الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية السلطان الحائر .. الرؤية الإخراجية وضياع القضية ( رؤية نقدية تطبيقية )

أحمد صقر

2011 / 3 / 6
الادب والفن


مسرحية السلطان الحائر "
الرؤية الإخراجية وضياع القضية
(رؤية نقدية تطبيقية )
العرض وطبيعة الإخراج المسرحى :
======================= إن قراءة آراء النقاد والدارسين حول طبيعة مقدمة المسرحية تكشف لنا فى سهولة ويسر أن الإخراج سار وراء تفسير المؤلف – راجع إخراج فتوح نشاطى – من خلال مقدمة المسرحية، وابتعد كثيراً عما تتضمنه المسرحية من رسالة حقيقية تحمل صراحة خطاباً مسرحياً يشير إلى فترة ما بعد ثورة 1952 ، وما عانته هذه الفترة من اضطراب فى العلاقة بين الحاكم وبين الشعب بسبب الحاشية المحيطة به مما أدى إلى ذبذبت أركان العلاقة بينهما.
إذا سلمنا جدلاً بما سبق فإن النص المسرحى المكتوب براء من تفسيرات المخرج خاصة فى المرة الأولى فى مصر على يد " فتوح نشاطى" 1963، وهو ما جاء مختلفاً من حيث التناول والتفسير على يد " عاصم نجاتى " فى 2009، ومن ثم يبدو أن " القائمين بأمر إخراج المسرحية على المسرح يحملون مسئولية هذا الخطأ فقد ركبوا شططاً فى إلباس المسرحية ثوب الواقعية " .
يحدثنا " فؤاد دواره " عن مسرحية " السلطان الحائر " بعد أن قدمت على خشبة المسرح القومى بقوله " نجح المؤلف فى إقامة نوع من التوازن بين القضية السياسية الرمزية وبين عناصر العرض المسرحى الواقعية المشوقة، بحيث لم يطغ أى منها على الآخر فلم يعق الإطار الواقعى وصول الآراء والأفكار السياسية إلى غالبيه من قرأوها أو شاهدوها على خشبة المسرح، وكذلك لم تؤثر تلك الأفكار على واقعية الأحداث وتماسك البناء الدرامى المحكم وقوة إقناعه وتشويقه وعليه فإن " دواره " لا يجد غضاضة فى أن تجمع المسرحية بين رمزية القضية السياسية وبين واقعية العرض من خلال كافة العناصر المشكلة للرؤية البصرية على خشبة المسرح، بل أكثر من ذلك فهو يرى أن الإطار الواقعى الذى دارت داخله أحداث المسرحية لم يتسبب فى إعاقة وصول الأفكار السياسية التى تضمنتها المسرحية وهو ما يراه " دواره " مزايا فنية من حيث الطرح على مستوى النص والعرض، تصل إلى درجة أن وصفها " دواره " بالجرأة بالنسبة للمضمون السياسى للمسرحية، وحيوية القضية التى عرضتها فى حينها، بل فى كل حين، أصبح من حقنا أن نعتبرها من أفضل مسرحيات " الحكيم " السياسية من الناحيتين الفنية والفكرية، بل واحدة من – أفضل مسرحياته كلها ، وإحدى درر المسرح العربى الباقية " .
يؤكد هذا الرأى " فؤاد دواره " فى دراسته فى النقد المسرحى " بقوله " تمتاز هذه المسرحية الأخيرة – يقصد السلطان الحائر – عن بقية مسرحياته الحكيم الذهنية بأنها اكثر التصاقاً بواقعنا رغم طبيعة المشكلة الفكرية التى تناقشها .. فهى تعالج صراحة موضوعاً حيوياً يمس حياتنا جميعاً، وقد إستطاع المؤلف أن يتخذ من خلال هذا العلاج موقفاً إيجابياً واضحاً من المشكلة التى يعرضها ... ومن جانبى الصراع الذى ادره فى المسرحية " .
ولكنى مع ذلك أرى أن رأى محمد مندور حول مسرحية السلطان الحائر " يعطى بعداً مميزاً لتناول " الحكيم " وذلك حين يقول، " كنت أعنى لو استطاع أديبنا الكبير أن يضع طاقته الفذة فى استخدام الرموز الذهنية فى خدمة واقع الحياة الإنسانية المعاصرة على نحو يمزج الرمز بالواقع، فيخرج لنا ما يصح أن نسميه بالواقيعة الرمزية، التى تجمع بين قوة الرمز وخلوده .. وبين واقع الحياة ومشاكلها الحية النابضة حتى رأيت أخيراً أحدث إنتاج لكاتبنا الفذ على خشبة مسرحنا القومى وهى مسرحية " السلطان الحائر " فرأيت فيها أروع تحقيق للأمنية التى كنت اتمناها " .
سار المخرج " فتوح نشاطى " خلف مقدمة المسرحية حتى أصبحت الكلمة مسئولة عن اتجاه المخرج إلى تحقيق ما جاء بها من حيرة العالم بين القوة والقانون، مما جعل فهم المخرج للمسرحية ينبعث من مقدمة المسرحية وليس من نص المسرحية، وإن أعلنه فى برنامج المسرحية المطبوع بقوله " وقد درجت فى هذه المسرحية على ما درجت عليه دواماً ، وهو خدمة المؤلف ، وذلك بإظهار أخفى مراميه وأهدافه بوساطه المنظر والحركة والجو والإيقاع " ولعل كل ذلك جعل " فتوح نشاطى " يباعد بين مضمون المسرحية الحقيقى وبين ما جاء بالمقدمة وهو ما دفع " فؤاد دواره " – وأنا معه – إلى القول " لعلى لا اتجنى على المخرج لو زعمت أنه أفسد الجو العام للمسرحية بإختياره هذا النوع من الديكور الواقعى المزخرف والملابس المزركشة الملونة، وبمحاولته إضفاء جو الفخامة والروعة على المسرحية بإستخدام مخفة يجلس فيها السلطان ويحمله الخدم الي داخل المسرح" وتجاهل المخرج عن عمد إضفاء أجواء البساطة على ديكور المسرحية وعلى الملابس، ذلك أن هدف المؤلف هو إيصال رسالة واضحة إلى المتلقى وهو ما خالف رأى المخرج حين أعلن – سلفاً – أنه درج على خدمة المؤلف وإظهار مراميه وأهدافه " وهو ما لم يتحقق على مستوى السينوجرافية – إن صح التعبير بالمعنى المعاصر – لكل ما تحتضنه خشبة المسرح من ديكورات وملابس وإضاءة وحركة ومؤثرات موسيقية.
إن سينوجرافية المسرحية – المنظر المسرحى – لم يتغير طوال فصول المسرحية الثلاثة، فهو مكون من ساحة فى المدينة فى عصر المماليك، ويوجد عمود فى الوسط مشدود عليه المحكوم عليه بالإعدام وهو النخاس وفى الفصل الثانى الساحة نفسها ولكن يظهر حانوت الاسكاف وخان الخمار، أما فى الفصل الثالث فالمنظر لا يتغير أبداً الساحة نفسها ويظهر منها جانب المسجد بمئذنته ومنزل الغانية ويكشف عن جزء من الحجرة ذات نافذة مطلة على الساحة.
إهتم " فتوح نشاطى " من وراء الإخراج المسرحى ذى الأسلوب الطبيعى بتجسيد المشاهد المسرحية حسب طبيعة النص فى أسلوب طبيعى يعنى بالتفاصيل اليومية فى الحياة المعيشة وهو ما تحقق – كما سبق القول – من تجسيد كافة العناصر الطبيعية الموجودة فى ساحة المدينة وهو ما دفع كثيراً من النقاد إلى اعتبار المسرحية تاريخية تجمع بين الرمز والواقعية وهذا ما دفع "فتوح نشاطى" إلى اخراجها من منطلق أسلوب الطبيعية وإن اقتربت أكثر وأكثر من واقعية الأداء على مستوى الصورة البصرية والسمعية وهو ما اعتاده فى إخراجه المسرحى.
عند مشاهدة عرض مسرحية " السلطان الحائر " التى أخرجها فتوح نشاطى يتضح لنا أولاً حرص المخرج على الالتزام بما جاء فى نص المسرحية بل أكثر فقد راعى المخرج مقولات المؤلف من خلال مقدمة المسرحية وهو ما جعل المخرج يتقيد بحدود المقدمة والنص وجعل الإخراج فى مجمله فاقداً لكثير من جوانب التفسير والإضافة ... ولعل رأى أحد الباحثين يتفق مع ما سبق حين يقول إن تحليل العرض المسرحى " للسلطان الحائر " يكشف عن " تماثل يكاد يكون تاماً إذ لم تختلف علامات عرض المسرحية كثيراً عن علامات النص، إلا من زاوية أنها أدائية (لغوية حيث تتجسد بالإلقاء والتلقى المسموع والمؤثرات الموسيقية والمرئية من حيث أنها تتجسد بالصورة الحركية – الأزياء – الأضواء- الظلال – الديكور) غير أن ذلك كله تحقق من خلال الإخراج المترجم للنص وعلاماته" .
ويرجع الباحث هذا التماثل إلى التزام المخرج بمقدمة المؤلف التى أعلن من خلالها توجهه المسرحى لإرضاء الرقابة ، وهو من جعلها تمثل موقف هروب وتحايل من قبل المؤلف , وقد أثر هذا سلباً على رؤية المخرج وتفسيراته التى ابعدته عن عمد عن تحقيق فكر "الحكيم" الساعى إلى الإسقاط على الواقع المعيش فى مصر فى أعقاب ثورة 1952 وبالتحديد على الحاكم (يعادل السلطان) وعلى الشعب الذى جعله " الحكيم " معادلاً موضوعياً لتفسير سلبية الحاكم والتخلص من الحاشية الفاسدة، بل جعل فى يد هذا الشعب الخلاص بأن يحقق له الاستقلال والشرعية فى الحكم وألا يظل الحاكم عبداً لمن حوله من أفراد الحاشية ظناً منهم أنهم سبب بقاء " الحاكم" بعد رحيل الملك السابق (السلطان الراحل).
إن السؤال الذى يتكرر ويلح على الباحث هو هل توافقت الرؤية الإخراجية " لفتوح نشاطى" مع رؤية المؤلف " الحكيم" ؟؟ وهل اعتمدت تفسيرات المخرج على تحقيق فكر المؤلف المتمثل فى الإسقاطات السياسية المستترة ؟ ثم هل ارتكز عمل المخرج على ترجمة النص ونقله حرفياً من صورته المكتوبة إلى الصورة المرئية بما يتفق وأسلوب الواقعية التاريخية ؟ أو اعتمدت رؤية المخرج على القراءة التفسيرية للنص توكيداً للمغزى الذى اراده المؤلف ؟ أو انطلق خيال المخرج وتفجرت إبداعاته بحيث كانت له رؤية خاصة بإجراء اضافة فكرية يحتملها فكر المؤلف بهدف إضاءة جوانب وقعت فى الظل أو تعمد الكاتب إخفائها بين السطور ؟ أم أن المخرج تقوقع داخل تفسيرات المؤلف التى وردت فى مقدمة المسرحية فحالت بينه وبين الإبداع ؟
لقدم قدم نص مسرحية " السلطان الحائر " على خشبة المسرح أكثر من مرة داخل مصر وخارجها، قدم المسرح المصرى المسرحية لأول مرة على خشبة المسرح القومى عام 1963 من إخراج " فتوح نشاطى" ، كما قدمت فى الكويت عام 1976 لفرقة المسرح العربى باسم "سلطان للبيع"، وفى السويد قدمت المسرحية " فى التاسع عشر من نوفمبر عام 2005، حيث شهد محبو المسرح على حشبة المسرح الملكى السويدى المسرحية من إخراج المخرجة " إيفا بريمان " واداء نخبة من المسرحيين السويديين المعروفين، أما عن دور "السلطان" فيمثله شاب لبنانى هو فارس فارس , وقدمت أخيراً من إخراج " عاصم نجاتى" فى مارس 2009.
يقول المخرج المسرحى المصرى سعد أردش إن " فتوح نشاطى " أحد رواد المسرح الطبيعى الأسلوب، ينتمى إلى مدرسة تقليدية فى الإخراج أوفدته الدولة عام 1937 فى بعثة لفرنسا لدراسة الإخراج المسرحى وهناك تتلمذ على المخرج " لويس جوفيه " المنتمى لمذهب ستسانسلافسكى الطبيعى " الذى يحرص على تحقيق المشاهد المسرحية وتجسيدها حسب طبيعة النص فى إسلوب واقعى يعنى بالتفاصيل اليومية وهو ما أكده " فتوح نشاطى" فى مذكراته بقوله " إن كل مسرحية تتحكم فى اللون والأسلوب الذى يجب أن تظهر به فمن غير المعقول أن تخرج مسرحية واقعية الأسلوب على ستائر سوداء أو نعمد إلى إظهارها بطريقة رمزية، وقد أحدث هذا المخرج تغييراً على نص المسرحية التى كتبت كما يعلن هو صراحة بإن نص المسرحية نص رمزى من الدرجة الأولى إلا أنه لجأ إلى إسلوب الواقعية التاريخية ويؤكد ذلك المخرج المسرحى " أحمد زكى" بقوله " لجأ فتوح نشاطى إلى إسلوب الواقعية التاريخية التى قاد حركتها المخرج الألمانى " دوق ساكس مايننجن " جورج الثانى " فى آواخر القرن التاسع عشر" حيث يصبح المنظر المسرحى فى العرض صورة تكاد تكون فوتوغرافية لمنظر من الحياة، ثابت لا يتغير بكل تفصيلاته الساحة " منزل الغانية " ذو الشرفة المطلة على الساحة – الجامع بمئذنته – غرفة تدل على منزل " الغانية " وقد تشكل المنظر وفق الطراز المملوكى بزخارفه بما يطابق الضرورة الحياتية كما يوجد بابان يفضيان إلى داخل الساحة أو خارجها، أما الجانب الآخر فهو بيت " الغانية " الذى يتوسط المنظر، حيث يقع منزل " الغانية " على يمين المنظر وتجاوره من ناحية يسار خشبة المسرح المسجد بالمأذنة العالية، ويظل المنظر هكذا لا يتغير طوال الفصلين الثانى والثالث، إلا إضافة أسفل يمين المسرح من منظور جمهور الصالة حانوت الاسكاف فى واجهته من جانبى الباب فاترينتين لعرض النعال.
جاء المنظر المسرحى فى عرض " فتوح نشاطى " مطابقاً لما أورده " الحكيم" فى إرشاداته المسرحية ،حيث وصف المنظر فى الفصل الأول " ساحة بالمدينة فى عصر سلاطين المماليك .... تفتح نافذة فى منزل الغانية " .
أما الفصل الثانى فتجرى أحداثه فى" عين الساحة .. خان " الخمار" مغلق وقد وقف يتحدث إلى " الإسكاف" المنهمك فى عمله بباب حانوته المفتوح" أما الإرشادات المسرحية الواردة فى الفصل الثالث فتتمثل فى " عين الساحة .. وقد ظهر منها جانب المسجد بمئذنته، كما ظهر جانب منزل "الغانية " يكشف عن جزء من الحجرة ذات النافذة المطلة على الساحة وقد اختزل المخرج "المنظر المسرحى"، فلا توجد حانة فى الساحة ومن ثم لا يذهب الجلاد ليطرق بابها وإنما ينادى الخمار وبذلك تغيرت علامة فى النص بعلامة أخرى " علامة بصرية تشكيلية بعلامة سمعية سردية " دون مبرر إلا ضيق المساحة المفتوحة فى تحقيق ذلك داخل المشهد.
وتعيب " فاطمة موسى" على المناظر الواقعية فى مثل هذه المسرحيات ذات الطابع الفلسفى وتقول إن " تصميم المناظر بطريقة واقعية صارمة قد أفقر النص المكتوب بدلاً من أن تغنيه " على أن " فتوح نشاطى" يخالف الرأى السابق صراحة ويحيرنا بعد وضع الديكور فى إطار واقعى طبيعى وذلك حين يؤكد أحد أساتذة الديكور المتخصصين الذين عملوا فى مجال العمل المسرحى الاحترافى" . أن الرمز واضح فى كل مراحل المسرحية – وهى ليست واقعية، فكل الشخصيات معنويات " ومن ناحية ثانية يقول " فتوح نشاطى" صراحة حين سئل عن إخراج المسرحية "اتبعت فى إخراج المسرحية الأسلوب الرمزى طبعاً، أو هو أسلوب رمزى أكثر مما هو واقعى ولقد استخدمت الإضاءة كثيراً لا رمز إلى أشياء كثيرة فى المسرحية .
وفى رأيى أن هذا نوع من أسلوب الهروب والخوف من مواجهة السلطة – سلطة الرقابة هو ما دفعه إلى الرد صراحة عندما سُئل فى أى عهد تدور أحداث المسرحية؛ فكان رده "فى عهد غير محدد ، كما أنه لم يذكر أنه أحدث بعض التعديل وفقاً لاتفاق مع المؤلف.
وإذا انتقلنا إلى شخصيات المسرحية التى تعد حين تنتقل إلى خشبة المسرح علامات من حيث الأداء التمثيلى فى التعبير الصوتى أو الحركى مما يتوافق مع باقى العلامات المسرحية الأخرى لتشكل فى النهاية كافة هذه العلامات علامة تحقق أهداف السيميولوجين بأن كل شخصية تعد دالاً له مدلول وكل علامة دالة تفصح عن دلالة تنتج من وراء التعبير سواء بالكلمة أو بالفعل وقد حشد "فتوح نشاطى" المسرحية بعدد من العلامات الدالة تمثلت فى جميع شخصيات المسرحية بدءاً من "السلطان" وصولاً إلى "الخمار" ، وقد قام الفنان الراحل "محمد الدفراوى" بأداء دور "السلطان" ، وقد جاء أداؤه ملائماً لهيئة السلطان وصوته وطلعته، حيث يعكس البناء الجسمانى ودقة ملامحه الشخصية سمات القوة وصلابة الحاكم فى مواقف متعددة جنباً إلى جنب مع سمات التسامح والتفهم والود مرات متعددة، كما تعكس شخصيته جوانب التأرجح التى انعكست فى مواقف كثيرة مما يجعلها دالة عكست مدلول التأرجح بين القوة والضعف وهو ما يجسد الفكرة الرئيسة للمسرحية.
وتؤكد فاطمة موسى الرأى السابق بل تربط بين مكانة "السلطان" ومكانة "الغانية" وذلك حين تقول " السلطان" فى عليائه و"الغانية " فى مكانها الزرى من المدينة كلاهما يسير فى الطريق الذى اختاره ولا يحفل بما فى الطريق من أوحال وكلاهما يصل إلى الحرية بهذه الطريقة، وكلاهما يعلو عن بقية الشخصيات، ولا يجد كفئاً له فيمن حوله، فالسلطان يرفض تآمر وزيره ويسموه على تحايل "القاضى" وهو شجاع لا يعرف المناورة أما "الغانية" فتكشف هذه المناورات ولا تحفل بها، وهى لا تحفل بما يقوله الناس عنها، ولا تعبأ بأن تشرح لهم الحقيقة " .
إن ملامح شخصية "السلطان" بما صورها " الحكيم " إنما تؤكد إلى أى مدى ستعكس هذه الملامح أسلوبه فى الحكم وكيف لا يلجأ إلى القوة وأساليب البطش والتعذيب وأيضا يدلل "الحكيم" على فساد الحاشية الذى أدى إلى فساد الجو الديمقراطى وهو ما يؤكد الحديث عن فساد أجواء الحكم فى مصر فى أعقاب ثورة يوليو 1952 لذا يرى سامى منير " أن التركيز من " الحكيم " على فساد حاشية السلطان هو ما حاول " الحكيم " أن يجعله سبباً فى إفساد الجو الديمقراطى بين السلطان وشعبه، بصورة جعلت السلطان وكأنه مسلوب الإرادة يتقاذفه رجاله دون أن يكون له رأى إلا بعد اتصال "بالغانية" التى أخذت ترفع من معنوياته، راسمة له الطريق السوى لأصول الحكم الديمقراطى فى إسلوب تقريرى غنائى ميلودرامى" .
منذ دخول السلطان فى الفصل الأول فى موكبه المحمول على محفة حملت على اكتاف الجنود والحرس وبسؤال السلطان يدور النقاش بين السلطان وقاضى القضاه والوزير كما دار النقاش سلفاً بين الجلاد والمحكوم عليه بالاعدام فى هذا الفصل يسعى السلطان بإدائه الهادئ فى أن من حوله سيحرصون عليه حرصهم على أنفسهم حين يرتب أمر التحايل على القانون مع "الوزير" ويرفض "القاضى" ويأتى رد الفعل من قبل الجمهور عندما يصر القاضى على بيع السلطان؛ فيسيطر على الجمهور الضحك وله دلالة بطبيعة الحال.
ثم يعود الوزير القاضى أمام السلطان ويطلب الوزير من القاضى أن يشتريا هما السلطان من حرمالهما سراً وهو ما يثير رد فعل ايجابى يؤكد وصول الدلالة والمعنى للجمهور اذ ينفجر الجمهور فى التصفيق وهكذا تتضح باقى معالم شخصية السلطان وأدائه وصولاً إلى لحظة اختياره بين السيف والقانون فى بقعة ضوئية تؤكد صعوبة الاختيار وترفع عنه بقعة الإضاءة بعد أن قرر اختيار القانون.
يظهر على المسرح مشهد جلوس السلطان على كرسى العرش فى الفصل الثانى لحظة البيع عن استسلام "السلطان" للتحايل على القانون الذى أعده "الوزير" و" القاضى" مما يفقد "السلطان" هيبته، وهو مستسلم غير أن ما يؤخذ على المشهد هو ضيق مساحة خشبة المسرح مما جعل مشهد المزاد يغلب عليه الهمجية وعدم القدرة على إتمام فعل الحركة وجعله يحقق دلالتين أحداهما أن هذا هو حال الشعب فى هذه الفترة وهذه دلالة إيجابية، أما الأخرى فتدل على عجز المخرج عن تحقيق الدلالة الكاملة لمعنى هذا المشهد وهذه دلالة سلبية تأخذ على المخرج .
تتكامل ملامح أبعاد شخصية السلطان الدالة على القوة فى المشهد الأخير بمنزل الغانية حينما خير بين :-
القلب العرش السيف العبد (دال)
الحب الحكم القوة بيت المال (مدلول)
أما عن شخصية الغانية وعن الدور الذى تعكسه من خلال المسرحية فهو يحمل كثيراً من دلالات الاتزان والقدرة على تسيير الأمور، وهى ملامح أحبها " الحكيم" بطبيعته للمرأة بشكل عام فهى شخصية قيادية محركة لمن حولها، فهى تنجح فى تحريك رجل الدين والجلاد والسلطان نفسه، كما أنها تتمتع بالقدرة فى أن تقف موقف الند لكل الشخصيات الممثلة للحاشية أمثال القاضى والوزير، وكلها ملامح جاءت متوافقة مع الفنانة "سميحة أيوب"، هيئتها وثبات حركتها وامكاناتها الصوتية تتوافق مع الشخصية وتحقق الدلالات الصوتية المطلوبة للجمل المكتوبة عندما يرسو المزاد على "الغانية " ويرفض مندوبها التوقيع على صك العتق وتظهر "الغانية" وتجادل بقوة "الوزير" و"القاضى" و"السلطان" إلى حد أنها اغضبت "الوزير"، فحاول أن يهيج الشعب عليها لقتلها، لكن "السلطان" يرفض تبرير استخدام السيف ضد "الغانية" لاخضاعها، عندئذ يلجأ السلطان داخل هذا المشهد إلى محادثة الغانية عن عجزه فى أن يستمر فى الحكم من داخل بيتها، لكنها تصر على ذلك ويعلو صوت الغانية وضحكها مما يدهش الوزير والقاضى لإنها تحافظ على حقها فى الاحتفاظ بالسلطان هذا المشهد يعكس قوة الغانية – مهما تكن دلالاتها – سواء دلالة قوة المال أو قوة الرأى العام – الإعلام – أو قوة الشعب تفشل كل المساعى بما فيها تقديم موعد آذان الفجر وبعد طوال نقاش وجدل يوافق السلطان وينزل من على كرسى العرش ويسير لبيت الغانية يعكس لقاء الغانية والسلطان داخل بيتها جوانب متعددة فى شخصية الغانية سواء الكرم – حسن تقدير شخص السلطان القوة والشكيمة – الحكمة كلها دلالات تحققت عند الغانية باعتبارها شخصية مؤثرة فى احداث المسرحية.
أما عن الوزير الذى من المفروض أن يتمتع بخصال الحزم والشدة بوصفه ممثلاً للسلطة التنفيذية فهو يعادل دور وزير الداخلية فى العهد الحديث، لذا يتطلب هذا الدور من المؤدى امكانات صوتية تدل على الشدة والدهاء وامكانية التنويع بينها وبين اللين وهدوء الشخصية وكلها ملامح تحققت فى اداء محمد الطوخى بدلالاته الصوتية والحركية وتعبيرات وجهه المحققة لكثير من دوال الدور.
يأتى دور القاضى الذى مثله الفنان " فاخر فاخر " بصوته الوقور وهيئته المتزنة موفقاً فى تحقيق كثير من دلالات الأداء المطلوبة، فصوته راسخ رسوخ القانون . وثباته فى الأداء حين يواجه الفوغاء من انصار السلطة التنفيذية ممثلة فى الوزير الذى يواجهه ويعلو صوت الوزير على صوت السلطان لكن القاضى ثابت ثبات القانون وإن وضع السيف على رقبته.
تتحقق ملامح شخصية القاضى وتتجسد فى مواقف كثيرة فيها الموقف الأول فى الفصل الأول حين يتحايل الوزير على القانون بالتعاون مع السلطان ويرفض قاضى القضاه ويعلن عن ضرورة بيع السلطان فيضحك الجمهور وهو موقف يعكس صرامة شخصية القاضى حتى ولو اغضب السلطان فهو ممثل القانون تعكس شخصية القاضى كثيراً من الدلالات بوصفه دالاً يمثل القانون ففى تورطه مع المؤذن لتقديم آذان الفجر ما يدل على تلاعب القاضى بالقانون. ثم جلوس القاضى عند قدم السلطان فى مشهد البيع دليلاً على استسلام القاضى وعجزه عن الحل.
أشير إلى دور الإسكاف الذى يمثل روح الفرح والبهجة بين شخصيات المسرحية مع شخصية الجلاد التى تحمل كثيراً من روح ابن البلد بادائه الهزلى الشعبى. فقد كان اختيار الفنان "على رشدى " بإمكاناته الصوتية والجسمية موفقاً، غير أنه سعى إلى تنميط الدور مما قرب أداءه لهذه الشخصية من شخصية اليهودى بطبقة صوته المعهودة فى السينما المصرية.
وهذا أداء متكرر وهو ما يؤخذ على المخرج لأن المؤلف لم ينص صراحة فى المسرحية على كون الإسكاف يهودياً. وعن دور المؤذن قام " عبد المنعم ابراهيم" بإداء دور المؤذن الذى أفصح منذ بداية المسرحية أنه لا مكان له وسط هذه السلطنة فمنذ البداية يترك أذان الفجر بتحريض من "الغانية" لكى لا ينفذ حكم المحكوم عليه بالإعدام ثم يتم تهديده من قبل الوزير مما يجعل أداءه كوميدياً يتنافى مع هيبة شخصيته. وتعكس ملامح أداء المؤذن كثيراً من الدلالات التى تؤكد فقدان الدين ورجاله لدورهما ومكانتهما فى هذا الوقت.
حققت حركة الممثلين بوصفها علامات دالة تهدف إلى إنتاج دوال من وراء التعبير داخل موقف المسرحية التى تجمع بين الجد والهزل كثيراً من المعانى المتولدة بالمسرحية. ففى جانب من الحركة جاءت العلامات غير الكلامية مصاحبة للعلامات الكلامية "الحوار" وفق أسلوب المعايشة بما يترجم المعنى الذى ترمى إليه الكلمات، حيث كانت أقرب إلى السكون منها إلى الحركة المتدفقة التى تعتمد على استعراض مهارات المخرج، ونستثنى من ذلك حركة دخول موكب السلطان محمولاً على محفة عليها عرشه، وهو جالس عليه تظلله قبة المحفة وكأن الإيوان نفسه قد انتقل للساحة محمولاً على أعناق الخدم والحرس ويظل السلطان طوال الحدث جالساً على عرشه فى منتصف المنظر والقاضى إلى جواره حتى يطلب فك قيود المحكوم عليه . وهى علامة بصرية دالة على أن السلطان يستمد قوته من قوة سلطانه.
إن الحركة فى هذه المسرحية تكاد تكون حركة ساكنة وهى أبعد ما تكون عن الحركة المتدفقة التى تعتمد على استعراض المخرج لمهاراته، أو استعراض مهارات الممثلين، فقد اكتفى المخرج فقط بتجسيد فكر " الحكيم " حينما جاء بالنص فى إطار المسرح التقليدى وإن قلل من التصريح بحقيقه القضية وتخفى وراء ما طرحه المؤلف فى المقدمة مما قلل من تفسيرات المخرج ليصبح مترجماً متحفظاً .
لقد اتخذ " فتوح نشاطى " فى اخراج المسرحية أسلوب الواقعية الصارمة خلال مسرحية فكرية فلسفية تقترب الشخصيات فيها من أن تصبح رموزاً مما يبعدها عن أن تكون واقعية فى مجملها ومع ذلك فقد تضمن العرض بعض الملامح الرمزية البسيطة، فمثلاً تحددت وظائف الإضاءة ودلالاتها على مستوى الزمن، بين الليل والنهار، مما جعل حركة الإضاءة تكاد تصبح واحدة غير متجددة إلا فى موقف الاختيار بين السيف والقانون حيث لجأ المخرج إلى تغيير الإضاءة وخفتت لتوحى بعزلة السلطان وحيرته أمام الاختيار إلى أن يعلن اختياره النهائى للقانون. هنا يظلم المسرح تماماً ولا نرى فيه إلا تمثال للعدالة وفى يده الميزان وقد ثقلت الكفة التى تحمل كتب القانون عن الكفة التى تحمل السيف وهذه لمحة تعكس دلالة رمزية أكثر منها واقعية، ويمكن ادراجها ضمن العلامات البصرية المفسرة لفكر المؤلف .
وهو ما يعلنه عبد المنعم عثمان بقوله " روعى فى التصميم تجنب الألوان الكثيرة، وخاصة التى تقترب من الواقع خوفاً من تشتت العين وانشغال المتفرج بقيمة لا تخدم العرض. إن التباين الذى ينتج عن الألوان المتكاملة يمكن أن يكون له تأثيره غير المطلوب وشدة زائدة لكل الألوان المتضادة يسئ إلى العلاقات بين الكتلة والفراغ والشكل والخلفية. لهذا فقدم استخدام اللون الأبيض المائل للرمادى لتلوين عناصر المنظر المسرحى مع الاحتفاظ بالخلفية وراء هذا التشكيل المعمارى المفرغ " لذا لجأ مصمم الإضاءة إلى اللون الأبيض مع تحدد زمن المسرحية طوال الفصول الثلاثة ما بين الليل والفجر والنهار مما يجعل أحداث المسرحية لا تستغرق سوى أربع وعشرين ساعة.
إن وقفة أمام عرض المسرحية يجسد مبدأ لطالما نادى به " فتوح نشاطى " وهو تحقيق رؤية المؤلف وفكره من خلال إخراجه، ومن ثم فإن الإخراج يقترب من كونه يترجم النص، ذلك أن المخرج ارتكز على تصوير حياة النص فكرة وقيمة وشخوصه، كما هو وارد فى النص، كذا نستطيع القول إن العرض ترجمة حركية للنص فى أسلوب تقليدى صارم لم يتأسس على رؤية خاصة بالمخرج، وكانت علامات الاخراج، علامات تجسيد دلالات واقعية طبيعية تتوافق ظاهرياً مع علامات النص وتتناقض دلالياً مع ابعاده السياسية المستترة والتى تعد إسقاطاً على الواقع المصرى فترة حكم عبد الناصر وإن كان الكاتب قد أنكر ذلك فى مقدمة المسرحية ويعتقد الباحث أن السبب فى ذلك ليس تكاسل وعى المخرج عن فهم دهاليز الخطاب المسرحى السياسى بقدر ما هو هروب من العوائق والعراقيل التى فرضتها مراكز القوى، وممارستها لأساليب القمع وكبت الحريات وهو نفسه السبب الذى ألجأ الكاتب إلى استخدام التراث والتاريخ وسيلةً فنية آمنه للتعبير عن آرائه النقدية السياسية بعيداً عن أى ضغوط رقابية، وهو ما يراه فؤاد دواره متحفظاً – من وجهه نظره فى المسرحية – حين يقول " إن مسرحية " السلطان الحائر " كما قدمها المسرح القومى عمل نظيف مشرف إذا كان لم يسأ إلى النص الأصلى إساءات بالغة، فمن المؤكد أنه لم يضف إليه الإضافات الضرورية لكل عمل مسرحى متكامل" .
وقد حاول المخرج " عاصم نجاتى " معارضة النص القديم " لتوفيق الحكيم" فى رؤية تعارض الطرح القديم وتبرز رؤية معاصرة يعتقد المخرج أن " فتوح نشاطى" لم يتناولها ولكن تناوله – فى ظنى – أبعد العرض عن المعاصرة المباشرة وجعل الجمهور يبحث وسط هذه المعالجة عن بعض العناصر التى يرى أنها ترتبط بالواقع المعاصر سواء كان هذا العنصر مادياً بصرياً يرتبط بالملابس والاستعراضات أم سمعياً بصرياً مثل بعض الجمل التى استخدمت وبعض الاغانى التى حاول المخرج أن يدلل بها على معاصرة الأحداث.
وعلى الرغم من ذلك فإن المخرج بداية لجأ إلى شاشة سينمائية تعرض عليها الأحداث وهو ما أبعد المتلقى عن جو المعاصرة جنباً إلى جنب مع أسلوب الحكى والقص عند شهر زاد وشهريار وكأن المخرج يلجأ مع هذه المقدمة لدعم العمل بمقدمة مضللة كما فعلها من قبل " توفيق الحكيم " مؤلف العمل . يقول " أشرف مصطفى " فى تعليقه على العرض " استعان المخرج بشاشة عرض سينمائية استخدمها فى خلق حالة الحكى وسرد الرواية عن طريق "ألف ليله وليله" وهو ما تشابه مع عرض "السلطان الحائر" فى نسخته السويدية الذى عرض عام 2005 من إخراج " ايفا بريمان" على المسرح الملكى السويدى وتم الاستعانة فيه ايضاً برا ويحكى الحكاية ويبدأها بكان يا ما كان " .
وبناء على ذلك فقد حاول المخرج تقريب الحدث من المعاصرة باستخدام هذا التكنيك جنباً إلى جنب مع استخدامه للرجل العصرى الذى يرتدى بدلة وبرنيطه ويشارك فى المزاد ودون مقدمات يترك المكان لينتقل إلى مزاد آخر دون مبررات درامية أو دون اضافات جمالية للمشهد ؟ ولم يتمكن المخرج من حسن توظيف دلالات هذا المشهد فكرياً ودرامياً وماذا كان يعنى بدخول هذا الرجل العصرى إلى قلب الحدث وخروجه منه وهو ما برره المخرج بقوله " لقد اضفت لهذه المسرحية قيمة شهريار وشهر زاد لأقوم بتفسيرها فى قالب الدراما الموسيقية الاستعراضية برؤية معاصرة " .وعليه فإن هدفه من استخدام الشاشة السينمائية وأسلوب الحكى تفسير العمل فى إطار الدراما الموسيقية، اضف إلى ذلك تأكيده صعوبة تقديم النص كاملاً دون ابهار حتى لا يصاب الجمهور بالملل ويقول أننى من خلال الأغانى والإستعراضات استطعت أن اختصر جزءاً كبيراً من المسرحية، لأن مدتها تتجاوز خمس ساعات ، ومع ذلك حاولت ألا يخل الاختصار بمضمون المسرحية .
إن الاعداد أو الاختصار الذى قام به " عاصم نجاتى" وابدله بعدد من الاستعراضات والأغانى أبعد عمله عن تحقيق التوافق بين أفق توقعاته بوصفه مخرجاً للعرض وبين أفق توقعات جمهور المسرح الذى قرأ المسرحية وشاهدها فى إخراجها القديم ومن ثم فإن إدعاء (نجاتى) السابق يحبط المآخذ التى أخذها كثير من المتلقين والدارسين والنقاد ، وفى هذا الصدد يعلق الكاتب " أحمد خميس " على العمل بقوله " وقد تأكدت تلك الظاهرة – يقصد الاحتيال الثقافى وتشويه النصوص الأصلية – عندما قدم المسرح مؤخراً مسرحية " السلطان الحائر " لتوفيق الحكيم " باعتبار أن العمل رؤية عصرية لعمل كتبه " الحكيم " عام 1959 ، وصاحب الرؤية هذه المرة هو المخرج " عاصم نجاتى " الذى " فتح الله عليه بإدخال الموبيلات والفيس بوك وغير ذلك على نص " توفيق الحكيم " ومعروف فى تاريخ الثقافة أن تستلهم موضوعاً ، لكن لا يعرف أحد أن نتناول عملاً محدداً لتقوم بتشويهه " .
لا يتفق الرأى السابق مع معالجة المخرج واعداده لهذا النص من منطلق الحذف واضافة بعض الموتيفات العصرية التى يجدها " الخميسى " وسائل تشويه للعمل الأصلى، أضف إلى ذلك أن المخرج أعلن صراحة أن وراء تقديم هذا العمل مغزى سياسى ويوضح هذا قوله " النص فى الأساس سياسى وأنا دائماً فى جميع مسرحياتى لابد أن تكون هناك سياسة ضمن وجهة نظرى فإن المبدع أو الفنان أو الممثل إذا لم تكن له وجهه نظر فيما يدور حوله فى المجتمع من ظروف سياسية واقتصادية يبقى الأفضل أن نحول كل العروض إلى رقص ومغنى.
ويناقض هذا المخرج رأيه السالف فى المغزى السياسى لهذه المسرحية قائلاً فى ملتقى المسرح القومى السابع وأن هناك تماساً بين الفترة التى كتبت فيها المسرحية والفترة التاريخية التى تتحدث عنها المسرحية، وبين اللحظة الحالية، وهذا التماس هو شرعية حكم بعض الحكام فى الوطن العربى وعلاقة الغرب بالعرب وعدالة القانون وقوة السيف واوضح أنه ليس هناك أى إسقاطات سياسية ولكنها مجرد تماس .
إن رأى المخرج يحدد وبإدراك ماهية العمل المسرحى أنه لابد وأن يكون وراء العمل بشكل عام هدف ومن بين الأهداف أن يحمل النص برسالة، ورسالة هذه المسرحية واضحة وهى رسالة سياسية ونحن لا نختلف – نقاد المسرح ومتلقيه – مع هذه الرسالة لكنه ضمن مسرحيته استعراضات راقصة وأغانى رأى فيها " أشرف مصطفى " مسعاً لتحقيق السمة العصرية للنص القديم وذلك بقوله " جاءت بعض الاستعراضات مستخدمة لحركات راقصة معاصرة ولقد استطاع الراقصون تنفيذ الرقصات التى صممها " عاطف عوض" بشكل يوضح الحالة التى عبرت عنها الأغانى التى استعان بها المخرج " عاصم نجاتى " والتى أعطت نفس حالة الكورس لكى يعوض به ما تم اختصاره من النص الأصلى ولقد وفق فى ذلك كاتب الأغانى " مصطفى سليم " الذى لم يشعرنا بما تم اختزاله من النص" .
إن الرأى السابق يؤكد أن وظيفة الاستعراضات المرئية المقروءة بوصفها دلالات مع الأغانى المسموعة تحقق للنص إما تفسيراً أو إضافة لما بين سطور حوار المسرحية، ولكننى أرى فى هذه الأغانى والاستعراضات دوراً ووظيفة أخرى لجأ إليها المخرج بعد أن قام بإعداد النص وهى فقط تعويض ما فاته من أحداث وحوارات بين الشخصيات فقدها حينما لجأ إلى الاعداد مما جعل الاستعراضات والاغانى أشبه بالمعادل الموضوعى للمعانى التى فقدها المعد ولا تعد إضافة للعمل أو تفسيراً، بل يصل الرأى إلى اعتبار الحذف والإضافة عبء أكثر من كونه عمقاً واضافة للعمل، ذلك أن المسرحية لم يتمكن مخرجها بهذا الاعداد من تحقيق التواصل بين الماضى والحاضر وظلت المسرحية حبيسة الماضى مغلقة بين أحداث الماضى أما محاولة إدخالها فى نطاق المعاصرة من خلال الأغانى والاستعراضات لم يحسن استثمارها.
على أننى ورغم ما يوجه إلى الإخراج وإلى تفسير النص سواء كان المعد المخرج – من وجهه النظر السابقة – ترجم النص أم فسره أم حذف منه أو اضاف إليه فأن النقد المسرحى لم يطرح الجانب الآخر فى تناول هذا العمل وآراء النقاد الذين وافقوه فى الطرح ؟ وهل كان للرقابة دور سلبى أو إيجابى فى العرض هذه المرة ؟ وهل تناول المخرج العمل بعيداً عن مقدمة النص الأولى ؟ واعتمد فى اعداده على سعيه لطرح رؤية عصرية كانت أفضل حظاً من الظروف التى عاصرت " فتوح نشاطى" .
طالبت الرقابة بعد عرض هذه المسرحية مارس 2009 بحذف الأغنية الأولى التى تصاحب مشهد دخول السلطان وبعض الجمل والعبارات الواردة فى أغانى المسرحية، وربما نكتشف ونحن مع بداية الألفية الثالثة أن الرقابة لا تزال تمارس دورها فى منع بعض الأغانى لكلماتها أو بعض الحوارات لما تتضمنه من كلمات تتعلق ببعض الأفكار والأطروحات المحظورة من قبل الرقابة لذا أعلن المعد والمخرج أن هذه المسرحية لوحة سعى من خلالها إلى الاقتراب من الواقع السياسى العربى حرصا على تحقيق نوع من التوافق والتلاقى بين المسرحية من حيث كونها رسالةً يحملها الممثلون إلى مستقبل هو الجمهور، غير أن دور الرقابة واستخدام الشاشة السينمائية وشخصيتى ذى البدلة وذى اللحية كل هذه المفردات لم تقلل من جوانب الإبداع التى حققها المخرج.
والواقع أن المخرج اجتهد من خلال تأويلات النص القديم وهو نص يحتمل تأويلات كثيرة للأحداث والشخصيات والحوار، وحاول أن يخاطب الواقع المعاصر خطاباً عصرياً بمعضلة الحكم والديمقراطية فى العالم العربى ومن خلال الطرح نستطيع أن نلمس المعاصرة القريبة جداً مما يحدث على ساحتنا المصرية والخاصة بقضية الحكم وإسلوب اختيار الحاكم ورأى الأحزاب والشعب فيما يختار وانقسام الأحزاب إلى مؤيد ومعارض مؤيد لفكرة توريث الحكم ومعارض لهذه الفكرة.
وكما كان حال الإخراج الأول " لفتوح نشاطى" الذى كان عرضاً استاتيكياً ساكناً جاء حال العرض الجديد " لعاصم نجاتى " كما يقول كمال يونس مترهلا غير متماسك إذا أساء مخرج العرض فى التعامل مع النص مما اضاع ملامح التركيبات الخاصة بكل شخصيته واقحم شخصية الأجنبى الذى سيشترى الحاكم فى أى وقت، ولم يستفد من تقنينه الفيديو واقحمها وربطها بفشل ذريع بألف ليلة وليله .. وكانت الاضاءة باهته ضالة ضائعة بلا أى أثر درامى، فضلا عن الحوارات الإرتجالية الطويلة الممطوطة وخاصة فى حوار الجلاد والنخاس واقحام شخصية الخمار المخنث كعادة الأعمال المسرحية الهابطة ".
ويتفق مع هذا الرأى رأى الناقد " حسن سعد " الذى يرى فى عرض المسرحية توجهاً آخر حيث يقول فعلى الرغم من " جماليات الأداء أو مفرداته فإن المخرج قدم نص " توفيق الحكيم" بكل تفاصيله كما صورها ووجسدها فكراً للحكم وكان أمام " عاصم نجاتى" أكثر من فرصة لإبراز عمق معالجته أو التأكيد على الجانب والقراءة العصرية من خلال نص قديم ولكن كيف ؟ .... ويعلق الناقد على موقفين رأى أن المخرج لم يستثمرهما جيداً أولهما الشاب الذى يرتدى البدلة البيضاء فقد كان المخرج بحاجة إلى فك رموز وشفرات – هذا الدال – كذلك لم يوضح لماذا الرجل ملتح وعلام يرمز وما دلالاته كل هذا لم يصل للمتلقى " .
وعلى الرغم من بعض المآخذ على أسلوب العرض فإن المخرج " قدم صورة مسرحية بسيطة للغاية دون تعقيد فى الأداء التمثيلى والديكور والإضاءة وإن جانبه الصواب فى شكل الاستعراض ومدلوله رغم جماليات الأشعار " لمصطفى سليم والحان هشام طه"( .ومن ثم فإن الأداء التمثيلى تميز بالسلاسة والوضوح وتنقل الممثلون فى الأداء بين الأداء بالصوت المناسب – فى مواقف كثيرة – والتعبير بالوجه والحركة فى بعضها الآخر، غير أن الأداء فى جانب آخر غلب عليه " خروج الممثلين عن روح النص والعرض، ومع استبدال حوار النص باغان عاليه النبرة غير واضحة لعلو الموسيقى على الكلام المغنى واقحام الأغانى بكثرة فى العرض وعدم توزيعها بشكل جيد فى بداية العرض ثلاث أغان " متتالية ثم أغان متناثرة تصاحبها استعراضات متنافرة، وما بين الأداء النحيف المموط للجلاد والنخاس للجارية والشبشب الذى ظلت ممسكة به لما يقرب من عشر دقائق فى يدها بعد ضربها للجلاد به، وإلقاق صك الرق على الأرض والدراجة التى دخل بها المؤذن للمسرح كلها – عناصر أبعدت بين المعالجة وأهمية وقوة القضية المعروضة – أقصد الديمقراطية – مما جعل العمل يشعرنا أن المخرج أراد أن يحاكى حال المسرح الآخر – مسرح القطاع الخاص - .
أما عن أداء الممثلين فقد أبرز المخرج موهبة " حنان مطاوع " حيث تجلى أداؤها فى تمسكها بحوارات النص وخاصة فى حوار صراع السيف والقانون أما " محمد رياض " فلا شك أن أداءه يؤكد افتقاده الحضور المسرحى على الرغم من نجوميته التلفزيونية " وهو رأى اختلف معه ويختلف معه " حسن سعد " الذى رأى فى اداء " محمد رياض " لشخصية السلطان الحائر " أداءً سهلاً مقنعاً سواء من قوة الصوت أم التعبير بالوجه أم الحركة وقد جسد شخصية السلطان بتميز واقناع بقدرته على فهم ملامح وطبيعة شخصية السلطان" أضف إلى ذلك أن الفنان " محمد رياض " استطاع أن يسيطر على لب الشخصية من خلال ادائه لدور السلطان الراكز والرصين بحركاته وايماءاته التى تتسم بالوقار والبعد عن المبالغة والتحضير لاتخاذ القرار من خلال تصرفات واعية بإبعاد الشخصية وانفعالات تليق بسلطان البلاد .
أما أداء "مفيد عاشور" لدور القاضى فقد كان " صعباً بحيث يستطيع أن يجمع بين النقيضين الإنسان صاحب المبدأ المصر على تنفيذ القانون حتى ولو طارت رقبته مقابل ذلك الإنسان المزور المتلاعب بالقانون، وهو فى هذا حاول أن يقوم بتبريرات من خلال أدائه تعينه على الصدق فى التجول الذى يفاجئ به المتلقى. لذلك فقد استخدم قفزاته وحركاته الرشيقة لكى يظهر تبعيته وولاءه للسلطان مع محاولة الإتسام فى ذات الوقت بالحكمة وهيبة القاضى حتى يتسنى له اقناع السلطان لكى يتحول عن رأى الوزير" .
أما عن الديكور والملابس فيقول المصمم " لقد ارتبطنا فى تصميم ديكور المسرح بالطابع الشرقى دون تحديد فترة زمنية، واضفنا لها من الطراز الإسلامى والهندى، كذلك ملابس العمل سيجد فيها المشاهدون نوعاً من الفانتازيا ، وقد راعينا فى تصميم العمل ككل ألا تظهر حقبة تاريخية معينة" . وعلى هذا فإن عدم تحديد الزمن للمسرحية لا يعدو جديداً فقد أعلنه قبل ستين عاماً " فتوح نشاطى" عندما سئل عن أجواء المسرحية وتاريخها إلى أى زمن يعود فقال أنه لا ينتمى إلى فترة محددة .
ويتفق " كمال يونس" مع الآراء التى تثنى على ديكور المسرحية المعبر، لكنه يصف الاضاءة بإنها " فقيرة جداً درامياً ولم تقم بوظيفتها فى إبراز جمال الديكور فى أكمل صورة فلم تضأ الحانة مثلاً ، وتصميم ملابس العرض ثرى جداً ومعبق بالجمال وملابس الجنود وأردية الغانية الحسناء الأخضر والاصفر والبنفسجى، وملابس الاستعراضات ليقدم الديكور والملابس ثراءاً وتنوعاً لونياً جميلاً رغم الإضاءة الفاشلة تماماً فى القيام بوظيفتها الدرامية والجمالية".
وعليه فإن النقد الذى يتناول عناصر العرض ويؤكد صراحة أن المسرحية افتقدت بشكل عام من خلال المخرج تحقيق الايقاع العام للعرض إذ افتقد المخرج " التحكيم الفنى الواعى بمفردات صورة العرض (السينوجرافيا) وافتقد الممثلون إيقاعهم الخاص لكثرة الارتجال وسخافته مما يؤكد على ظاهرة العبث بالنصوص بلا رحمة ولا هوادة ولا فن.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي