الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نماذج استبداد بذهنيّة الحرب الباردة.

رائد الدبس

2011 / 4 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


الثورات الشعبية العربية التي انطلقت شرارتها من تونس ثم مصر وليبيا واليمن، تعيد إلى الأذهان مجدداً سقوط جدار برلين منذ عقدين من الزمن، وما تبع ذلك من سقوط أنظمة الاستبداد في أوروبا الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي السابق.
إذا ما نظرنا إلى النظام السوفييتي الذي حكم روسيا وأربعة عشر جمهورية سوفييتية على امتداد سبعة عقود منذ ثورة أكتوبر، كما هيمن على أنظمة أوروبا الشرقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، فربما لا نجد أي وجه شبه يربطه بنماذج الاستبداد العربي سوى الاستبداد. فالاتحاد السوفييتي الذي نشأ بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، قام على فكرة نبيلة وقديمة منذ أفلاطون ومدينته الفاضلة، ألا وهي فكرة العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر، وبناء دولة النهضة العلمية والصناعية العظيمة، لكن هذا كله لم يحمِ نظامه من السقوط.

سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته الأوروبية الشرقية جاء نتيجة لعوامل داخلية وخارجية عديدة ومعقدة خلال الحرب الباردة، لكن أهم وأكبر تلك الأسباب الداخلية التي أجمعت عليها شعوب الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، هي الاستبداد وقمع الحريات وحقوق الإنسان، واضطهاد الأقليات، والفساد والبيروقراطية. فبرغم كل النوايا الطيبة التي حملها صنّاع الثورة، إلا أن النموذج الاستبدادي الذي أرسى دعائمه ستالين، واستمر بحكم البلاد منذ بدايات الثورة وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، قضى على الفكرة النبيلة التي قام لأجلها وبددها تماما في عقول وأذهان الناس، قبل أن يقضي عليها في الواقع الفعلي. لكن الأمانة الموضوعية تقتضي القول أيضاً، أن هذا النموذج السوفييتي الاستبدادي، قاد بلاده إلى نصر عظيم على النازية الفاشية الهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية. كما حقق نهضة صناعية مدنية وعسكرية عملاقة، وحقق تقدماً علمياً مذهلاً في كل الميادين العلمية، وبنى دولة عظمى بكل مقاييس عظمة الدول، فبقيت الدولة وإنجازاتها وقدراتها العظيمة الجبارة، برغم انهيار النظام.. ولكن، ما هي الفكرة التي قامت عليها أنظمة الاستبداد العربي؟ وما الذي أنجزته تلك الأنظمة التي أقامت مع الاتحاد السوفييتي علاقات تستند على المساعدات والصفقات العسكرية خلال الحرب الباردة وبعدها؟ ما الذي اقتبسته خلال تلك العلاقات، سوى إنكار الواقع وتزييفه، وإصدار قوانين الطوارئ لأجل قمع الحريات، وشرعنة نموذج حكم الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع وفقاً للدستور، وموهبة تشكيل اللجان المتعددة وإطلاق الوعود والجمل الإنشائية الخالية من المضمون ؟ وما الذي اقتبسه القذافي مثلاً، سوى اللجان الثورية ( بدل مجالس الشعب، أي السوفييت) مع تغيير اللون والتسمية، وابتكار عنوان مُبهم لنظرية عالمية ثالثة مزعومة؟!

ولو قمنا بجرد حساب بسيط، فباستثناء بعض المكاسب الوطنية الهامة التي استطاع أن يحققها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمصر من خلال العلاقة مع السوفييت، وباستثناء بعض الإنجازات التي حصلت عليها الأنظمة الأخرى مثل تسليح الجيوش وتدريب عشرات آلاف الكوادر المدنية والعسكرية، وبناء بعض المشاريع التنموية القليلة، نكاد لا نجد شيئاً آخر سوى نسخ نموذج الاستبداد السوفييتي والفساد والبيروقراطية والشعارات الكبرى الفارغة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، كان هنالك شعار سوفييتي شهير يقول للمواطن: الحزب يفكر بالنيابة عنك!! ومنذ عقود طويلة ونحن نسمع في بلادنا العربية شعارات من قبيل: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة./ ويا أهلاً بالمعارك./ وحدة- حرية- اشتراكية./ كل الجهود لتحرير الأراضي المغتصبة وإزالة آثار العدوان./ سنسقط المؤامرة./ سنقطع دابر الفتنة الأهلية والطائفية والمذهبية./ سنبني وسنعمل وسوف نقوم بإصلاحات جذرية وسوف نكافح الفساد../ المنطقة تغلي فوق صفيح ساخن أو فوق فوهة بركان../ وثبت بالتجارب الطويلة، أن الشعار الحقيقي الوحيد بين تلك الشعارات، هو الشعار الأخير.

منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته، كان خطاب الجميع يقول: نحن نختلف عن السوفييت كثيراً.. وهم محقون في ذلك تماماً. لكن السؤال الكبير المطروح منذ عقدين من الزمن: هل تعتقد أنظمتنا العربية التي كانت محسوبة بشكل أو بآخر على معسكر الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، أنها أكثر قدرة وحصانة منه، ولا تحتاج لإصلاحات ديمقراطية حقيقية لكي تصمد أمام الإستراتيجية الأمريكية وأجنداتها بعد انتهاء الحرب الباردة، ثم بعد أحداث 11 سبتمبر 2001؟ ومنذ سقوط نظام صدام حسين الاستبدادي الذي أدى لاحتلال العراق، كان خطاب الجميع يقول، نحن نختلف عن العراق. ومنذ اندلاع الثورة الشعبية في تونس وسقوط نظام بن علي قالوا نحن نختلف عن تونس. وبعد سقوط نظام مبارك قالوا نحن نختلف عن مصر، والآن يقولون نحن نختلف عن ليبيا واليمن والبحرين وإلى آخره. أما العقيد الذي سيسقط حكمه قريباً، فيقول أن ليبيا تختلف عن الجميع. وهم جميعا على حق في قولهم أنهم مختلفون، لكنهم جميعاً متشابهون في أمر واحد هو الاستبداد، ومتشابهون في اقتباس أسوأ نماذجه الحديثة والقديمة في التاريخ البشري.
ومع أن الأنظمة الأيديولوجية التي تنتمي للحرب الباردة قد سقطت، إلا أن بعض أنظمتنا العربية لا تزال تعيش بذهنية الحرب الباردة، أو على مخلفاتها، وخصوصا إذا ما تعلق الأمر بمطالب الاصلاح الداخلي والحرية والديمقراطية. فهم تارةً يقولون أن هنالك مؤامرة خارجية وأجندات أمريكية، وهذه الأجندات الأمريكية كانت مُعلنة ومنشورة عبر مراكز البحث والتفكير الشهيرة والمقربة من دوائر صنع القرار الاستراتيجي الأمريكي منذ سنوات، فلماذا لم يأخذوها على محمل الجد آنذاك، ولم يفعلوا شيئاً لقطع الطريق عليها؟ وتارة يلوّحون بمخاطر الحرب الأهلية والفتنة العرقية والطائفية والمذهبية. وتارة يقولون بأن بعض القوى الأصولية المتطرفة والعصابات المسلحة هي التي تقود هذه الاضطرابات. وتارة يلمّحون إلى وجود بعض الفلسطينيين وراء ذلك. ويمكن طرح الكثير من الأسئلة من هذا السياق، ولعل أهم الأسئلة هي تلك الأبسط والأكثر وضوحاً من قبيل: أين كنتم وأين كان انتباهكم عن مطالب شعوبكم خلال عقود طويلة من الاستبداد؟ ولماذا لم تحصّنوا الجبهة الداخلية من خلال الانفتاح على مطالب الشعب ومشاركته في صنع القرار وفي الحياة الحرة الكريمة لكي تقطعوا الطريق على الأجندات والتدخلات الخارجية؟ ومن الذي غيّب مفهوم المواطَنَة وكرّس كل أشكال التخلف والتفرقة العرقية والطائفية والمذهبية؟ وإذا استمرت الأزمة في سورية، ولم يحدث الإصلاح الديمقراطي والانفتاح على مطالب الشعب، فما الذي سيمنع الولايات المتحدة وحلفائها بعد إنجاز المهمة في ليبيا، أن يعيدوا سيناريو التدخل تحت بند حماية المدنيين، أو غير ذلك من السيناريوهات، لتدمير القدرات العسكرية والمدنية السورية؟ أم أن هنالك من يراهن على الفيتو الروسي أو الصيني في مجلس الأمن؟ أليست أضمن وأسهل المراهنات هي المراهنة على الشعب وتلبية مطالبه دون تسويف ومماطلة؟

وبالعودة للمقارنة مع النموذج السالتيني الاستبدادي، فبرغم الاستبداد الفظيع لذلك النموذج الذي اضطهد مئات آلاف الناس المختلفين معه بالرأي، إلا أن ستالين عاش ومات فقيراً. كما أنه وبرغم سلطاته المطلقة، لم يجرؤ حتى على التفكير بتوريث الحكم. بل إنه لم يجرؤ على قبول اقتراح بمبادلة ابنه الأسير الطيّار برتبة ملازم، مع المارشال الألماني جان باولوس،(الساعد الأيمن لهتلر خلال الحرب العالمية الثانية). وكان رده الفوري على برقية هتلر آنذاك : أن ستالين لا يبدل جنرالاً برتبة مارشال، بضابط برتبة ملازم.. وهكذا انتصر الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية، وتوفي ابن ستالين في الأسر لدى الألمان، وبقي المارشال جان باولوس بعد انتهاء الحرب في روسيا، يلقي محاضرات في الأكاديمية العسكرية السوفيتية العليا ويدرب الضباط الروس على فنون علم الإستراتيجية العسكرية .
ومع أن ستالين لم يكن روسيّاً بل جورجيّاً، وكان معارضوه يصفونه بالمستبد الشرقي، إلا أنه استطاع أن يستنهض أقوى وأنبل ما في روح الشعب الروسي وكل شعوب الاتحاد السوفييتي المؤلفة من أكثر من مائة قومية، لأجل دحر الغزو الأجنبي وتحطيمه وهزيمته الساحقة، ولأجل بناء دولة عظيمة بكل مقاييس العظمة.. فأين نحن من ذلك الاستبداد الستاليني "الشرقي"؟

إن شعوبنا العربية لا تقلّ عظمة عن غيرها من الشعوب، إلا أن هذه النسخ العربية المشوهة من النموذج الستاليني وغيره من النماذج، جعلت شعوبنا ترزح تحت وطأة استبداد أنظمة وأحزاب مختلفة العناوين والشعارات الأيديولوجية، اليسارية والقومية والدينية والشعبوية، وها هي الآن تنتفض على كل أشكال هذا الاستبداد الغوغائي، وتفرض إرادتها على هذه النُسَخ والنماذج المشوهة، فإما الاستجابة الكاملة لمطالب الشعب، والإصلاح الديمقراطي الحقيقي، وإما السقوط المريع، ولا خيار آخر غير ذلك. ولم يعد ينفع معجم الوعود الإصلاحية المؤجلة، المُقطّرة بالقطّارة، أو التي تُقدَّم مثل وجبات الطعام البائت.. فلا شيء يسوق الناس إلى الحرية مثل الطغيان، كما قال فولتير. ولكن الحياة لن تكون مجرد نزهة في حقولنا الشاسعة، على حد تعبير المثل الروسي الشهير. وإلا، فما الذي يسهّل للولايات المتحدة حضورها بأجنداتها الكبرى وتدخلاتها السياسية المباشرة ابتداءً من ثورة تونس ومصر واليمن، ثم التدخل العسكري في ليبيا، وربما في غيرها لاحقاً؟ وما الذي جعل إسرائيل تهزم هذه الأنظمة وتتفوق عليها؟ وما الذي يجعلها تزداد تغوّلاً على الفلسطينيين؟ وما الذي يجعل دولة مثل إيران، تتلاعب بالكثير من قضايانا العربية وتنفذ أجنداتها ؟ وما الذي يجعل دولة إقليمية مهمة مثل تركيا تبرز أكثر فأكثر، وتأخذ على عاتقها أدواراً إقليمية تزداد أهمية وتأثيراً في كل أزمات المنطقة؟ وما الذي يجعل دولة صغيرة مثل قطر وجزيرتها تأخذ أدواراً تفوق أضعاف حجمها بكثير؟ أليست حالة السبات الرسمي العربي وإنكار الواقع، وهشاشة أنظمتنا السياسية التي تبدو كنُسَخ ونماذج متقادمة، من مخلفات مرحلة الحرب الباردة وما قبلها، هي السبب الرئيس وراء ذلك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الهدف وراء الضربة الإسرائيلية المحدودة في إيران؟|#عاجل


.. مصادر: إسرائيل أخطرت أميركا بالرد على إيران قبلها بثلاثة أيا




.. قبيل الضربة على إيران إسرائيل تستهدف كتيبة الرادارات بجنوب س


.. لماذا أعلنت قطر إعادة -تقييم- وساطتها بين إسرائيل وحماس؟




.. هل وصلت رسالة إسرائيل بأنها قادرة على استهداف الداخل الإيران