الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق الجديد : خراب اللغة

عبد الرحمن دارا سليمان

2011 / 4 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


حين قال مارتن هايدجر : " اللغة بيت الوجود " لم يكن يتصور إطلاقا وجودا يقترب من العدم، ولا بيتا أحيل الى صريفة، كما هو الحال في الوضع العراقي هذا اليوم . وحين حدّد علماء الإجتماع عنصر اللغة بإعتبارها واحدة من الشروط الأساسية في نشأة الأمة وتميّزها عن غيرها من الشعوب والأمم، بما تنطوي عليه من إشارات ورموز ودلالات وحكم وأمثال شعبية، جنبا الى جنب التراكيب والألفاظ والقواعد الخاصة بها، فإنّهم كانوا ينطلقون في ذلك التحديد، من علاقة النطق بالمنطق، واللغة بالعقل، كأداة ووسيلة للتعبير عن الأفكار، بالمعنى الأولي للغة، على الأقل، وكإسلوب يتيح للبشر الخارجين من شريعة الغاب ومن نواميس الطبيعة القاسية وعلاقات القوّة البدائية، سبل التوصل الى التفاهم والتعامل على قاعدة العيش المشترك .

نادرا ما يتأمل العراقي "الجديد" هذا اليوم، في سرد الكلام ومفردات الخطاب المباشر أثناء الحديث المتبادل . الإنتباه واليقظة لديه موجّهان على مناطق وزويا أخرى، كهيئة القائل وشكله وموقعه الإجتماعي أو ما يوحي اليه كل ذلك . وغالبا لا علاقة للكلمات المتداولة بالإيقاع الداخلي الحقيقي للحياة المعاشة ولا بالسياق العام، سوى مفردات التعامل اليومي السريع . لا إتفاق مبرم على مستوى الكلمات والجميع في حالة حذر من التأويلات التي تدفعهم أحيانا الى حدّ الخرس أو الهيجان والإسترسال المستفيض في الكلام في جميع الإتجاهات وبلا وجهة محددة. وكذلك الإصغاء والمتابعة والتركيز على الفكرة الأساسية التي يراد إيصالها . البحث يجري دوما فيما وراء الكلام . أي في المقاصد . فهي بمثابة الحقيقة الواحدة والوحيدة التي يمكن أن يقتنع بها ويتخذ على ضوءها الموقف الذي يرتأيه من الحديث والمتحدّث. أما الصراحة أو المواربة أو الإثنين معا، فما هما بنظره، سوى تزيين لفظي خارجي وإطار عام لا يعبّر عن المكنونات الداخلية العميقة في الحالتين .

زحف الأرياف والمناطق النائية والأحزمة المحيطة بالمدن، على المدنية وعلى قيمها الحضرية التي لم تنجح في تأسيس الحداثة والتقدم وتحوّلها لمؤسسات وقوانين راسخة، أدّى بدوره لإجتياح اللغة التي ظلّت مشرعة الأبواب أمام أي إقتحام يغزوها من الخارج . في الدارجة العراقية هناك اليوم، الكثير من المفردات والتعابير والرموز التي لم تكن موجودة من قبل، وبالمقابل، ثمة إختفاء تام لتعابير حضرية مؤدبة مثل : "من فضلك" و"رجاءا" و "لو سمحت"، وحلّت محلّها أداة مناداة خشنة : "ياولد" . وللمشارفين على الستين من أمثالي : "حجي" .

ثمة أفئدة وفية تتحسّس الغرباء من أمثالي وتتألم لي ولها في آن . ليسوا بالضرورة من بقايا الأهل والأحبّة والأقرباء، بل يمكن أن يكونوا من جيوش المعدمين والمتضررين والعاطلين عن العمل الذين تصادفهم يوميا في الشوارع . كلّ التحسس يتركز في نبرة الصوت التي بات يفتقدها ويدركها العراقي كما لم يدركها من قبل . موجات الأكاذيب الصغيرة والكبيرة، لم تقض على إحساسه بالحقيقة التي مازالت تجد دربها الى النفوس رغم التشوهات التي إعترت بنية الوعي الإجتماعي وعملت ولا تزال تعمل على تكريسها وعلى الإرتزاق منها وعليها، معاول كثيرة في الداخل والخارج معا . وثمة ألسنة طويلة تعتمد قوّة الصوت العالي والهياج والهيجان بالحقّ وبالباطل، وغالبا ما تكون بالباطل، في سبيل الوصول الى مرامها . الفوضى والتعمية وقنابل الدخان إخترقت اللغة وأحالتها الى هشيم . حدود الأزمنة تكاد تختفي في العقل وفي قواعد اللغة . الماضي لا يزال موضع صراع والحاضر ممزّق ومفكّك بفعل التركة الثقيلة وطبيعة الورثة ونواياهم ومصالحهم الحقيقية، والمستقبل مجهول كتحصيل حاصل ومنطقي على كلّ ذاك.

هل يمكن أن تتصالح هذه الأزمنة الثلاث، من أجل الحصول على لحظة هناء واحدة ومفتقدة ينتظرها العراقي منذ عقود ؟ أية مرجعية بديلة سوى مرجعية العقل يمكن لها أن تعيد بناء اللغة والإنسان والعمران ؟ . لا شيء يلوح في الأفق القريب وينبا أنّ بلادا كان فيما مضى، مهدا للحضارات القديمة، سيصبح يوما، نهبا للجهلة والمزوّرين والفاسدين ، ومسرحا تدور على خشبته كلّ مهازل الدنيا وتعرض بلغة كاذبة وركيكة ومملّة على جمهور غائب ومغيّب لم يلتقط أنفاسه بعد ولم يدرك تماما ما حصل له من نوائب وكوارث وحروب وسرقات وإنتحالات . ولا شيء يمكن المراهنة عليه داخليا، سوى جهود الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين الحقييين هنا وهناك، وهي بمجملها تمثّل هذا اليوم، الخطاب العقلاني الوحيد الذي يصعب تفهمّ مفرداته وبالتالي تبنيه من قبل الجمهور الواسع والعريض، ضمن الأوضاع السائدة والإستثنائية التي تمرّ بها البلاد . كلّ آمال المراقبين معقودة على موجة التفجّرات في المنطقة العربية والجوار العراقي، ومدى تأثيراتها على الوضع الداخلي .

المؤتمنون على الفقه والبلاغة وقواعد اللغة العربية، أرادوها أن تبقى كما هي منذ أربعة عشر قرنا، مقدسّة ولا تمسّ، من دون لغات العالم التي تخضع دوريا للتجديد والفحص والتبديل من أجل إستيعاب مفردات العصر وما تفرضه مستجدات الحياة عليهم، من كلمات وتعابير وألفاظ ، بالرغم من أنهم مجبرين على مسايرة العصر في الخطاب السياسي والإعلامي الحديث ولكن بدون الإعتراف وبدون الترجمة العملية للتحوّلات الطارئة على صعيد اللغة الى مناهج ومدارس حديثة ومؤسسات تحافظ عليها وتحميها من البربرية .

" إنطباعات عائد للعراق بعد ثلاثين عاما " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة