الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القاعدة بلا بن لادن: من غزوة مانهاتن إلى غزوة الصناديق

فرانسوا باسيلي

2011 / 5 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


موت بن لادن لا يعني موت القاعدة ، هكذا أعلن أعداء وأصدقاء بن لادن، الرجل الاسطورة الذي اعتبره أعداؤء زعيم الارهاب في العالم وهللوا لمقتله، بينما ترحم عليه مؤيدوه واحتسبوه شهيداً في الجنة، ورغم اتفاقهم على أن موته لا يعني موت القاعدة، الا ان هذا لا يعني أنهم على صواب. نعم ستحدث على الأغلب عمليات انتقامية في المدى القريب، ولكن في المدى البعيد، في العشر السنوات القادمة وما بعدها، فإن الأرجح في اعتقادي هو نهاية القاعدة ونهاية السلفية الجهادية الحربية التي كان بن لادن رمزها ورأسها (من اللافت أنه حتى النصف الأول من القرن العشرين كانت الحربية المصرية تعرف لدى العامة بـ الجهادية وهو المصطلح الديني القديم. ومع تطور فكرة الدولة الحديثة في مصر سقط هذا الاستخدام، وهذا هو مصير الفكرة الجهادية في العالم العربي بعد بن لادن، كما سأوضح في هذا المقال) وهناك عدة أسباب لتوقع نهاية السلفية الجهادية في المدى الطويل.

أولا: ان حركات المقاومة الراديكالية المسلحة تنتهي عادة بموت قادتها الذين يتمتعون بكاريزما عالية، والأقرب لمكانة بن لادن الأسطورية، كرمز روحي لحركة مقاومة ضد الولايات المتحدة في العصر الحديث، هو تشي جيفارا، ذلك المقاوم اليساري الذي أصبح هو الاخر أسطورة عالمية في ستينيات القرن الماضي، ورمزا للكثير من الشباب المثالي الحالم بالمقاوم البطل الذي يقف بجسارة أمام القوة الضاربة الأقوى على الأرض، ورغم أن جيفارا كان يقاوم النفوذ العسكري الأمريكي في أمريكا اللاتينية، إلا ان العالم كله، بما في ذلك مصر، كان متعاطفاً معه، إلى حد أن الشباب في مصر راح ينشد جيفارا مات حين قامت القوات الأمريكية بمداهمة جيفارا وقتله بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقتها في مداهمة وقتل بن لادن. وبموت جيفارا راحت حركة المقاومة التي كان يتزعمها مع زميل دربه كاسترو تنحسر، حتى لم يبق منها سوى كاسترو وحده في كوبا، ولم يبق اليوم من جيفارا سوى صور له يحتفظ بها عدد متضائل كذكرى عاطفية تاريخية لرمز لحظي تجاوزته حركة التاريخ.

ثانياً: لم يترك بن لادن مذهباً أيديولوجياً أو أعمالاً فكرية أو كتباً تنظيرية له فيها السبق الفكري، ولا أضاف إلى المنهج السلفي الذي اعتنقه حتى يمكن أن يبقى منه أثر يظل حاضراً في ذهنية شباب المستقبل، ولذلك لا يمكن مقارنة بن لادن بالشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين، التي استمرت بسبب محتواها الفكري وعطائها الاجتماعي حتى اليوم، فالجماعة منحت أتباعها ليس فقط رؤية دينية اجتماعية سياسية متكاملة، ولكن أيضاً عوائد وخدمات اجتماعية واقتصادية ملموسة بشكل فشل فيه نظام مبارك طوال ثلاثين عاماً كان يحارب فيها الاخوان حرباً أمنية غير عادلة، من دون أن يقدم أي بديل فكري أو اجتماعي، فكان ان نجحت الجماعة في البقاء بينما سقط النظام في ثورة يناير الباهرة. ونفس الشيء يقال عن سيد قطب الذي قتله نظام عبد الناصر بدلاً من محاكمته محاكمة عادلة يحاكم فيها فكره التكفيري المحرض على العنف ضد المجتمع، الذي اختلف معه ولكن لا يستحق عليه الاعدام، مما حوله إلى شهيد عند أنصاره، ومازال فكره موجودا لأنه كان صاحب رؤية تركها في أعمال فكرية جادة، بالعكس من هذا لم يترك بن لادن فكراً ولا قدم رؤية متكاملة جديرة بالبقاء بعده، لذلك فمصيره التاريخي الأرجح هو مصير جيفارا.

ثالثاً: لم تكن لابن لادن رؤية سياسية استراتيجية يريد تحقيقها، ولم يقدم في خطاباته سوى التهديد والوعيد للولايات المتحدة والغرب، وأحيانا الترغيب الساذج، من دون تقديم مطالب سياسية واضحة، ففي أكبر أعماله حجماً وتأثيرا وهو ما سماه بـ غزوة مانهاتن لم يصدر عن القاعدة أي بيان سياسي قبل أو بعد الغزوة، وفي بداية تنظيمه للقاعدة في التسعينات كان غضبه الأساس الذي أعلنه في إحدى خطاباته المتلفزة يتمثل في وجود القوات الأمريكية بالمملكة السعودية، وقال انه لن يهدأ حتى يكف الكفار الامريكان النصارى عن تدنيس أرض محمد باقدامهم ، لكنه تجاهل أن القوات الأمريكية جاءت بناء على الطلب الملح من السعودية ودول الخليج لإخراج قوات صدام حسين من الكويت، ولم يشرح بن لادن كيف كان يقترح إخراج صدام من الكويت، ولا كيف كان ينوي حماية بلده السعودية من صدام، الذي كان يمكنه أن يكون في الرياض بدباباته خلال يومين، لولا خوفه من الكفار الامريكان، تجاهل بن لادن كل هذا ولم يملك أن يقدم سوى خطاب مدفوع بكراهية دينية جارفة خارجة عن العصر غير قادرة على استيعاب معطياته الحديثة المتغيرة. في جهاده ضد السوفييت في أفغانستان كان الهدف واضحاً، وهو إخراج المحتل من أرض دخلها مستعمراً، وبعد خروج السوفييت وسقوط الاتحاد السوفييتي لابد أن الثقة الزائدة بالنفس أخذت أبعاداً غير عادية في نفس بن لادن وصحبه، فراحوا يبحثون لهم عن هدف جديد للجهاد، فكان القطب العالمي الآخر الباقي هو الهدف المنطقي، ولكن ما لم يكن منطقياً هو غياب الرؤية السياسية تماما عن مثل هذا العمل المفروض أنه سياسي في الأساس، ولكن هذه هي مشكلة الحركات الجهادية الراديكالية بشكل عام، فهي تتحرك وتندفع تحت عاطفة دينية لا رؤية فكرية، ولذلك تختلط فيها الجوانب السياسية بشكل مشوش وتنعدم فيها الرؤية الاستراتيجية التي تتطلب أهدافاً واضحة وأساليب محددة لتحقيقها، وحتى حينما حاول بن لادن بعد ذلك أن يتذرع بالقضية الفلسطينية لم يقدم لها سوى الكلمات ولم يقم بعمل واحد ضد إسرائيل أو في صالح الفلسطينيين، وهو في هذا ينضم إلى سلسلة طويلة محزنة من الزعماء العرب الذين لم يقدموا للقضية سوى أعظم الكلمات وقعاً وجلجلة بلا أي أعمال تفيد الشعب الفلسطيني.

رابعاً: بعد زوال الفورة العاطفية التي قد تدفع البعض إلى التعاطف مع بن لادن ويعود الرشد والمنطق العقلاني، ستترسخ حقيقة أن بن لادن أضر في النهاية بالمسلمين أنفسهم أعظم
الضرر، إذ أن في غياب البعد السياسي الناضج المشروع لم يبق من أعمال القاعدة سوى العنف الذي بدا للعالم كله أنه عنف عبثي أعمى لا يقول شيئاً ولا يطلب مطلبا سياسيا واضحاً ولا يقدم نفسه في شكل يستدر التعاطف، لذلك كان سهلاً ومقنعاً أن ينجح الغرب في نعت القاعدة وزعيمها بالارهاب، وكان سهلاً أن يتغاضي الغرب عن اية أبعاد سياسية أو مظلمة حقوقية إنسانية كان يمكن لمقاومة من نوع آخر وبرؤية سياسية وليس دينية أن تطرحها، ولا يستقيم ادعاء القاعدة بعد ذلك أن هدفها هو إخراج الامريكان من العراق وأفغانستان، بينما غزوتها الارهابية لبرجين مدنيين كانت المبرر الأساس لغزو البلدين، وشاهد العالم بن لادن في فيديو بعد غزوته لمانهاتن يبدي سعادة أن النتيجة كانت سقوط البرجين وموت الآلاف، وأن هذا جاء أكثر من حلمهم، فقد كانوا يتصورون حرق وهدم بضعة طوابق فقط وابتسم رغم أنه لا يبتسم، ولم يبد أي أسف على موت الأبرياء، ولم يجر مراجعات لموقفه هذا المخالف لتعاليم الاسلام الذي ينهى عن قتل الابرياء، ولم يكن العاملون بمركزي التجارة محاربين وانما هم رجال ونساء وأطفال ابرياء.

هذا الشطط والغلو في ممارسة العنف ضد الأبرياء باسم الجهاد جعل أغلب المسلمين المعتدلين يجدون صعوبة في تأييد القاعدة، وازداد الأمر صعوبة بعد مشهد ذبح الأجانب على شاشات التلفزيون في العراق، التي نزعت عن مرتكبيها رايات المقاومة الوطنية المشروعة وأظهرت رجال القاعدة في مظهر المتوحشين المتعطشين للدماء، ولم يشفع لهم هنا أمام الرأي العام العالمي والعربي تحججهم بأنهم يقاومون قوة معتدية، فقد قاوم العرب المعتدين المستعمرين على مر تاريخ طويل بأعمال بطولية كثيرة، لم يلجأوا فيها إلى ذبح الابرياء على مرأى الأشهاد بهذه الوحشية (أكتب هذا وموقفي ضد قرار بوش بغزو العراق قبل الحرب وطول سنواتها معلن في مقالات عديدة لي بهذه الجريدة)، وبهذا تسبب بن لادن وقاعدته بأكبر ضرر لصورة الاسلام والمسلمين في العالم، لذلك لم يكن غريباً أن سارعت منظمات المسلمين الأمريكيين بالتصريح بتأييدها للعملية الأمريكية باعتبارها ضد زعيم منظمة ارهابية اعترفت بقتل مواطنين أبرياء.

ولم يتبق من المترحمين على بن لادن غير المدفوعين بكراهية شديدة للسياسة الأمريكية، خاصة المتضررين منها بشكل فادح وظالم كالفلسطينيين، إذ أعلنت حماس وغيرها أنها تعتبر بن لادن شهيداً لأنه عربي مسلم حارب أعداء الأمة، وكأن هذا يغفر له القتل العمد للأبرياء، وموقفهم موقف عاطفي خاطئ، إذ أن بن لادن أضرهم أكثر كثيراً مما نفعهم، ولكنها الرؤية الدينية السلفية التي ماتزال تقطن في عصر دار الحرب ودار السلام وعهد الغزوات والفتوحات فتفشل تماما في ملاحقة العصر وتحقيق النصر، وستنتهي إلى ذكرى مؤلمة لما سببته من خراب ودمار هائلين، فالبندقية التي ليس وراءها ثقافة تقتل ولا تحرر، وهذا كل ما فعلته القاعدة، فقد قتلت الآلاف في الشرق والغرب ولم تحرر بلداً أو أحداً.

خامساً: لم يقتصر الأمر على الضرر بصورة الاسلام والمسلمين حول العالم، ولكن أدت غزوة نيويورك الطائشة إلى تدمير وضياع بلد عربي كامل هو العراق، قد يستغرق الأمر نصف قرن أو يزيد لكي يعود كما كان، ويعتقد البعض أنه لن يعود أبدا، ولا يفيدنا شيء هنا إلقاء اللوم على بوش، الذي أخطأ بل أجرم ضد الانسانية بغزوه للعراق، لأن العمل الارهابي الطائش للقاعدة ضد بلاده منحه العذر للهجوم على أفغانستان ثم العراق، والانسان العاقل لا يناطح قوة كالولايات المتحدة بفعل جنوني من دون أن يحسب ويحتسب ما يمكن أن يجره رد فعلها من أضرار على بلاده وقومه، ولكن بن لادن في غمرة عاطفة الجهاد والعنف اللامحدود رحب بالغزو، باعتباره فرصة للجهاد ضد الكفار الأمريكان حتى لو أدى هذا إلى تدمير العراق، والأكيد أن هذا سيدخل في حسابات الناس عند نظرتهم لابن لادن في المستقبل وتوصلهم إلى رفض منهجه الانتحاري المدمر للبلاد والعباد، مما سيؤدي إلى تراجع ونهاية الفكر السلفي
الجهادي الذي صاحبه.

سادساً: السبب الأهم لتوقع نهاية السلفية الجهادية الحربية أن موت بن لادن جاء بعد ثلاثة أشهر من الثورة المصرية التي غيرت في ثمانية عشر يوماً من المسيرات السلمية ما فشلت حركات الجهاد والإسلام السياسي في تحقيقه في أكثر من نصف قرن بمنهجها المتطرف في تكفير المجتمع واغتيال رموزه السياسية والثقافية والدينية منذ محاولتهم اغتيال عبد الناصر في 1954 ثم العودة إلي العنف في عهد السادات باغتيالهم للشيخ الذهبي وغيره، ثم لأنور السادات وفرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، فاغتيال السادات جاء بمن هو أسوأ منه فلم يكن الاغتيال حلاً، بينما استطاع شباب الفيسبوك العصري المنفتح على العالم أن يحقق إنجاز التغيير المعجز بنزوله إلى الشارع وقيامه بثورة شعبية سلمية حضارية أذهلت ونالت إعجاب العالم كله بمن فيهم زعماء الغرب والولايات المتحده نفسها، فالفرق هنا شاسع وهائل حقا بين حركات عنف أعمى وكراهية دموية مظلمة ارتدت سراويل دينية، الدين الحق منها براء واعتمدت الاغتيال ونحر أعناق الابرياء منهجا والرجوع إلى الماضي ـ شكلا وعقلاً ـ طريقاً وفشلت طوال ستين عاماً في تحقيق أي شيء سوى الخراب والتراجع إلى حد الخروج من العصر واستعداء العالم كله وتمزيق وضياع عدة دول عربية، وبين ثورة جماهيرية مصرية خالصة خرجت بشكل سلمي راق تطرح مطالب حقوقية إنسانية وطنية غير ملوثة بالطائفية أو الجاهلية الفكرية، ثورة متسقة تماما مع العصر ومفاهيمه وقيمه الحديثة من ديمقراطية وحرية وكرامة إنسانية ومسيرات سلمية، معبرة عن مطالبها ليس بالنحر والدم والوعيد، ولكن بالشعر والابداع والأناشيد. إن نجاح هذا النموذج الوطني العصري الفذ في تحقيق الانتقال الحضاري المنشود لمصر والمصريين الذين كانوا فجر الحضارة وضميرها الأول هو أعظم وأجمل ضمان لتراجع ونهاية تلك الردة الحضارية الظالمة المظلمة التي اجتاحت بهياجها الأرعن الأعمى البلاد العربية حوالي نصف قرن في محاولة سوداوية جاهلة للي اعناقنا للوراء للعودة للخلف والاقامة في الماضي السحيق ضد كل قوانين الحياة والطبيعة والكون.

لهذا كله أعتقد جازماً أن أصحاب السلفية الجهادية الحربية من غزوة مانهاتن إلى غزوة الصناديق، على حد تعبير أحد شيوخ السلفية في مصر، واصفاً انتصار من صوتوا بنعم للتعديلات الدستورية مؤخراً، سيكتشفون أن الصناديق ـ ولو بعد حين وفي المدي الطويل ـ ستلفظ فكرهم المدمر الذي كان يكفر الصناديق نفسها، وسيجدون الصناديق تختار أن تسير ليس للوراء معهم ولكن للأمام مع الشباب المتحضر المتوثب المعاصر الذي يعد نفسه للوصول إلى كواكب أحلامه بالعلم والعقل والإبداع والحرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتساع رقعة الاحتجاجات في الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف فو


.. فريق تطوعي يذكر بأسماء الأطفال الذين استشهدوا في حرب غزة




.. المرصد الأورومتوسطي يُحذّر من اتساع رقعة الأمراض المعدية في


.. رغم إغلاق بوابات جامعة كولومبيا بالأقفال.. لليوم السابع على




.. أخبار الصباح | مجلس الشيوخ الأميركي يقر إرسال مساعدات لإسرائ