الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفل تشريح جثة مثقف عربي قتل متلبسًا بالحياة

خيري حمدان

2011 / 4 / 25
الادب والفن


حفل تشريح جثة مثقف عربي قتل متلبسًا بالحياة

خيري حمدان

دعاني مدير المستشفى العسكري للقيام بعملية تشريح لجثة مثقف عربي شهير نسي جميع الحضور اسمه في تلك اللحظة! على أية حال هذا ليس بالمهمّ، ما شغلني في هذه الحالة هو السبب الذي جعل المستشفى العسكري الإصرار على الاحتفاظ بجثة المثقف المذكور. أخبروني بأن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى حالة الطوارئ التي يعاني منها المجتمع العربي منذ عقود طويلة، وعدم وجود آفاق لتغيير ذلك في المستوى المنظور. كانوا يريدون تقريرًا مفصلاً عن هذه الحالة المقلقة التي أطلقوا عليها اسم "حفل تشريح المثقف العربي".

طلبت فنجانًا كبيرًا من القهوة، دلقت في فمي رشفة كبيرة لأحثّ مجسّات الدماغ على العمل، اقتربت من جثته بحذر شديد. كان وسيمًا، أسمر، وكانت الابتسامة التي أدمنها مرسومة فوق شفتيه. حول فمه وعينيه شاهدت تجاعيد كثيرة، ما يعني بأنه جذلاً، فرحًا يحبّ الصخب والحياة بكامل تفاصيلها وعفويتها. كان نحيفًا أيضًا حتى الدهشة، كأنه لم يشغل يومًا حيزًا ما فوق سطح الأرض.

بشرته شبه محروقة، هذا الكاتب المثقف يعشق الشمس، يكثر من البقاء في العراء وربّما تتطلب وظيفته أكثر من مجرد الكتابة وتأليف القصص وكتابة الأفكار والخواطر وغيرها من أنماط الأدب الذي حاصره طِوال مشوار حياته. حان الوقت لمعرفة الوضع العام لأجهزته العضوية الداخلية بدءًا بالدماغ.

دماغه كتلة من التناقضات، وقفت في البداية على العناوين التي كتبها في مشوار حياته المتواضع. عناوين في منتهى الجمال والتأثير، أعرفها بحكم العلاقة الجيدة التي كانت تربطني بهذا المبدع الفذّ الذي نسينا اسمه في هذه اللحظة العصيبة، لحظة الاطلاع والكشف على خبايا جسده ووعيه بل حتى مخيلته. هناك في أحد أركان دماغه رأيت مندهشًا زاوية كبيرة للغاية تحمل عنوان ممنوعات. يا لها من عناوين مذهلة! أخشى مجرّد تكرارها والبوح بها. تلفتّ يمنة ويسرة وفي لمحة خاطفة سرقت جزءًا من تلك العناوين، وضعتها في جيبي الداخلي، لعلّي أستخدمها يومًا أو أنشرها باسم هذه المسكين الذي قتل متلبسًا بممارسة الحياة. رأيت في زاوية أخرى من دماغه حفلات وسهرات ممتدة حتى ساعات الصباح الباكر، حفلات سمر اتسمت بالخلاف والنقاش الحاد لكن معظمها انتهى على خير، تصافح الأصدقاء على مبدأ "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية". لكني رأيت البعض يتربصون به حتى بعد موته، شاهدت في دماغه أزواجًا من العيون المتربصة، لم يدرك المسكين ذلك حتى لحظة وفاته، كان يعتقد طوال الوقت بأنها عيون الأصدقاء الذين يتمنون له السعادة والنجاح خاصة في مشاريع الكتابة التي كان ينوي كتابتها فنسخته.

أردت النظر إلى عينيه فشاهدت مساحات خضراء كبيرة وانعكاس صحراء جدباء قاحلة، عيناه بلون العسل، هذا المثقف مثقل باللوحات الفنية، خزنها، حفظ أسماء الفنانين والتقى بعضهم ثم اشترى ألوانًا ورسم ذاته بمهارة وعشق فاجأت الكثير من المحبين والمبغضين. أما أذناه فملأى بنوتات شرقية وغربية، رأيت لوحات فنية لفيروز ووديع الصافي، رأيت عبد الحليم حافظ وأم كلثوم ومجموعة نادرة من الموشحات الأندلسية التي ما تزال تعيش امتداد حياتها في وعيه.

كان عليّ أن أتوقف قليلاً وأشرب المزيد من القهوة قبل أن أعرّج على قلبه الشاب - المسنّ. كان في استقبالي أوجه حسناوات كثيرة. وجدت في بقايا قلبه ليلى، سميرة، عبير، فالنتينا، جورجيت، مريم، سعاد، أنجلينا جولي، ميرفت أمين والكثير من النساء اللواتي سلبن جلّ وقته وسعين إلى فتنته عن يومه، لكني رأيت هناك كسرة من القلب كانت ما تزال خضراء سليمة، كتب عليها اسم أمّه.

سال بعض الدموع من عينيّ، كيف لا وقد أخذني هذا المبدع بحساسيته المفرطة للحياة، أدركت هذا حين ارتكبت خطأ ليس مقصودًا، وقفت دهرًا كاملاً أمام رئتيه. كانت عبارة عن منفضة كبيرة، جمعت في حيزها آلاف السجائر والتبغ الملكي والسيجار الكوبي الفاخر وأنواع رديئة جدًا كان قد اشتراها في أثناء فترات الفقر والعوز التي تمثل الجزء الأكبر من حياته، كان هناك بالطبع بعض السجائر الموشومة بأحمر الشفاه.

أعرف بأنه بوهيمي حدّ العبث، لم يرحم جزءًا من أعضائه، كنت أرغب بزيارة كبده لكن حجم الزجاجات الفاخرة من الكحول التي طلّت فوهاتها من هناك جعلني أعرض عن هذه الفكرة، كان كبده مهدورًا كأنه قدمه قربانًا للموت المبكر! توضحت الصورة لديّ أكثر حين أدركت بأنه قد أعطب أعضاءه التناسلية أيضًا من كثرة الاستعمال. كان محكومًا بالحياة، كتب حتى الانفجار، أغضب الأجهزة الأمنية والخالق على حدّ سواء، لكنه سرعان ما كان يعود ليتوب عن بداياته الخاطئة ليخطئ ويمارس طقوس الحياة الهزلية المأساوية من جديد.

وضعت دفتر الملاحظات جانبًا، كان عليّ أن أنتهي من تقريري لأقدمه للمعنيين في المستشفى العسكري. خطرت ببالي فكرة خطفه والهرب به إلى الطبيعة لدفنه في رحمها حرًا كما كان في أثناء مشوار حياته. لكني عدلت عن هذه المحاولة، فقد كان قد مارس الهرب بما فيه الكفاية، حان الوقت كي يرتاح في تابوت علّه يتسع لطموحه وذكرياته.

وداعًا يا عزيزي، وداعًا أيها المثقف العربي الذي قتل متلبسًا بالحياة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81