
ولكن مفهوم وحركة القومية العربية قد نبتا وتطورا بشكل غير خطي وغير متوازن، وشوهت مسيرتهما كثيرٌ من العوامل الخارجية والداخلية ، ويمكن القول أن المشرق العربي، أي بلاد الشام، أو الهلال الخصيب، كان هو الذي بادر بالمفهوم وقاد حركته في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ، وفي تلك الحقبة اقتصر النطاق المفهومي والبشري للأمة العربية على المشرق العربي ، وفي الربع الوسيط للقرن تبنت مصر المفهوم وقادت حركته، ووسعت من نطاقه الجغرافي والبشري ، وفي الربع الأخير للقرن، وتحديداً بعد حرب أكتوبر أصبحت منطقة الخليج هي التي تتوسط مسرح الأحداث العربية ـ القومية، سلباً وإيجاباً.
ومن هنا، فان الدولة القطرية الحالية وبعد انحسار القومية تواجه عدة أزمات وطنية داخلية، أهمها :
- أزمة هوية : لا يكاد يخلو بلد عربي من أزمة هوية وطينة ، "فالهوية قيمة روحية وحضارية جماعية تعطي الفرد الإحساس بالانتماء الى الجسم الأكبر ، وتخلق لديه الولاء والاعتزاز بهذا الانتماء وحب التضحية في سبيلهِ" كونه يوفر له إشباع حاجاتهِ ، وضمن هذا الإطار لم تعد الدولة الوطنية هي مركز الانتماء أو الإطار الذي يمثل الهوية، وأزمة الدولة الوطنية تتمثل بوجود هويات متنازعة متنافسة تتنازع المواطنين بين وطنية وقومية ودينية وطائفية وعرقية ، وتظهر في الممارسة والخطاب السياسي ، وتتفاقم هذه الأزمة بتعاظم الغزو الثقافي عبر أحدث تقنيات الاتصال من تكنولوجيا المعلومات (الإنترنت) ، ولانتشار المذهل للفضائيات وشبكات الاتصال الدولي .
- أزمة شرعية : وهي الأزمة التي رافقت الدولة الوطنية منذ نشأتها ولكنها تفاقمت مع مرور الزمن الراهن بسبب استمرار غياب المشاركة السياسية وحرية التعبير ، ووصول بعض الأنظمة بوسائل غير شرعية إما على ظهر الدبابة ، أو بتزوير الانتخابات الرئاسية ، فضلاً عن اتساع دائرة التهميش السياسي ، وفقدان القاعدة الشعبية التي تدعم النظام القائم في وجه التحديات الداخلية والخارجية ، ولعل أن "سقوط" بغداد بهذه السهولة كشف عن مدى الهشاشة التي بنيت عليها قاعدة الاتصال والعلاقة بين النظام العراقي السابق والشعب العراقي.
- أزمة اقتصادية : وتتضح أبرز مظاهر هذه الأزمة في تفاقم التبعية الاقتصادية للمراكز الرأسمالية ، وتنامي المديونية العربية ، بما فيها الدول النفطية ، وأزمة غذاء وماء في بعض الدول العربية ، وتتمثل في شح وقلة مصادر المياه ، وعجز الدول العربية الوطنية عن إنتاج ما تحتاجه من غذاء وازدياد اعتمادها على الغرب والدول الصناعية الكبرى ، مع العلم أن بعض الدول العربية تعجز عن تمويل ما تحتاجه من مستوردات غذائية ، مما يدفعها الى الدخول في شبكة معقدة من المديونية واعادة جدولة الديون بما يتوقف عليها من خلق حالة من "رهن" الدولة بمختلف مؤسساتها لصالح الدول الكبرى وصندوق النقد الدولي الذي يخدم السياسات الغربية في هذا الصدد، وفي سبيل ذلك تلك معظم الدول العربية الى رفع سقف الضرائب والرسوم المفروضة على المواطن وهو ما يبعث على الشعور بالتذمر لدى شرائح اجتماعية عديدة غير قادرة على توفير الحد الأدنى من احتياجاتها اليومية ، وهذا ما يفسر تجدد "صراع" الطبقات الاجتماعية في الدول العربية منفردة وبين بعضها البعض ، كلما ظهرت بوادر أزمة داخلية او إقليمية –قومية ، بسبب فقدان أبسط أوجه التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية والذي يرتبط أولا وأخيراً بالأزمات السياسية بين الأنظمة العربية .
- أزمة اجتماعية : وناجمة عن سوء توزيع الثروة وطنياً وعربيا في مختلف شرائح وفئات المتجمعات العربية ، فهناك فئات تملك وأخرى لا تملك ، وفئات تنفق ثروتها في غير محلها ، وأخرى تبحث عما يسد رمقها يومياً ، الأمر الذي خلق نسبة عالية من البطالة والفقر وضمور الطبقة الوسطى لصالح الفقيرة .
- أزمة تخلف ثقافي علمي : تعتبر الدولة الوطنية العربية مستهلكة للتكنولوجيا والتقنية الغربية ، بل وعاجزة عن إنتاجها بأدواتها ووسائلها الحديثة أو التقليدية ، فرغم ما تملكه بعض الدول العربية ، لا سيما الخليجية ، من تدفقات نقدية كبيرة –معظمها للأسف في بنوك الغرب- الا أنها لم تفلح حتى اليوم في إنشاء قاعدة صناعية قوية تمهد الطريق لولادة تكنولوجيا قطرية أو عربية تعمل على الرفع من سوية العقل العربي الذي اعتمد على ثقافة "الاستهلاك" الخارجي، وعدم الثقة بالمنتجات الوطنية أو العربية .
فضلاً عن ذلك تواجه الدول العربية منفردة ومجتمعة مشكلة غاية في الخطورة عند الحديث عن البحث العلمي ومستوى الإنفاق الوطني والقومي عليه، حيث لا يزيد معدل إنفاق الدول العربية مجتمعة على البحث العلمي لغايات التنمية وتطوير المقدرات البشرية والتقدم التكنولوجي والمعرفي والدراسات الاستشرافية على مختلف مستويات الحياة ، لا يتعدى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي ، بينما يتجاوز 2.5% في الدول الصناعية بما فيها “إسرائيل”، وتقوم المنافسة في السوق العالمية حاليا على العنصر التكنولوجي وليس على أساس انخفاض قيمة العمل أو تكاليف رأس المال مثلما كان عليه الحال في نظام التجارة العالمي السابق، وتتفق الأدبيات الاقتصادية على ان اثر توسيع السوق على التجارة والنمو الاقتصادي يماثل اثر إحداث التطور التكنولوجي.
- أزمة أمنية : ناجمة عن عجز الدولة الوطنية عن حماية سيادتها واستقلالها الوطني أو بالحفاظ على وجودها واستقرارها وأمنها نتيجة ما منيت به من خسائر داخلية وخارجية في مواجهة ما تطلق عليه "أعداء الوطن" ، حتى وصل الأمر ببعض الدول العربية الى طلب الحماية الأمنية من الدول الأجنبية للحفاظ على وجودها ، لاسيما إذا كان مصدر التهديد من "دولة عربية شقيقة" ، تماما كما حصل بين العراق والكويت في حرب الخليج الثانية 1991م ، يُضاف الى ذلك تبعية الدولة الوطنية اقتصادياً للدول الكبرى والإقليمية ، مع ما يستلزم ذلك من تبعية في القرار السياسي الوطني والقومي والدولي ، وحالة الدول العربية في حرب الخليج الأخيرة ، واحتلال العراق خير مثال على هذه التبعية السياسية والاقتصادية.
يبدو جلياً مما سبق مدى وحجم الأزمة الوطنية التي تعانيها الدول العربية على المستوى الفردي والجماعي ، وهو ما يستدل منه الى حقيقة ان فشل النظام الاقليمي العربي في ظل القومية بمواجهة أعداءه ، خاصة "إسرائيل"، كان نجاحاً للدولة القطرية الوطنية على حساب المصالح القومية العليا أو نجاحاً لمصالح الأنظمة السياسية القطرية ، في الوقت الذي منيت فيه القومية بالانحسار والعجز التام عن تحقيق أدنى مصالح الأمة العربية المتمثلة في الاستقرار والتنمية واثبات الذات والتحدي ، ويضاف إليها مؤخراً عجزها عن الحفاظ على سيادة بعض أطراف هذا النظام العربي بعد احتلال العراق وتهديد دول عربية أخرى بالخروج من عقيدة هذا النظام لسبب أو لأخر .
ومن المفارقات الواضحة، في مشهد الخسوف القومي، أي خلال الربع الأخير من القرن العشرين، أنه مع تضاؤل العمل الوحدوي على الأرض تنامي الاهتمام الفكري والبحث العلمي حول الموضوع ، فقد نشأت عشرات المراكز والمعاهد والمنتديات وتنظيمات المجتمع المدني، المعنية بالشأن القومي ، ومن أهمها :
• مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية في القاهرة الذي أنشئ عام 1968 ويصدر تقريراً سنوياً يسمى التقرير الإستراتيجي العربي .
• مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت والذي أنشئ عام 1975 وأصدر عشرات الدراسات والبحوث الرائدة في كل ما يتعلق بالوطن العربي .
• تأسس في عمَّان عام 1981 منتدى الفكر العربي الذي يضم في عضويته نخبة من كبار المثقفين ورجال الأعمال ورجال السياسة في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ويصدر بين العديد مما ينشره تقريراً دورياً عن حالة الأمة .
• تأسست المنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1983 ومقرها القاهرة ولها ستة عشر فرعاً في الأقطار العربية وبين الجاليات العربية في الخارج وتصدر تقاريرها الدورية عن حالة حقوق الإنسان والحريات الأساسية في الوطن العربي ككل وعن كل قطر من أقطاره منفرداً .
• تأسس مركز ابن خلدون للتنمية في القاهرة عام 1988 وهو يصدر تقريراً سنوياً عن المجتمع المدني والتحول الديموقراطي في الوطن العربي وتقريراً سنوياً آخر عن حالة المِلل والنِحل والأعراق والأقليات في الوطن العربي.
وهذه أمثلة قليلة لعديد من المراكز والمعاهد والمنظمات المماثلة. وأهم ما يميزها أنها غير حكومية؛ ويشرف عليها، ويعمل بها، عشرات من الكوادر المثقفة ثقافة رفيعة، والمدربة علمياً، والملتزمة قومياً. وقد عقدت، هي وغيرها، مئات المؤتمرات والندوات الفكرية والعلمية خلال مشهد الخسوف القومي، وأبقت على العروة الوثقى بين الأجيال الجديدة من المفكرين العرب الوحدويين.
ودعَّم من هذا النسيج الفكري وعَّمق من الوعي العروبي المشترك على الأقل بين النخب العربية عبر الأقطار، كثرة الصحف العربية المستقلة التي تصدر خارج الوطن العربي وتتمتع بهوامش أوفر من الحرية ثم تعود وتُطبع داخل الوطن العربي ويقرأها عشرات الآلاف، وقد بدأت هذه الظاهرة الإعلامية بين الصحفيين المشارقة ، وخاصة اللبنانيين، خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ1990) ولكنها استمرت، بل ونمت ، ولم تعد مقتصرة على اللبنانيين في السنوات العشر الأخيرة ، كذلك من الظواهر الإعلامية في التسعينيات، والتي كان لها تأثير هائل على الوعي القومي العربي ، انتشار شبكات التليفزيون العربية الفضائية والتي تُبث عبر شبكات خارج الحدود ويصعب إن ، لم يستحيل، الرقابة عليها ، وبلغ عددها أكثر من خمس وعشرين شبكة فضائية مستقلة حتى أوائل 2002م ، ويمكن التقاطها في أي مكان من الوطن العربي، وبواسطة الأطباق الهوائية، التي أصبحت في متناول الجميع ، وتتنافس هذه الشبكات العربية الفضائية، مع بعضها، ومع الشبكات الأجنبية ، ومن ثم فهي تحرص على الحرية والبرامج الحوارية المشوقة ، ويتم فيها مناقشة شتى الموضوعات. وهي، بلا شك، تخلق وعياً مشتركاً، وتسهم في تنمية وحدة الضمير ، وأهم من ذلك أنها توحي للمواطن العربي بأن الاستبداد، ومحاصرة الأصوات الحرة من عوامل التأخر والتعثر في المسيرة العربية عموماً، وفي مسيرة الوحدة العربية خصوصاً .
فإلى جانب دور القوى الخارجية المعادية للعرب وقوميتهم، فان استبداد بعض الحكام العرب هو الذي يعطي تلك القوى مزيداً من الفرص للتدخل والاعتداء، وتبديد الموارد العربية. وكل الانتكاسات التي خبرتها الأمة العربية في القرن الماضي والنصف الأول من هذا القرن، كان مصدرها الأول هو القوى الخارجية الطامعة ، أمّا الانتكاسات التي خبرتها هذه الأمة، في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم بعد احتلال العراق مع مطلع الألفية الثالثة ، فكان مصدرها الأول هو بعض الأنظمة الحاكمة المستبدة والتي أدى انفرادها باتخاذ القرار إلى تقديم الذرائع للقوى الخارجية للتدخل والعدوان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وجهة نظر
عامرنعيم ناجي ( 2011 / 3 / 5 - 22:54 )
من اكثر الشعارات التي ارتكبت باسمها افضع الجرائم في الشرق الاوسط هو القومية بكل تنوعاتها العربية اليهودية الكردية وغيرها. هذا الشعار بالاضافة الى توأمه القضية الفلسطينية كان الحجة الابرز لابشع الدكتاتوريات في النصف الاخير من القرن العشرين في العالم اكثرها دموية كان نظام صدام المتعفن. شعوب الشرق الاوسط يشتركون في العديد من الهموم والتطلعات لكن يتمايزون في عدد اكثر بكثير من حيث التطلعات والاماني بحكم الجغرافيا والثروات الطبيعية وقوة او ضعف العامل الديني والموروث الثقافي من مكان لاخر. لا يوجد مناخ عربي منسجم ومتناغم مع نفسه بل توجد عدة اقاليم متابينة قيميا واجتماعيا. لو كان هناك رغبة بتوحيد الشرق الاوسط فلابد ان تكون رغبة شعبية حقيقية تعبر عن تطلعات الشعوب المظلمومة لا ان تكون رغبات لاناس مجانين من امثال القذافي وصدام وغيرهم


2 - stabbPsydBUDUii
Solyn ( 2011 / 5 / 10 - 15:59 )
Thatآ’s relaly shrewd! Good to see the logic set out so well.

اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات