الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليبيا: مفترق طرق خطر .. ومرحلة خيارات ضيقة

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2011 / 3 / 10
السياسة والعلاقات الدولية


غيرت الثورة الشعبية الليبية مسار الثورات الشعبية العربية السلمية في تونس ومصر، وتحولت منذ أيامها الأولى من ثورة سلمية مطالبة بالإصلاح والتغيير إلى ثورة شعبية مسلحة ضد نظام العقيد القذافي مطالبة بإسقاط بنى النظام القذافي العسكري الاستبدادي، وتأسيس مرحلة جديدة من تاريخ ليبيا أساسها دولة مدنية ومواطنة عادلة وحكم الصالح وديمقراطية مؤسسية، والواقع ان قمعية وعقلية العقيد القذافي هي التي دفعت بمنحنيات الثورة السلمية الى ثورة مسلحة وعصيان مدني طال كافة أرجاء الدولة من شرقها في بنغازي الى غربها في الزاوية وسرت وصولا إلى طرابلس التي ما زالت عصية على الثّوار بحكم تمترس كتائب القذافي على حدودها البرية والجوية .
واليوم وبعد مرور (22) يوما على الحرب الطاحنة التي تدور رحاها بين كتائب القذافي والمرتزقة من جهة وثوار الشعب الليبي من جهة أخرى، دخلت المعركة السياسية والعسكرية مراحل صعبة لا خيار فيها سوى استسلام احد الطرفين وانتصار الآخر، وأصبحت ليبيا برمتها على شفا حرب مدمرة تحصد الأخضر واليابس، وتزيد من معاناة الشعب الليبي الذي وجد نفسه أمام آلة الحرب القذافية التي فتكت بأكثر من عشرة آلاف شخص جريح، وقتلت لليوم أكثر من (7500) مواطن ليبي سواء من الثوار او من كتائب القذافي العسكرية.
وبدل أن تتحدث الشعوب العربية والعالمية عن ثورة سلمية تجنح للتغير، كما حدث في ثورتي تونس ومصر، بات العالم بأسره يتحدث عن جرائم حرب وفضائع إنسانية ترتكب على مرأى ومسمع العالم الذي يعتبر نفسه متحضر وإنساني!! فإذا بها تكتفي الأسرة الدولية "الهمجية" بمتابعة ما يجري بقلق شديد، وسط ميادين القتال والحرب المجنونة، ويتحدث الغرب والعرب عن حجم الأسلحة وأعداد المقاتلين ومناطق سيطرة كل طرف، لتتحول ليبيا الى ساحة حرب أهلية، يسميها الثوار "حرب تحرير"، وآخرين حرب التحرير الثانية ضد الاستعمار الايطالي !!
وأصبحت عملية حسم الخيارات صعبة للغاية في ظل واقع "كر وفر" سياسي وعسكري، فمن جهة تشكل المجلس الانتقالي الليبي الذي يمثل حركة الثوار الشعبية ليقود الحراك السياسي والدبلوماسي المحلي والخارجي، ومن جهة أخرى ظهرت حركة دبلوماسية نشطة من جانب القذافي وحكومته، وكلا الطرفان –المجلس الانتقالي والقذافي- يحاول ان يكسب شرعية شعبية ودولية، فالمجلس تقدم بطلبات اعتراف على الصعيدين العربي والدولي ونجح في إقناع عدد محدود للغاية من الدول لدعمه سياسيا وعسكريا، مثل ايطاليا وقطر، وبالمقابل يسعى القذافي الى تقديم صورته للرأي العام المحلي وقوى المجتمع الدولي بأنه الحصن الأخير المدافع عن أوروبا والغرب وإسرائيل في وجه القاعدة والجماعات الإرهابية، وحاول أن يشتري ذمم وسائل إعلام عربية وأجنبية وقيادات غربية للضغط على الولايات المتحدة والأمم المتحدة للحيلولة دون إصدار قرار أممي بتدخل عسكري في ليبيا .
من هنا، جدد القذافي في لقاء تلفزيوني أخير تشبثه بالحكم، مصرا على رفع "فزاعة" تنظيم القاعدة في وجه الغرب، لكنه هذه المرة قدم وصفة مغايرة تخدم إسرائيل، إذ قال "ان تقويض نظامه سيهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها وصولا لإسرائيل" ، واصفا ما يقع حاليا في بلاده بـ"ظاهرة جنوبية" يقودها مسلحون قدموا من الجزائر وأفغانستان ودول أخرى ، اصطادوا الشباب الليبي "المغلوب على أمره".
وزعم القذافي ان "الأسرة الدولية بدأت تفهم الآن أننا نمنع أسامة بن لادن من السيطرة على ليبيا وإفريقيا"!! وهو ما نرى فيه نوعا من الغزل غير المباشر للغرب وإسرائيل نفسها ، مفاده أن نظامه مستعد لتقديم تنازلات حد الاعتراف بها، وإقامة علاقات مباشرة ، فيما لو استتب له أمر السلطة من جديد، ودعمه المجتمع الدولي بعودة الاستقرار والأمن للبلاد والقضاء على الثورة الشعبية!!
وهو ما يفسر –بوجهة نظرنا- المماطلة الأمريكية والغربية تجاه الأوضاع في ليبيا، على خلاف التدخل الأمريكي المباشر في مصر منذ أول يوم للثورة، فيما نراها اليوم تتحدث بلغة دبلوماسية للغاية، وسياسة تسويف الأمور في وقت يقتل فيه الشعب الليبي بسكين القذافي والمرتزقة!! ما يعني أن واشنطن وبعض الدول الأوروبية تحاول ان تحل الأزمة بطرق دبلوماسية دون اللجوء إلى الخيار العسكري المباشر من جهة، ودون فسح المجال لدعم الثورة وإسقاط القذافي الذي خدم الغرب والولايات المتحدة لسنوات طويلة من جهة أخرى، لاسيما وان البديل –على خلاف الوضع في مصر وتونس- الذي سيخلف القذافي لم تتضح صورته وهويته للان لدى واشنطن ودول غربية، وتخشى ان يكون البديل الإسلامي –حتى ولو معتدلا- هو القادم لقيادة ليبيا، خصوصا وان رئيس المجلس الانتقالي للثوار الآن هو وزير العدل السابق المستشار والإسلامي المعروف مصطفى عبد الجليل الذي انشق عن نظام القذافي وانضم للثوار منذ انطلاقها منتصف فبراير الماضي .
ما يقلق الغرب أكثر اليوم هو أن تلك الحرب الطاحنة وصلت الى آبار النفط بعد قصف متعمد من جانب قوات القذافي لبعض آبار النفط بهدف تحييد العامل العسكري الغربي عند التدخل في شؤون ليبيا او محاولة فرض حظر جوي على البلاد، فالعقيد القذافي يحاول من خلال ضرب آبار نفط إيصال رسالة لواشنطن وأوربا ان مصالحهم في ليبيا ستكون في خطر، وان النفط والغاز الذي يحرك هواجس تدخلهم للحفاظ عليه، سيحرقه بالكامل ويحرق ليبيا معه ان تدخل الغرب في ليبيا، في الوقت الذي يحرص فيه القذافي على الظهور أمام وسائل الإعلام الأجنبية بمظهر قائد الثورة الذي يحكم السيطرة على زمام الأمور ويحذر الجميع ان معركته جزء من معركة الولايات المتحدة و أوروبا ضد الإرهاب الإسلامي في الشرق الأوسط والعالم، وهو نهج ذكي سعى اليه بعد ان استفاق القذافي من صدمة الثورة في الأيام الأولى وانتقل من مسار اتهام الشعب الليبي بـ"الخيانة والعمالة للغرب والأهداف الصهيونية" ..الخ الى مسار "التركيز على القاعدة" كهدف مشترك يرضي الغرب والرأي العالم العالمي، ولا ننسى ان خطاباته في الأسبوعين الأولين للثورة حظيت بسخط عام بسبب لغة الاتهامية والانحطاط التي خاطب بها شعبه والعالم، ما بدا انه خارج سياق الواقع والتاريخ، فعاد إنتاج خطابه ليركز على هدف محدد هو "القاعدة والإرهاب" لينسجم مع أهداف واشنطن وأوروبا .
والواقع أن ليبيا دخلت الآن في نفق مظلم لا يعلم احد مداه ومنتهاه، ومن غير المتوقع على الإطلاق أن يحقق فيها اي طرف انتصار على الأخر، لان اللعبة الصفرية بين الطرفين تعني إنهاء الآخر كلية، فان نجح القذافي وقواته في إنهاء الثورة ولو بشكل نسبي، ستتحول ليبيا إلى سجن كبير وسيشهد العالم مجازر بشرية بالجملة، وان انتصرت الثورة-وهو الاحتمال الأقوى حاليا- سيعمد القذافي إلى تنفيذ تهديده وحرق ليبيا عن بكرة أبيها من خلال فرق الموت التي سينشرها في البلاد للقتل والإرهاب، وكذلك ضرب آبار النفط والغاز! وفي كلا الحالتين ستكون ليبيا قد دخلت إما مرحلة "الأرض المحروقة" أو تؤسس لحرب أهلية قد تمتد لسنوات، كما جرى في لبنان والعراق !! خاصة ان اشتركت فيها القبائل بتحريض من القذافي الذي يتمنى ان تدخل البلاد في أتون حرب أهلية تيسر له عملية إعادة السيطرة من جديد بقوة النار والحديد .
لكن الخروج من نفق هذه الاحتمالات الخطيرة ومفترق الطرق الضيق، يكمن في سرعة التدخل الدولي –عربيا وغربيا- لحل الأزمة قبل فوات الأوان، فالتدخل العسكري العربي هو الحل المطلوب الآن عوضا عن التدخل العسكري الأمريكي او الدولي المحفوف بالمخاطر والذي ترفضه كافة الأطراف العربية والليبية، بحجة أنه قد يكون مقدمة للاستعمار من جديد، كما انه ورقة ايجابية لصالح القذافي الذي سيدفع بقوى عربية ودولية معارضة للغرب لمساندته بوصف ان الحرب مع الاستعمار والامبريالية!!
لذلك تقع اليوم على عاتق الدول العربية التي تكتفي بتقديم الدعم الغذائي والدوائي والمعنوي للشعب الليبي، مسؤولية وقف هذه الحرب المستعرة بأي شكل كان، ورغم انشغال اغلبها في هموم ومشاكل داخلية تهدد استقرارها وأمنها، إلا أن ترك الأمور في يد القذافي كاملة، وفي يد الغرب والولايات المتحدة، سيؤدي إلى مضاعفة الخسائر والنتائج الوخيمة على الأرض العربية، وسيمتد تأثير تلك الحرب إلى دول عربية مجاورة وغيرها. من هنا لا بد ان تتدخل الجامعة العربية من خلال ميثاقها الذي يجيز استخدام القوة العسكرية لحماية بلد عربي، كما حدث مع الكويت عامي 1961م و 1990م، حينما تدخلت بموجب ميثاقها وأجازت لدول عربية لاستخدام القوة لثني العراق عن احتلال الكويت في أكثر من مرة .
والمطلوب تشكل مجلس رئاسي رفيع المستوى لزيارة ليبيا والتفاوض مع القذافي لإنهاء الحرب الطاحنة بأي شكل كان، وقطع الطريق على القوى الغربية التي تحاول ان تؤجج الحرب أكثر حتى تنتظر ما ستسفر عنه المعركة من واقع سياسي جديد، دون ان تكلف نفسها عناء الضغط الجاد على حليفها القذافي!! وكذلك التفاوض مع المجلس الانتقالي، ومحاولة إقناع القذافي بقبول مبادرة المجلس بالتنحي عن رئاسة البلاد مقابل ضمان حياته وأسرته وعدم ملاحقته جنائيا عن الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه طوال أربعة عقود متواصلة، حتى يضمن الجميع ان يخرجوا من هذا الجحيم الذي لن يوفر شعب ليبيا وحضارته ومنجزاته الاقتصادية والتنموية من الخراب والدمار، فيما لو استعرت الحرب أكثر وأعادت ليبيا إلى العصر الحجري !!
لكن التطورات الأخيرة تؤكد أن القذافي مُتحجّر ومعاند لنفسه وللعالم كله، وما زال ينظر إلى بلاده وشعبه وكأنه في مطلع السبعينات و"ثورة الفاتح!! ولا يحاول أن يدرك أن العالم كله تغير وأصبحت البشرية تعيش عصر ثورة العلم والتكنولوجيا والاتصالات والتنوير والحرية والديمقراطية التعبير، فهو بحق منفصل زمانيا ومكانيا عن الواقع منذ سنوات، ويعيش مع نفسه بعالمه الخاص القائم على التناقض والضبابية والغيبوبة والأفكار البالية !!
كما يعلن دوما في خطاباته أن تظاهرات الغضب التي تملأ شوارع المدن الليبية هي تظاهرات مؤيدة له ولنظامه, وأن "شعبه يحبه ويموت من أجل" !! وهي لعبة قذرة يلعبها القذافي ليبحث عن نهاية مفاجئة تعيده إلى السلطة بأي ثمن كان!!

من هذا التحليل، يمكن أن نفهم انه لا ضير لدى القذافي من تدمير بلاده وحرق ثرواتها وخوض حرب أهلية في سبيل بقائه على هرم السلطة ولو يوما واحدا من حياته، وربما يدفع بشخصه وأسرته إلى مصير مجهول ونهاية تراجيدية مأساوية، ولذا لا نتوقع ان نرى القذافي يستسلم بسهولة، ومصيره بات محسوما بين الاغتيال أو الانتحار !! فربما يقوم احد أفراد حمايته أو أسرته بالخلاص منه في سبيل ضمان حياة باقي أفراد أسرة القذافي أو إنهاء الحرب المستعرة، أو يلجأ إلى الانتحار –كما فعل هتلر- بعد أن توصد بوجهه كل الأبواب ويجد نفسه بلا نصير أو ولي ومصيره المحاكمة أو الإعدام، فيرفع شعار "بيدي لا بيدي عمرو" !!
وإزاء هذا الوضع المأساوي، وأمام الثورة التي اتخذت منحى عسكري منذ أيامها الأولى بفضل القذافي الذي أراد ذلك ورفض الاستماع –مجرد الاستماع- لمطالب شعبه بالإصلاح والتغيير، وبات اليوم يبحث عن بصيص أمل للإصلاح وتغيير مجرى الأمور كلها مقابل إنهاء الثورة، أمام ذلك كله، فان الأزمة في ليبيا غير مرشحة للحسم خلال أيام قليلة، كما يتصور البعض، خاصة في ظل صمت عربي رهيب، ونفاق غربي غريب، وأمم متحدة عاجزة عن الإدانة أو الترهيب!! ما يعني أن الأزمة مرشحة للتصعيد أكثر واتساع رقعتها ما لم يتدخل طرف ثالث –يفضل أن يكون عربيا- لمنع التطورات من الانزلاق نحو نفق منظم ونهاية كارثية على الشعب الليبي، خاصة وان ملامح حرب أهلية بدأت تطفو على السطح مع تزايد انتشار السلاح في يد عامة الناس، وتسليح القذافي لبعض العشائر والقوى المدنية وكتائب اللجان الثورية، بهدف توسيع رقعة المعركة وإرهاب الشعب الليبي، ودفع البلد نحو حافة الهاوية !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل