الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخلود بين عقلنة الفلاسفة وروحنة أهل الطريقة

نضال فاضل كاني

2011 / 4 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الخلود في اللغة : « خَلَدَ في المكان : دام وبقى .. »(1).
وهو في الاصطلاح الفلسفي « خُلُود النفس : بقاؤها بعد فناء البدن مع الاحتفاظ بخصائصها ومميزاتها الفردية »(2) .
ويمكن تقسيم الفلاسفة في مسالة الخلود الى ثلاث اتجاهات :
الاتجاه الاول، يمثل الشك والتردد وعدم القطع برأي، كجالينوس الذي اخبر عنه الخر الرازي أنه قال « لم يظهر لي ان النفس هل هي مزاج بعينه بحيث تصير عند الموت فانية معدومة والمعدوم لا يمكن إعادته ، أن انها شيء آخر غير المزاج ، فتكون جوهرا باقيا بعد فساد المزاج عند الموت ، فيكون المعاد ممكنا »(3).
واما الاتجاه الثاني ، فيمثل موقف المنكرين لخلود النفس وهم الفلاسفة الطبيعيون القدماء الذين اعتبروا النفس هي المزاج فإذا مات الانسان عدمت النفس ، هذا الى جانب انكارهم المعاد الجسماني.
اما الاتجاه الثالث، فهو أهمها جميعا حيث اثبت أصحابه خلود النفس وبقاءها بعد فناء البدن بالموت . ومن هؤلاء فيثاغورس وسقراط وافلاطون وافلوطين، لكن افلاطون أكثرهم شهرة واشد اهتماما « بالبرهنة على خلود النفس في عالم المثل برهنة عقلية جعلته يخصص لهذه المسألة محاورة مستقلة هي هي محاورة ( فيدون ) »(4)، وقد تابع افلوطين استاذه افلاطون في كثير من آرائه وبراهينه على خلود النفس(5).
الى ذلك ذهب بعض الفلاسفة مثل أوجست كانط الى ان البقاء للإنسانية لا للأفراد، بمعنى ان النفس الفردية اذا فارقت البدن انضمت الى الجوهر الكلي واتحدت به(6).
إن الفلسفة بذلك تحاول النظر « من زاوية واسعة ، فتحاول الربط بينهما وبين طابع الكون في مجموعه ، بدلا من طابع الانسان أو الخلاص الانساني»(7).
* * *
وإذا كان مفهوم الخلود في الفلسفة مجرد نظريات يستدل عليها بعض الفلاسفة بالبراهين العقلية(8) ، فإنه عند أهل الطريقة يختلف تمام الاختلاف، إذ « الخلود : هو أحد أهداف الطريقة ، والواصلون في الطريقة هم أهل الوصول إلى الخلود . ولهذا فأن جميع التكايا الكسنـزانية مدارس روحية لتعليم المريدين الوصول إلى الخلود ، أي التقرب إلى الله تعالى »(9).
ومعنى الخلود عندهم يختلف عن معناه عند الفلاسفة، فإذا كان الخلود عند الفلاسفة – في أحسن حالاته – بقاء للنفس بعد فناء الجسد، وهذا يحصل بعد الموت .. فهو عند أهل الطريقة يمكن ان يحصل والانسان وهو لا يزال على قيد الحياة، لأنه يعني شهود العالم الاخر – عالم الملكوت(10) - بعين القلب كما يشهد عالم الملك بعين الرأس.
بمعنى ان الخالد هو من يرتفع عنده الحجاب الفاصل بين عالمي الملك والملكوت(11) فيحيا فيهما معا قبل موته، فإذا مات لم ينقطع عن حياته تلك ، اذ تنقلب الصورة فيحيا في ذلك العالم الملكوتي وهو غير منفصل عن عالم الملك، أي وبحسب تعبيراتهم فإن الخالد هو حي الدارين – الدنيا والآخرة أو الملك والملكوت – في كلتا حالتيه قبل الموت وبعده، فإنه بخلاف غيره لا تختلف عنده الامور كما تحصل مع غيره .
يقول الشيخ محمد الكسنزان: إن « أهل الطريقة فكروا بالموت قبل مجيئه فبدئوا بالعبادات والرياضات الروحية والزهد والتقوى والابتعاد عن ملذات الدنيا ومغرياتها فتحقق لهم إلى الله تبارك وتعالى فرأوا بأعينهم حقيقة الخلود واطمأنوا بأنهم لن يموتوا : (إلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(12). لأن من رأى بعينه لا يخاف بعد ذلك ولا يكون حزيناً فلا يهمه الجوع والعطش ولا مال الدنيا وزخرفها ولا يخاف من الآخرة لأنه رأى وحظي بلقاء رَبّه وفني فيه لان الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ )(13) ويكون شاخصاً في الدنيا والآخرة لان حياته ومماته سواء : ( أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ )(14) فقد رأى بعينه الدنيا والآخرة ووصل إلى الحقيقة وماء الحياة الأبدي قال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(15)»(16)
الخلود إذا هو ان يصل الانسان الى مرتبة لا يخاف فيها ولا يحزن من أي شيء في الدارين، وليس موته أكثر من « لحظات تغمض فيها عينيك وتفتحها فتجد نفسك في عالم الأرواح ، في عليين »(17)
وللوصول الى الخلود لا يوجد غير طريق واحد فقط وهو الشهادة في سبيل الله تعالى، ومعنى الشهادة في سبيل الله : وهي بذل النفس خالصة في سبيل الله دون أية غاية ذاتية أو مادية وإنما لأجل إعلاء كلمة الله عالية فيكون الإنسان بائعاً نفسه لله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ )(18). فيخلد ذلك الإنسان ويكون حياً في الدنيا والآخرة : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )(19).. (20).
إن قوله تعالى : ( بل أحياء ) يدل على ميزة اعطاها الله تعالى للشهداء تميزهم عن غيرهم من الاموات الذين لا يكونون خالدين بعد موتهم، وهذا يعني أن بقاء نفوس الاموات المجمع عليه عند المسلمين – الا من شذ من بعض الفرق والفلاسفة- لا يدل على معنى الخلود الذي يذهب اليه أهل الطريقة، فقط الشهداء خالدين لانهم بعد موتهم يبقون أحياء وحياتهم تعني شهودهم للدارين فهم في الآخرة ولكنهم لا يفارقون الحياة الدنيا.
وللوصول الى الشهادة هناك طريقتين كما يقول الشيخ محمد الكسنزان:
الطريقة الأولى : الاستشهاد في ميادين الدفاع عن دين الله تعالى.
الطريقة الثانية: أن يتلقن العبد عهد الطريقة ، وان يلتزم بمنهجها التزاما كاملاً خصوصاً، فهذا من شأنه ان يقتل عنده الغرائز المشبوهة والنفس الامارة بالسوء، فإن ماتت نفسه – الموتة المعنوية – كان من الشهداء الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقونَ )(21) ، فيصبح خالد بحسب مفهوم الطريقة(22).
بل ان الشيخ محمد الكسنزان يذهب الى ان المريد الذي يستمر على مجاهدة نفسه ويموت الموت الحسي قبل ان تموت غرائزه فإنه شهيد ، لكنه مات مجاهدا في سبيل الله وان مات في فراشه، حيث لا فرق في الجهاد بين الاصغر والجهاد الاكبر(23) ما دام في سبيل الله (24).
الخالدون عند الشيخ محمد الكسنزان ليسوا قادرين على شهود الدارين فقط، بل هم عباد مكرمون قادرون على الإتيان بخوارق العادات « قادرين على أن يعملوا كل شيء بالله ، فأحدهم يستطيع أن يزيل الجبال بإشارة إصبعه بالله ، أو أن يحول التراب ذهباً بالله ، لأن الله على كل شيء قدير وهو في حضرته ، فهو يقدر على كل شيء بالله وبإذنهِ تعالى »(25).
الخالدون بحسب الآية الكريمة ( احياء عند ربهم يرزقون )، ومعنى انهم أحياء عند ربهم هو انهم حاضرون بنوره ( بالله ) في كل زمان مكان ، وحياتهم بعد ان كانت بأنفسهم اصبحت بربهم، وحياة ربهم مطلقة عن كل القيود والحدود، وهم في تلك الحياة الروحية بربهم ( يرزقون ) أي يمدون بالقوة لفعل كل ما يريدون، وذلك الرزق او القوة او الممدد مطلق بأطلاق الحالة الروحية التي هم فيها، سواء اكانوا في الدنيا أو الآخرة، ولهذا فإن الخوارق تظهر على ايديهم متى شاءوا بإذن الله او متى شاء الله ذلك من به.
وإذا ما استحضرنا عقيدة الشيخ محمد الكسنزان في الفناء في الله تعالى، فإن مفهوم الشهادة يصبح اكثر وضوحا، لانهم ان كانوا فانين في الله تعالى فهم به يستطيعون ان يشهدوا كل شيء بلا استثناء، وان كانوا فانين في الله تعالى فهم باقين ببقاءه السرمدي فهم خالدين بخلوده الابدي، كما أن قدراتهم وامكاناتهم جميها خارقة للطبيعة بل للوجود، لأنها متصلة بالخالق العظيم.
ومثال ذلك – كما يقول الشيخ محمد الكسنزان - « الأنبياء والأولياء الذين لا تبلى أجسادهم في التراب وكذلك سيدنا الخضر عليه السلام الذي علّمه الله تعالى العلم اللدني فأصبح حياً إلى يوم الدين , فالعابد السالك في طريق الصوفية المتفاني في الله تعالى يكتسب صفاته تعالى الخارقة من قدرة وبصيرة علم وغير ذلك ، قال تعالى في الحديث القدسي: ( عبدي اطعني تكن مثلي , إذا قلت لشيء كن فيكون )(26) أي انه صار خالداً وحياً لا يعتريه الموت والفناء وإنما يكون انتقاله من عالم إلى عالم قال تعالى : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ )(27). فالسلطان هو محبة الله ورسوله والمداومة على ذكر الله والاستغراق في ذاته وصفاته حتى يبلغ مبلغ الرجال ويكون في مصافي العظام ويلبسونه لباس الحق ويُفنى الموت أمامه ويذوب فهو يعانق عالم الحق والحق يعانقه والخلود والشهود محيطان به »(28).
وهنا نلحظ جانبا آخر من جوانب الخلود كما يعلمها الشيخ محمد الكسنزان، وهو خلود الابدان – اذا جاز التعبير – ومعنى هذا الخلود هو ان تحفظ اجساد الخالدين بعد الموت فلا تنحل الى التراب كما هو الحال مع أبدان من سواهم من عامه الناس والمؤمنين.
كما نلحظ ايضا نمطا آخر من الخلود، وهو عدم الموت الحسي (اطالة العمر) الى يوم الدين كما الشأن بالنسبة للعبد الصالح الخضر .
فالخلود عند الشيخ محمد الكسنزان ذو مضامين روحية متعددة وحيوية ، وهو في كل هذا – كما تبين لنا - يختلف كل الاختلاف عن أي طرح فلسفي او فكري في هذا الشأن .

ــــــــــــــــــــــــ
- المعجم العربي الأساسي ، ص 413 - 414 .
2 - المعجم الفلسفي، ص81
3 - انظر : الفخر الرازي ، الاربعون في أصول الدين ص 288 ، نهاية العقول ، ج2 ص 171.
4 - د. محمد حسيني ابو سعدة ، الوجود والخلود في فلسفة أبي البركات البغدادي، القاهرة، ط1، 1993، ص229
5- افلوطين، التساعية الرابعة، مقال7، فصل 10، ص318، ترجمة د. فؤاد زكريا
6 - جميل صلبيا، المعجم الفلسفي، ج1ص544 .
7 - الفلسفة انواعها ومشكلاتها ، ص26
8- انظر مثلا : د. محمد حسيني ابو سعدة ، الوجود والخلود في فلسفة أبي البركات البغدادي، القاهرة، ط1، 1993، ص229 والتي تليها.
9 – الشيخ محمد الكسنزان، موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان، ج7 ص216
10 - انظر : الشيخ محمد الكسنزان، الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، ص3
11 - «الملكوت: هو عالم الأرواح والروحانيات ، لأنها وجدت بأمر الحق بلا واسطة مادة ومدة »، الشيخ كمال الدين القاشاني، اصطلاحات الصوفية، ص 106 .
2 - يونس : 62 .
3 - المؤمنون : 115 .
4 - الجاثية : 21 .
5 - الحجر : 99 .
6 – الطريقة العلية القادرية الكسنزانية، ص118
7 – موسوعة الكسنزان، ج7 ص 217
8 - التوبة : 111 .
9 - آل عمران : 169 .
20- الطريقة الكسنزانية، ص118
2- آل عمران : 169 .
22 - انظر : كتاب الطريقة الكسنزانية، ص 117 ، موسوعة الكسنزان ج7 ص217
23 - روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال لأصحابه، وقد انصرفوا من الجهاد: (أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: مجاهدة النفس) شرح صحيح البخارى لابن بطال، ج10 ص210.
24 - سماع شخصي .. اذن به
25 - الموسوعة – ج17 ص217
26 - (لم أجده بهذه الصيغة وورد بصيغة اخرى بالمعنى نفسه في حديث قرب النوافل :عن أبي هريرة قال قال رسول الله : (إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2384 برقم 6137 ، ج 1 ص 105، صحيح ابن حبان ج: 2 ص: 58. وذكر الشيخ عبد القادر الكيلاني في فتوح الغيب ما يلي ( قال الله عز وجل في بعض كتبه : يا ابن آدم أنا الله لا إله إلا أنا أقول للشيء كن فيكون )
فتوح الغيب بهامش قلائد الجواهر ص 26). موسوعة الكسنزان، فهرس الاحاديث، الحديث رقم 673، ج24 ص 264.
27 - الرحمن : 33 .
28 - الطريقة الكسنزانية– ص 118 - 119
ـــــــــــــــــــــ
سلسلة قراءات صوفلسفية مقارنة في ضوء آراء الشيخ محمد الكسنزان - الحلقة الاولى








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مالمقصود بحى الدارين؟
د سامى العسال ( 2012 / 8 / 22 - 13:34 )
أخبرنى احد الموتى أننى سوف أكون حى الدارين ولاأخبر أحد بهذه الرؤية لأن لها مردودات سلبية لهم فى عالم البرزخ فطلبت التفسير فقيل لى تموت شهيدا لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وقالوا غير ذلك فما حقيقة الرؤية ومالمقصود بعين المشاهدة لمن أنتقل وهل هى جزء من الغيب أن يخبر بما رأى أحد الأحياء؟

اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد