الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقدس - قصة قصيرة

نضال فاضل كاني

2011 / 4 / 9
الادب والفن


كعادتها باريس ، كانت ذات جو غائم ، والضباب الشفاف يكسو شوارعها وأزقتها ، أثر الرطبة على أغصان الأشجار التي هاجرتها الأوراق كما تهاجر الطيور في مواسم البرد بلاد تحتضن سماءها قرص الشمس الذهبي .
بعد أن قطعت منتصف الطريق في شارع الشانزليزيه جلست على ذلك المقعد الذي اعتدت ان التقي فيه مع صديقتي ( كاترين مونرو ) .
كانت عيوني تتنقل بين الشخوص المتحركة كقطعة الفلين التي تتناقلها أمواج البحر حين تكون تلك الأمواج وادعة رقيقة ..
لكن عيوني من غير إرادة مني سكنت تماما حين رأت تلك الفتاة وهي تنخفض لترفع قطعة من الورق كانت الرياح قد القت بها فجأة أمامها ، سلة المهملات قريبة ، ستليقها فيها ، تلك الفتاة مسلمة ، ذلك أكيد من الملابس التي ترتديها ، الحجاب هو العلامة الفارقة الذي يميز معظم المسلمات ، على الرغم ارتدائها للبنطال الجينز والجاكيت الجلدي ، كما ان الصليب في الأذان أو على الصدور يميز المسيحيات .
في بلادنا لا تجد كثيرين يفعلون ذلك ، كنت احدث نفسي : في بلادنا لا يكلف المرء نفسه عناء الانحناء لرفع ورقة القت بها الريح في طريقه ليحملها ويرميها في صندوق القمامة ، هذا ان توفر ذلك الصندوق أصلا ، جميلة هي العادات الحميدة حين يتعلمها الإنسان من المجتمع الجديد ، والاجمل من ذلك أن تجد الإنسان الذي لا يتكبر عن ان يتعلمها اينما وجدها.
لكن ، أوه ، لقد أخطأت الظن مرة أخرى ، لماذا يحصل معي هذا ؟
الفتاة لم تنحني لتلتقط الورقة كي ترميها في سلة المهملات ، لقد فعلت شيئا آخر ، كنت أظن انها تعلمت من المجتمع الفرنسي شيئا ، ولكن ما فعلته لا علاقة له بهذا المجتمع من لا قريب ولا بعيد ..
لقد رفعت الورقة ، نظرت فيها نظرة خاطفة ، ثم قبلتها ووضعتها على جبهتها ، وبعد ذلك فتحت حقيبتها ووضعتها فيها بعد أن طوتها بعناية .
فعلت كل ذلك بحرية تامة ، بثقة تامة ، لم تلتفت يمينا ولا شمالا لترى إن كان أحد ينظر لها ، ولم تفكر فيما سيقوله عنها الناس حين يروها تفعل ذلك ، فعلت ذلك بتلك السهولة لانها تعلمت من ذاك المجتمع ( أن حريتك تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين ) أي ( لا ضرر ولا ضرار ) كما في الحديث الشريف ، بمعنى أنك اذا لم تضر نفسك او غيرك فلا ينتقدك احد لا بقول او نظر أو حتى وسوسة في النفس .. هكذا الناس هناك ، وانت تشعر بتلك الحرية واضحة جلية ما تعيش هناك لبضعة أيام فقط ، فكيف إن امتدت لسنين طوال في دراسة او عمل ؟
فورا انتقل ذهني ليسأل بفضوله المعتاد : ما الذي كتب في الورقة ؟
كانت تلك الفتاة منفتحة على الثقافة الغربية تماما ، حيث كنت أجلس كان يوجد على بعد اربعة أمتار او خمسة صالونا كبيرا لتجميل النساء والرجال ، وكانت صديقتي تحب ان نلتقي هنا لكي ترتب مكياجها وزيتها دائما قبل ان نمضي في مشوارنا .
دخلت تلك الفتاة الى ذلك الصالون ، وعلى مسافة ليست بعيدة جلست بين يدي شاب فرنسي اخذ يعرض عليها علبا من مسكارة الرموش ، حيث ابدت رغبتها بها ، وبدأ العمل فورا ..
لم يظهر لي انها متحفظة من أن يضع رجل اجنبي يديه على رأسها ووجهها ..
اذا كانت ليست ملتزمة دينيا على الرغم من ارتداءها للحجاب ، فلماذا اذا فعلت تلك الحركة التي تعبر عن التقديس لما رأته مكتوبا في الورقة .
لماذا نفعل ذلك ؟
شبح نظري من جديد في زحام الناس وراحت تلك الحيرة تموج في رأسه فتحول ذلك السكون الى فضاء مملوء بالغبار ..
لا اعلم كيف وصلت الي دون أن أراها ، وضعت كفيها على كتفي من خلف المقعد الخشبي وقالت : هل كنت تفكر فيّ ؟
كأنما ايقضتني لمستها وكلماتها من سبات عميق لم يكن له قرار في نفسي ، انتبهت وأدرت رأسي باتجاهها وأنا أقول : بونجور كاترين .
بنجور دالي ، فيم كنت تغرق هذه المرة . قالت كاترين ذلك لانها تعلم أن كثيرا من المشاهد أو الأقوال تأخذني للتأمل فيها وما يكمن وراءها .
كانت كاترين قد استدارت وجلست بجانبي ، لم أقل شيئا ، فقط أشرت لها باتجاه الفتاة ، كان الشارع وقتها قد قل عدد المارة فيه ، وكان عامل التجميل قد انتقل الى عينها الأخرى .
نظرت كاترين باتجاه الفتاة ، وقالت دون أن تنظر إلي : تبدو لطيفة ما بها ؟
- أريدك ان تسأليها شيئا .
ضحكت كاترين وقا+لت : وكأنك تطلب شيئا لا أعرفه .
كانت كاترين قد تعودت على طلبات مثل هذه ، هي فتاة جريئة ومرحة ، واجمل ما فيها انها الوحيدة من بين من تعرفت عليهم هنا استطاعت ان تفهمني أو بالأحرى ان تتفهمني ، لم تتجاوز علاقتنا الصداقة بكل ما تحمل هذه الكلمة من سحر الشرق الملتزم وانفتاح الغرب المتزن .
من مكاني هذا جلست أنظر الى الفتاتين وقد اندمجا في حوار بدا أنه مشوق لان الابتسامات لم تغادر محياهما ، كانت كاترين قد جلست في الكرسي الفارغ المجاور لكرسي تلك الفتاة ، وقد بدأت احدى الفتيات بترتيب مكياجها بعد ان طلبت منها ذلك . لم أعلم كيف دخلت كاترين في الموضوع ، لكني لاحظت انها ببساطتها وعفويتها لم تجد صعوبة تذكر في ذلك ، اذ وانا أنظر لهما من هنا أراهما تتحدثان وكأنهما صديقتين حميمتين .
خفق قلبي فجأة وازدادت نبضاته في تلك اللحظة التي امتدت أصبع كاترين ليشير باتجاهي ، عقبته عيني الفتاة التي ركزت نظراتها علي قليلا ، ثم ابتسمت ورفعت يدها في اشارة يسير للسلام ، تلقائيا وجدت يدي ترتفع لترد عليها السلام ، لماذا تسارعت نبضات قلبي ؟ لا أعلم ، لعل ذلك بسبب هرمون الأدرينالين الذي اندفع في دمي بشكل مفاجيء حين وصل الأمر الى حد الإثارة المركبة ، تلك الإثارة الناتجة عن اقتحام موضوع مجهول مع فتاة مجهولة ..
وقفت على قدمي وتسمرت في مكاني رغم رغبتي في التقدم خطوات باتجاه الفتاتان اللتان خرجتا سويا من ذلك الصالون .. وما هي الا ثواني معدودة حتى كنا نسير في اتجاهين متعاكسين ، تتأبط ذراعي كاترين ونحن نسير باتجاه قوس النصر ، بينما سارت الفتاة في الاتجاه المعاكس ، حدث ذلك بعد ان دارت بيننا كلمات التحية ، كانت تلك من أغرب الكلمات ، كونها جمعت بين سلام اللقاء والوداع . حيتني الفتاة وسلمت على كاترين مودعة وانصرفت لشأنها ، لم تترك لي كاترين متسع من الوقت للاستفسار تأبطت ذراعي سارت بي لشأننا ، فكان ما حصل لقاء كاللالقاء .
- أعلم ان الفضول يكاد يقتلك لمعرفة ما حصل . قالت كاترين
- فماذا تنتظرين إذا ؟ قلت بلهجة مزجت بين العجب والعتب
قالت كاترين وقد أطلقت تلك الضحكة الرقيقة من عقالها : ليتني استطيع اعذبك أكثر ..
- كاترين . قلت بصوت بنم عن نفاد الصبر
- حسنا يا صديقي ، دعني انقل لك ما قالته الفتاة .
كنا قد وصلنا الى احد المقاهي الباريسية المفتوحة على الرصيف ، وقد جلسنا نحتسي القهوة ، فيما راحت كاترين تقول : قالت بأنها رأت على عجل مكتوب في تلك الورقة كلمات دينية .
- كلمات دينية ؟
- نعم ، مثل اسم الله أو ما شابه . وقد قبلتها وحملتها معها لتضعها في مكان طاهر او لتحرقها لاحقا حفاظا على قدسيتها من أن تطأها الأقدام او تقع بين القاذورات او النجاسات .
قاطعتها بتعجل : ولكن السؤال الأهم هو ..
قاطعني بدورها قائلة : أعلم ما هو ، أعلم ، وقد سألتها : لماذا فعلت ذلك اصلا ؟ هل أنت متدينة او ما شابه ؟
قالت : أنا لست متدينة ، انا مجرد فتاة عادية ، نشأة في بيئة تقدس كل ما يمت لله والأديان بصلة .
وقالت : بأنها لم تكن تفكر حين انحنت ، أي انها فعلت ذلك تلقائيا لانها نشأت في بيئة اجتماعية تفعل ذلك بلا توجيه او تعلم مسبق .
ثم صمتت كاثرين قليلا ، وانا اصابني شيء من الانزعاج ، احسست بشيء من الضيق ، لم احصل على شيء مما كنت أنتظر ، أنا لم أكن انتظر ردا محددا ، بل كنت اتمنى ان اسمع شيئا جديدا يؤثر فيّ بطريقة ما .
قالت كاثرين : هذه القهوة لذيذة .
هززت رأسي مؤيدا ، دون ان انطق بكلمة .
قالت كاثرين : ( الكلمات المقدسة تجذب الأرواح التي تنتمي إليها ) وصمتت .
سرت قشعريرة في بدني عند سماع تلك الكلمات ، فقلت بانتباه شديد : عذرا ؟
- هكذا قالت لي الفتاة . قالت كاترين .
- ولماذا لم تقولي ذلك من البداية ؟ وهل قالت شيئا آخر ؟
كنت أسئل وكأن روحي بالفعل قد تنتمي لهذا المستوى من الكلام والمعرفة
قالت كاثرين : نعم ، هي قالت ذلك مثل الحب لا نعلم إن كان نابع من عند انفسنا او من قوة إلهية خارجية تزرعه في ارواحنا ، ولكن في كل الأحوال يسلبنا ارادتنا ويجعلنا رغم كبريائنا عبيدا لسلطانه ، وهكذا يفعل بنا إيماننا بالمقدسات .
اسندت ظهري على كرسيي ورفعت يدي ووضعتها خلف رأسي وقد شعرت بارتياح كبير ، هذا من الكلام الذي احب ان اسمعه ، انني اسميه ( الكلام العميق ) ، ثم انتبهت فانزلت يدي وعدت اسئل كاثرين قائلا بتعجب : ولكن هذا ليس كلام فتاة عادية ؟
قالت كاثرين وهي ترفع الفنجان لترتشف الرشفة الأخيرة من القهوة : نعم ، قالت بأنها قرأت أمس في احد المخطوطات التي يتحدث فيها بعض الصوفية في بلادها شيئا عن هذا الموضوع .
وقالت : بأنها لم تُعر الموضوع أهمية في حينها ، ومع ذلك استمرت وكأن دافعا خفيا يحثها على هذا ، وذكرت ان هناك تفاصيل كثيرة حول الموضوع .
كاد قلبي يقفز من صدري فقلت متعجلا : وهل ..
كاثرين مرة أخرى وكأنها تعلم ما اريد بالتحديد : نعم اخذت عنوانها وموعدا معها لكي تطلع على تلك النسخة من المخطوطة في دار المخطوطات التي تذهب هي لها لبعض ابحاثها.
لم أتمالك نفسي ، وجدتني احتضن كاثرين واطبع قبلة بريئة فوق رأسها .
كاثرين وهي تضحك : ليتك تبقى مسرورا هكذا دائما .
ثم اضافت قائلة : هل تعلم ما كان آخر ما قالته قبل أن نخرج ؟
قلت بلهفة : ما قالت ؟
كاثرين : قالت صدق ذاك الصوفي حين قال : لا يوجد مصادفة ، كل ما يحدث لك او معك لسبب ما .
وقالت بأنها سألت نفسها حينها : وما سبب قراءتي لهذا الموضوع الآن ؟ الآن عرفت .
فقلت : وأنا أيضا يا عزيزتي كاثرين .. الآن عرفت .
قالت كاترين متسائلة : وماذا عرفت أنت ؟
قلت : المقدس يريد ان يجذب روحي إليه ولسوف يكون .

النهاية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع