الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدار رملي

ميثم سلمان
كاتب

(Maitham Salman)

2011 / 4 / 13
الادب والفن


قصة قصيرة

أي هدية أقدمها لزوجي لا تنال رضاه، ولا حتى تجعله يمط شفتيه راسما معنى الجذل على ملامحه المعدنية، أو تضفي طلاوة على لسانه ليقذف كلمة لينة، لذيذة، لا تعكر صفو احتفالنا بالمناسبة الوحيدة التي يسمح بإقامتها.
يعتبر ذكرى زواجنا يوما مميزا، رغم مقته لكل ما يبعث على البهجة والفرح، حتى إقامة أعياد الميلاد محرم لبناتنا: سيناء، عروبة، حرية. رغم احترامه للأعياد الدينية إلا أنه يمارسها كفرض، بلا سرور حقيقي. هناك مناسبات سياسية معينة تفرحه أكثر كذكرى تحرير قناة السويس أو ثورة يوليو عام 1952.
كل من يرفع راية العداء لأمريكا يستحق حبه بل عشقه، فصرت أبالغ بكرهي لهذا البلد لنيل رضاه. لا يحب أي شيء غير مصري عدا الأفلام الهندية.
استسلمت لقدر أن أكون عنده مجرد طباخة ومربية إذعانا لحكمة أمي (ظل راجل ولا ظل حيطة). فما عساي فعله مع ثلاث بنات في بلاد الجليد الغريبة؟
أجاهد لتليين طبعه وتحريك عواطفه كي يتفوه بكلمة حب. أنتهزُ فرصة عيد زواجنا لتقديم هدية له، ربما ترطب رأسه الصلد وتدفعه لمنحي نزرا من مشاعر تؤكد حقيقة كوني امرأة. كل مرة تمضي سفني بما لا تشتهي رياح مزاجه. حينها يجبرني على إرجاع الهدية وشراء شيئا يؤكل بدل منها.
أهديته مرة عطرا فاخرا. قال لي بعد إخراجه من الصندوق المغلف: "وهل أنا نتن إلى هذا الحد حتى تأتينني بعطر غال الثمن كهذا!؟". أخذه بتردد. قلب الزجاجة باحثا عن المنشأ، فوجد أنه أميركي. فز ممتعضا، رماه بوجهي صارخا: "هل تريدني تعاطي المنتوجات الأمريكية؟".
قلت له بأننا نعيش في كندا ومعظم ما متوفر في السوق هو أمريكي الصنع. ذكرته بسيارته الأمريكية.
- إلا العطر!
إحدى السنين أهديته (iPod) لسماع الموسيقى الكلاسيكية، عساها ترخي أعصابه قليلا. خزنت في الجهاز العديد من السيمفونيات العالمية الجميلة.
قلب الجهاز بيديه الضخمتين تحت وابل من نظرات بناتنا المراقبة لتعابير وجهه الحجرية. كن يتوقعن سماع كلام شكر منه، لكنه ضحك متمتما بسخرية: "هل أنا مراهق يا امرأة!؟". كاد أن ينفجر بوجهي لو لا إننا كنا في مطعمٍ احتفالا بعيد زواجنا.
توسلت إليه أن يقتطع وقتا من مشاهدة القنوات الفضائية العربية لسماع بعض الموسيقى الهادئة كي تمنحه بعض الهدوء والسكينة. وافق على مضض. صار يجلس أمام التلفزيون وهو يقلب القنوات وجهاز ال(آي بود) مربوط إلى أذنيه لكن ذهنه مشدودا إلى الشاشة.
مذ جئنا إلى كندا ونحن نعتاش على المعونات الحكومية. هو لا يعمل، ويقضي معظم اليوم بمتابعة الإخبار. لا يستمر طويلا في أي مهنة، لأنه يجد أصحاب العمل وزملائه من الكنديين يكرهونه لكونه مهاجرا. فضلا عن استنكافه منهم لظنه القاطع بأنه يتفوق عليهم.
مغتاظ وعكر المزاج على الدوام. وحينما لا يجد ما يغضبه يغط في بحيرة أفكاره ملتقطا مشكلة قديمة. أحيانا يختار موضوعا سياسيا للحديث. عليَّ طبعا ترك كل شيء والإصغاء لمحاضراته ثم الإدلاء بدلوي. لا أنجو من صراخه وزجره لي حتى لو وافقته الرأي.
ترك سماع الموسيقى في اليوم التالي شاكيا تكرارها الذي يسبب الصداع. اقترحت عليه تحميل أي مقاطع موسيقية تعجبه من "الإنترنيت". فوجئ. سألني إن كان بالإمكان تحميل ما يريد على هذا الجهاز. بالتأكيد، قلت. فرح كمن وجد ضالته. وراح يحمل على جهاز ال(آي بود) حلقات قديمة من تلك البرامج المتوفرة على المواقع الالكترونية للقنوات.
غدا يومه عبارة عن سماع ومشاهدة تلك البرامج الحوارية السياسية المليئة بالصراخ والزعيق والشتائم. يحرك يديه كالمعتوه محدقا بالخواء عندما يستمع لحوار ساخن، بل أحيانا يتفوه بشتائم وسباب بذيء على أحد المشاركين في الحوار. زاد توتره وحدة طبعه.
اقترحت عليَّ صديقتي المغربية إهداءه قاربا في عيد زواجنا لهذا العام. تقول أنه سيساعده على أرخاء أعصابه، والتأمل عندما يراقب جريان الماء. وافقتها الرأي. اشتريت قاربا مطاطيا صغيرا بمجدافين بلاستكيين.
ذهبنا إلى بحيرة قريبة بعد إقناعه بالاحتفال بعيد زواجنا هذه المرة في البحيرة. وافق بعد توسلات وإلحاح. بدا خجلا أول وهلة عندما وضع قاربه في الماء. شجعته وقلت له: "راقب الآخرين لبعض الوقت وقلد طريقة تجديفهم. العملية جد سهلة، ادفع كلا المجدافين بنفس الحركة والقوة إلى الأمام، بعد قليل ستجد نفسك وسط هذه البحيرة الخلابة لتغرف من جمالها".
أبتسم بطريقة الهازئ وجلس مستسلما لتوسلاتي وسط القارب. ترنح قليلا بكرشه وكاد أن ينقلب. غرس أحد المجدافين في الرمل ليدفع القارب إلى مسافة بعيدة. أستقر على مبعدة مترين من الشاطئ.
لم يضبط حركة التجديف، يدفع اليد اليسرى ويسحب اليمنى، فظل القارب يدور حول نفسه. هذا متوقع لمبتدأ مثله. لم أشأ مساعدته، فقد يزجرني أمام الناس.
كنت ألعب بالرمل مع البنات. نبني قصرا كبيرا تتوسطه بحيرة صغيرة. حرية تجلب الماء بسطل صغير. سيناء تحفر. عروبة تصنع قوالب مربعة ومستطيلة من الرمل. وأنا أصف القوالب جنب بعض لصنع جدار طويل وعالي.
انتبهتُ إلى عبد المعطي بعد ساعة تقريبا ورأيتهُ باق في مكانه يدور بالقارب بحركة دائرية، يجاهد للسير به قدما. يتصبب عرقا ويرسم ابتسامة كاذبة على وجهه. حبست ضحكي.
أشد ما يزعجه هو ظنه، مجرد ظنه، أن الكنديين يسخرون منه. وهاهو الآن قد فتح مسرحا لهم للضحك عليه. عطفت عليه. منظره مخز للغاية، خصوصا وأن بعض الشبان الصغار مضوا بقواربهم بعيدا وكانوا قد بدءوا الإبحار بعده بوقت طويل.
جاءني وشرر العالم يتطاير من عينيه، رمى المجدافين فوق القصر وهشم جدران الرمل. صرخ بصوت صم أذني: "ألم تجدي غير هذا الزفت لتهديه لي؟ هل هناك من يلومني لو طلقتك الآن؟".
http://maithamsalman.blogspot.com/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا