الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صرير الباب

نضال فاضل كاني

2011 / 4 / 8
الادب والفن


أزعجني الصوت .. كانت عيناي مثقلتان بالنعاس ، اشعر ان جفناي سيحرقاني وكأن رمادا ذر فيهما اذا ما حاولت أنظر الى السبب وراء ذاك الصوت.
لم أنظر أصلا .. لست بحاجة لذلك .. ما الذي سأراه ؟ لقد أوصدت الباب بيدي فمن أين يأتي صوت الارتجاج هذا ؟ لعلي أتوهم أني سمعت ذلك الصوت المزعج . او لعلي أحاول إيهام نفسي بأني لم اسمع .. ليس وهما عاد من جديد .. هناك شيء يدفع الباب ويجعله يرتج فيصدر صوت احتكاك يكاد يمزق لحظات سكوني واستسلامي لسلطان النوم كما تمزق أصابع الطفل الصغير صفحات المجلة الملونة حين تقع بين يديه ..
انه الهواء ، لاشك ان تيارا من الهواء يسبب ذلك الارتجاج ويجعل ذلك يصطك كما تصطك الأسنان في عند هبوب رياح تشرين القارصة.
فلأنهي هذا النزاع بيني وبين نفسي ، يبدو انه لا بد مما ليس منه بد ، قررت أخيرا ان افتح عيني.
أوه ، ليتني لم افعل، لم أرى أكثر مما توقعت ، تسللت الحرقة من عيني الى صدغي لترتسم خطوطا على جبهتي من التوتر ، كنت أعرف أن الشباك مغلق وأن تيار الهواء ليس قادما من جهته .. كنت احرص ان يبقى الشباك مغلقا وكذلك الستائر لأني أحب النوم في العتمة والسكون ، نوما لا يحضى به حتى الجنين في أحشاء أمه .
عاد صرير الباب من جديد ، كان رأسي ثابتا في اتجاه الحائط يتوسط المسافة بين الشباك والباب ، نقلت بؤبؤ عيني لأنظر إلى الباب ، لا شيء غريب ، لا شيء يمكن أن يعلل لي سبب خشخشة الباب.
مثل رجل كهل أحدودب ظهره من تراكم هموم الزمان نقلت خطواتي بتكسر نحو الباب ، لم تكن بضعة خطوات فحسب ، بل كانت نفقا طويلا لا ضوء في آخره ، كنت قد أغمضت عيني في الخطوة الثانية بلا حول مني ولا قوة ، ثم فتحتهما بعد أن صدمني شيء في المكان المعتم ، كان ذلك الباب ، لقد وصلت اليه أخيرا..
هيا ، لم يعد هناك ما يدعو للتردد او التأخر بل الإسراع الآن أفضل بكثير اذ يوفر لي ثوان إضافية حيث أتكور بين أحضان سريري كما يتكور القط الصغير في زاوية رطبة من زوايا المنزل.
ليتني لم أفعل ذلك .. لقد فعلتها .. لكني الآن أقول ليتني لم أفعل ذلك .. اتسعت حدقتا عيني كما لم تفعل من قبل طوال حياتي ومعهما فغرت فمي دون شعور مني مما رأيت حين فتحت الباب وكلأني كنت أفتح بابا عملاقا ثقيلا تراكم الصدأ على مزاليقه..
نعم ، ليتني لم أفعل ذلك .. انا أكيد بأني لست أحلم ، وإلا فقد انتقل الى ذهني فايروس الجنون فمسه بخطب كبير حتى بت أهلوس فيما أرى كما يهلوس مدمنوا الكوكايين او الهيرويين..
لاشك أن ما أراه في داخل عقلي فقد ، نعم لا شك في ذلك ، فلا يمكن أن يكون هذا الذي أرى أمامي بالفعل ، ولو حصل فلا عقل ولا جنون في الدنيا ، كل شيء مجرد تخاريف..
كما تتلاشى قطرات الماء حين تمس القدر على النار تلاشى بسرعة خاطفة جميع النعاس الذي كان يكبلني بسلاسله القوية وتلاشى معه ذلك الثقل الذي كان يجرجر اجزاء بدني بعضها الى البعض الآخر حتى كأنه يريد ان يلغي الأواصر بين جزيئاته ..
نعم تلاشى كل ذلك إثر رعشة عظيمة هزت كل ذرة في كياني بعد نظرت الذهول في اجزاء من اللحظة الأولى بعد انفتاح الباب..
اما تكون هذه لحظة الحقيقة العظمى أو تكون لحظة الخديعة الكبرى ولا شيء ثالث بينهما.
كانت عيني نصف مغلقة حين بدأ الباب بالانزياح ، أسدلت جفني كي لا يواجه الضوء خارج الغرفة شبه المعتمة وكي لا تضاف لحرقة ذلك الجفن حرقة أخرى ..
لأجزاء من الثانية أحسست بضوء النهار عم جسمي كله ، كمن في تلك الأجزاء من الثانية مغمض العينين ، وكان شعورا تملكني بأن بالنور والدفئ ، ومعه رائحة غريبة غير متوقعة ، رائحة غير منتظرة ، تسللت عبر أنفي اتشوه المنظر الرتيب الذي كنت أتخيل أن أراه عندما افتح عيني .. كانت رائحة غير معهودة في ذلك المكان تماما..
وليس هذا فحسب ، بل تسلل من خلال اذني أصوات أكثر غرابة من تلك الرائحة، اصواتا مألوفة لكن ليس هذا مكانها ، لا يمكن ان اسمعها هنا ، انها الاستحالة بعينها .
كانت رائحة رطوبة المياه حين تغسل أوراق الشجر في فصل الربيع، تلك الرائحة المميزة التي تشعرنا بالانتعاش ، وكانت اصوات البلابل والعصافير، بل ومعها اصوات السعادين..
في تلك الاجزاء من الثانية ، بين مصدق ، بين مكذب ، بين من يخلط بين خيوط الاحلام حين تغلب ذهن النعسان ، وبين من يريد أن يستفيق لينتهي مما ازعج سويعات سكونه، فتحت عيني ، فكان ما كان .. وكان الذي كان ..
لقد رأيت خلف باب غرفتي في وسط منزلي غابة عظيمة من غابات الف ليلة وليلة ، غابة تشبه الى حد الجنون غابات أفلام الكارتون ، وأنا أقف على العتبة ..
قل لي الآن : أوليس هذا ضربا من الجنون ؟!
فركت عيني بسرعة ، أغمضتهما وفتحتهما واعدة الكرة عدة مرات ، ليس في الامر خدعة ، لست أحلم ، التفت الى الوراء ، رأيت غرفتي الساكنة كما هي على حالها الذي عهدته عليها ، ثم عدت والتفت الى الامام .. كانت لا تزال الغابة في مكانها ، لم تغادر، أرى الأشجار والاطيار ، ارى الحشائش والأزهار والفراشات ، أرى كل ما يراه الأطفال في أفلامهم الكارتونية المفضلة ، واشم الهواء القادم من تلك الغابة واسمع حفيف أشجارها وأصوات حيواناتها.
بين مصدق ومكذب، بل بين مكذب ومكذب ، مددت يدي ببطئ شديد من حافة الباب لارى إن كانت ستخترق ذلك العالم أم لا ، بطريقة ما كنت اختبر حقيقة ما أرى ، هل هو واقع ام مجرد خيال مجسم!
للمرة الثانية أقولها : فعلتها وليتني لم أفعلها.
كانت يدي قد تحولت الى شكل كارتوني، وكان جسمي بلحمه وشحمه يقف منتصبا عند العتبة . سحبت يدي بسرعة خاطفة، عادت كما كانت، ادركت شيئا ، بالتأكيد هو ضرب من المحال لكنه الان واقع بالنسبة لي ، ادركت انني أقف على حافة عالم من فلم كارتوني ، ان عبرت حافة الباب أكون قد دخلت فيه .
كيف يحصل هذا ، لقد رأيت أمةرا مماثلة في التلفزيون والسينما ، أشهرها فيلم ( اليس في بلاد العجائب ) ولكن اين الواقع من الافلام..!
هل أفعلها وأعبر عتبة الباب لألج الى عالم مجهول في مغامرة لا اعلم ماذا ستكون نهايتها أم أتراجع وأغلق ذلك الباب وأحفظ نفسي من مجازفة مجهولة العواقب؟
فكرت للحظة ، عادة تنتهي هذه الافلام بنهايات سعيدة ، ثم عدت وخاطبت نفسي بصوت مرتفع : ولكني في الواقع ولست امثل فلما ، انا حقيقي ولست شخصية كارتونية.
كانت تلك الفكرة قوية لدرجة انها حركت جسمي بطريقة لا ارادية تراجعت جزءا من الخطوة واغلقت الباب ، ووقفت أنظر اليه وانتظر ، لا اعلم ما الذي كنت انتظره ، هل ان انتظر ان يعود ذلك الصوت الذي كان يصدر منه؟
لم يعد ، تنفست نفسا عميقا .. استدرت وعدت الى السرير وانا لهزء من نفسي ومما رأيت ، لا شك أن ذلك بسبب السهر والتعب وتراكم المشاغل ، كنت أفكر بهذه الطريقة وانا اهم بالجلوس على طرف السرير ولحظة لامس اسفل جسمي حافة الفراش عاد ذلك الصوت من جديد .. قفزت من مكاني واقفا ومعه شعرت ان الدم توقف عن الجريان في عروقي .. مستحيل
تحركت بكل اندفاع وقوة نحو الباب، أمسكت المقبض وفتحته بقوة لاكتشف الحقيقة ..
ويالدهشة ما رأيت .. لم أرى ما توقعت .. لقد كانت تلك الغابة ترتسم أمامي مجددا لا تريد ان تزول او تحول.
هل أقف على حافة الزمان والمكان ؟ أم أقف على حافة الحقيقة والخيال ؟ أم أقف على حافة العقل والجنون ؟ أم أقف .. أقف على واقع كان موجودا ولم أكن أعلم به وقد آن الأوان لذلك؟
هل أدخل أم أتراجع؟
لقد قررت .. ولن أتراجع عن قراري .. لن العب هذه اللعبة .. لن أدخل في أمر لست أراه حقيقة.
للمرة الثانية عدت الى سريري وعاد الباب يصدر ذلك الصوت مجددا .
تجاهلت قدر ما استطيع ، ذرعت غرفتي مشيا طولا وعرضا عشرات المرات ، جلست على السرير ونهضت مرات ومرات ، استلقيت ، حاولت النوم مجددا ، اغلقت اذني بالوسادة ، وضعت اذني على الباب ، نظرت من ثقب المفتاح ، لم اترك شيئا ممكنا لم أفعله ، كل ذلك لكي ازيح صوت صرير الباب المتكرر من اذني ، وكي اتجاوز أمرا لا زلت اصر على إنه وهما كبيرا وليس حقيقة ..
لم يفلح كل ذلك ، وشيئا فشيئا مخاوفي صحة ما رأيت أخذت تتزايد ، كظربة البرق الخاطفة ومضت في ذهني فكرة ، فاذا كنت قد سجنت نفسي بيدي لاهرب من عالم مجهول هاجمني في عقر داري ، فإن بأمكاني ان اخترق ذلك واطلب المساعدة ، قفزت بسرعة من سريري ، ثم جمدت عن الحركة ، كنت كصورة التلفاز حين تتوقف عن الحركة اذا أوقف البث عليها ، توقفت تماما عن الحركة ، يا ويلي ، هكذا سمعت أنين نفسي مع نفسي ، يا ويلي ، حتى هذا لم يسبق أن حدث قبلا ، أتراه أمرا قد قدره القدر أم ماذا؟
توقفت عن الحركة تماما حين تسّمرت عيناي على موضوع الموبايل الذي كنت اضعه الطاولة الصغيرة قرب رأسي دائما ، كان الموبايل غير موجود ، لا أعلم هل اختفى ام اني نسيته خارجا ، اختلطت على عقلي الامور حينها لم يعد يفكر في شيء الا بعبارة : اين الموبايل ؟ اريد الموبايل.
عادت الحركة لجسمي بسرعة خاطفة ، قفزت واخذت ابحث على الطاولة وفي داخلها وتحتها لعله وقع ارضا ، ثم ركضت الى حاملة الملابس ابحث عنه والامل يتضاءل شيئا فشيئا وسرعة البحث تتباطئ ، والصوت لا زال يخشخش ، وانا هويت على الارض جالسا في يأس مرير.
زحفت قليلا على الارض لكي اتكئ على حافة الجدار ، اسندت ظهري عليه وسحبت ركبتي الى قرب صدري، اسندت يدي عليهما ووضعت رأسي عليهما وقد ادرته الى الجهة المعاكسة للباب وأنا شبه منهار ..
كنت اجلس بجوار ستار الشباك تماما ، لا اعلم كيف انتبهت ، الشباك نعم قد يكون هو المنفذ الوحيد والاخير لي لكي اتصل بالعالم الخارجي ، العالم الحقيقي وليس الكارتوني ، نمت الفكرة بسرعة في ذهني كما ينمو البرعم في التصوير السريع ، نهضت من جديد ووقفت أمام الستائر .
انها الفرصة الأخيرة ، لا اريد ان اصاب بخيبة امل أخرى ، كان شباك غرفتي يطل على باحة المنزل الخلفية ، بامكاني اني اصرخ باعلى صوتي عدة مراتب ولسوف يسمعني احد لا محالة .. وضعت يدي على الستارة ثم تمهلت .. كانت خاطرة سوداء قد بددت ضوء الفجر الذي بدأ ينبلج في نفسي ، ماذا لو فتحت الستائر ورأيت الغابة من هنا ايضا وليس باحة منزلي الخلفية ؟
وقبل ان استرسل في هذا التفكير المأساوي ، قررت أنه لا خيار آخر عندي ، سارفع الستارة وليكن ما يكون .
ببطئ شديد وضعت يدي على حافتي الستارتين وفتحتهما ، لم يأتي ضوء كذلك الضوء الذي واجهني حين فتحت الباب ، كانت تلك اول بوادر جعلتني استنشق نفسا عميقا .
تملكتني شجاعة مفاجئة ففتحت الستائر بقوة ، دفعت كل منهما في جهة ..
ومرة أخرى صدمة غير متوقعة ..
لم تكن الغابة هناك خلف الشباك .. وكذلك لم يكن هناك أي شيء آخر ..
لقد نسيت أني كنت قد طلبت من زوجتي ان تغلف الشباك من الخارج بقماش سميك كي يقل دخول الضوء لغرفتي ، وقتها اعترضت كثيرا ، كانت لا تريد ذلك ، كانت تريد ان تهوئة الغرفة بين فترة واخرى ، ولكني كعادتي اصررت على ذلك فكان ما كان ، وهانذا لا ارى احدا ولا يراني ، ولا اسمع احد ولا يسمعني .
وقفت انظر للكتائب التي تمنع يدي من اختراقها كي أحاول ازالة ذلك الساتر .. وصوت طقطقة الباب مستمر ينادي وينادي وينادي .. لا سبيل امامك الا من خلالي ..
أخيرا ، وبعد زمن من رهاب الاحتجاز استسلمت وقررت أن أخرج من الباب الى ذلك العالم وليكن ما يكون .
سرت بخطوات المتثاقلة نحو قدري .. وللمرة الثالثة سأفتحه .. رن الموبايل .. كيف؟ .. لقد بحثت عنه ، اين كان ؟
نظرت بسرعة الى جهة الصوت ويدي على الباب ، كان الصوت يخرج من تحت الوسادة ، يا الهي ، المكان الوحيد الذي لم أبحث عنه .
اخذت نفسا عميقا وتحركت بثبات هذه المرة ، لم استعجل ، فقد تبين لي أني كلما استعجلت واجهتني صدمه ..
تمددت على السرير ، وببطئ شديد مددت يدي وسحبت الموبايل ، اغلقت عيني وضغطت على الزر الاخضر ، كنت أخشى ان ينفذ شحن البطارية مثلا ، او ان يتعطل الجهاز ، او حتى تقطع شركة الموبايل عن التغطية ، كل شيء كان ممكنا ، لهذا اغمضت عيني ، وبتثاقل شديد وضعته على إذني ..
من الطرف الآخر سمعت صوتا قادما ..
- هذه الاعمال والا فلا ، انجزه بسرعة واحضره إلي انا في انتظارك ، الو ، هل تسمعني ؟ هل لا زلت على الخط ؟
- نعم ، معك ، ماذا تقصد .
- حسنا كنت اريد ان اجعلها مفاجئة لك ولكن لا بأس ، حصلت على عقد مع اكبر مخرجي الافلام لتصوير قصتك ، لقد اعجب المخرج والمنتج كثيرا بطريقة تصويرك للاحداث ، الجميع يجلس الان معي في المكتب وهم متشوقون ليعرفوا ما الذي سيحصل لاحقا ، اخبرني ، هل سيخرج من الباب أم لا ؟
النهاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو