الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا قد لايكون الاسلام السياسي خيارا سيئا بالنسبة للغرب ؟

حارث الحسن

2011 / 5 / 17
مواضيع وابحاث سياسية



المسألة بسيطة جدا : اذا كان عليك ان تذهب للسوق وتشتري فاكهة ما ، فانك في الغالب ستميل الى شراء النوع المعقول ذا السعر المعقول ، بدلا من النوع الممتاز ذا السعر العالي ، ومن النوع الردئ ذا السعر الواطئ.
في السياسة تفعل الشئ نفسه ، تبحث عن الخيار المعقول ذا التكلفة المعقولة ، بدلا من الخيار الجيد ذا التكلفة العالية ، والخيار السئ ذا التكلفة المتدنية .
بعد الحرب العالمية الثانية انتعشت حركات الاستقلال في العالم الثالث وشكلت موجة يصعب مقاومتها او السيطرة عليها بالقوة المسلحة لان ذلك سيكون خيارا مكلفا جدا ، ويصعب تركها وتجاهلها لاسيما في المناطق الاكثر حساسية لان ذلك سيكون خيارا سيئا ، فلجأت القوة العظمى الخارجة من الحرب العالمية الثانية اقوى مما دخلتها ، واعني بها الولايات المتحدة ، الى التعاطي مع الخيار المعقول . فاذا كانت حركات الاستقلال المعادية للهيمنة الاجنبية قد اكتسبت قوة كاسحة في بلدانها واخذت تستولي او تقترب من الاستيلاء على السلطة في بلدان عديدة ، واذا كان الخيار الكولونيالي بات غير ممكن ، واذا كان التفرج من بعيد كان سيمنح القوة المنافسة ، اي الاتحاد السوفيتي ، امكانية ملء الفراغ لاسيما وانه يتبنى ايديولوجيا تلتقي مع ثقافة الحركة الاستقلالية ، فان الخيار المتبقي هو ان يتم دعم التيارات المنضوية في تلك الحركة التي تمثل تهديدا اقل من غيرها.
وفي المنطقة العربية كان هنالك تياران رئيسيان في الحركة الاستقلالية ، التيار اليساري ذا النزعة المعادية للامبريالية والمصالح الغربية كاولوية رئيسية ، وبالتالي هو التيار الاقرب للمعسكر الشيوعي ، والتيار اليميني الذي كان يؤكد على الاستقلال القومي والدولة القومية والثقافة القومية وبالتالي كان ميالا الى مقاومة الهيمنة بشقيها الشرقي والغربي . اليسار كان ينطلق من موقف مادي – تاريخي يركز على العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي وبالتالي يميل الى الاصطدام مع عناصر رئيسية للقوة الغربية أمنها النظام الاقتصادي العالمي وعلاقات التبعية المنسوجة داخله ، بينما كان التيار القومي ينطلق من موقف مثالي يركز على قضايا الاستقلال الثقافي والكرامة القومية والانبعاث القومي كما مثلته كتابات ميشيل عفلق مثلا ، وهي كلها عناصر لاتصطدم الا خطابيا بالمصالح الجوهرية للقوى الغربية . الاختيار بين خصم ساحته الصراع المادي وخصومته مع المصالح الاقتصادية للقوى المهيمنة ، وخصم ساحته الصراع الثقافي وخصومته مع التصورات الثقافية والذهنية المغايرة ، كان لصالح الثاني . فضل الغرب تيارا استقلاليا يحارب في المجال الثقافي ، على تيار استقلالي يحارب في المجال المادي ، بدا عندها ان اليمين الاستقلالي هو الاقل سوءا.
لذلك ، في ستينيات العراق مثلا لم يتمكن الشيوعيون من ان يسيطروا على الحكم رغم انهم كانوا التنظيم الاكبر والاقدر على التعبئة مقارنة بذلك التنظيم الحديث نسبيا والمفكك ايديولوجيا والضعيف في قاعدته الاجتماعية الذي يسمى حزب البعث ، وان كانت لذلك اسباب داخلية عديدة فان بروز القوميين كخيار معقول للمصالح الغربية كان احد اهم الاسباب . الشئ نفسه حصل في مصر وفي سوريا : لقد كانت نزعة الاستقلال والتحرر قد بلغت مستوى تصعب معه مقاومتها فاختار الغرب ان يتعامل معها عبر تفضيل الخيار المعقول ، ذا الثمن المعقول . الانظمة القومية التي تسلمت الحكم في الخمسينيات والستينيات لم تتخل عن الخطاب المناوئ للامبريالية والمشكك بالقوى الغربية ، لكنها لم تنجر الى الانضمام الى المعسكر الشيوعي بل فضلت خيارا وسطيا اسمه : عدم الانحياز . وبسبب من طابعها وصراعها المتفاقم مع اليسار ، حملت تلك الانظمة بذور التحول الى ديكتاتوريات عائلية او عشائرية او طائفية لاتشكل اي تهديد جذري للوضع القائم ، ان لم تصبح ممثلة له ومتحالفة مع قواه كما اصبح الحال عليه في مصر.
اليوم تواجه الولايات المتحدة وضعا مشابها ، تمرد اجتماعي واسع النطاق يعم الشرق الاوسط ضد الانظمة الديكتاتورية التي ضمن وجودها لزمن طويل قدرا جيدا من الاستقرار الذي خدم مصالح القوى الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة في النظامين الاقليمي والعالمي. ويبدو ان خروج الناس للشوارع بات ظاهرة يصعب ايقاف تداعياتها او توجيهها بالمطلق لاعادة انتاج الوضع السابق . مايغفله الكثيرون هو ان الغضب الشعبي الذي تفجر في الشوارع العربية ينطوي ضمنا على تحد لمجمل النظام السياسي والاقتصادي الاقليمي-العالمي الذي اسهم في تشكيل علاقات هيمنة واقصاء اتسمت بالجمود واغلقت كل الافاق امام الحراك الاجتماعي وبالتالي الامل بغد افضل .
القوى والمصالح المستفيدة من الوضع القائم كان عليها ان تقبل خسارة بعض الساحات وتتعامل مع عدم امكانية الرجوع الى نقطة الصفر ، وبالتالي ان تلتقط خيارها المعقول ذا الثمن المعقول . والاخوان المسلمون في مصر ، واشباهم في معظم البلدان التي شهدت او قد تشهد سقوط ديكتاتورياتها ربما مثلوا هذا الخيار . فالاسلاميون على طراز الاخوان يمثلون اليوم يمين الحركة التحررية الجديدة ، هم يريدون التخلص من الديكتاتورية التقليدية ويتبنون منهجا اكثر استقلالية تجاه الغرب ، لكنهم اذا ماقورنوا بقوى وتطلعات اجتماعية اخرى لعبت الدور الاكبر في الحركة الاحتجاجية رغم افتقارها لتنظيم سياسي محدد وموحد ، سيبدون اقل تهديدا . فـالمحتجون الذين سعوا الى ازاحة الديكتاتور كان يحركهم خليط من المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ورغبة ليس فقط بنظام سياسي ديمقراطي يقوم على انتخابات حقيقية ، بل وايضا بنظام اجتماعي جديد يضمن عدالة اكبر.
البعد الاجتماعي للاحتجاج تميل وسائل الاعلام ومراكز الابحاث الممثلة للقوى الاجتماعية المهيمنة الى اغفاله ، وبالتالي حتى حدث بالغ الدلالة مثل انتحار البو عزيزي يتم تهميش بعده الاجتماعي لصالح عبارات مجردة عن "الكرامة" بوصفها مفهوم "سايكو-ثقافي" منقطع او مشوش الصلة بالواقع الاجتماعي وعلاقات السلطة فيه . نقل الجدال من ساحة المظالم الاجتماعية الى ساحات مطواعة للقاموس السياسي السائد يعني اعادة تأليف الحدث بتجاهل دوافعه الاكثر جوهرية .
الاسلاميون (على النمط الاخواني) قد يمثلون الخيار المعقول في هذه اللحظة ، دون ان يعني ذلك بان الغرب سيتحاشى التفكير بالخيار الممتاز وهو الحفاظ على البنية الاجتماعية القائمة للنظام السياسي مع اجراء تغييرات شكلية في الشخوص والمؤسسات . مايفضله الغرب هو انظمة سياسية ليبرالية لاتمثل تحديا للقوى الاقتصادية – الاجتماعية المهيمنة .
اذا امكن تحقيق الهدف اعلاه دون التضحية بالقاعدة الاجتماعية التي تشكل عليها النظام الاقتصادي-الاجتماعي في بلدان المنطقة التي شهدت وتشهد احتجاجات جماهيرية ، سيكون ذلك هو الخيار الامثل . لكن ان تعذر ذلك بفعل قوة الزخم الاحتجاجي واحتمال ان يصل الى مستوى اكثر شراسة وربما عنفا ويتحول الى "ثورة شعبية" ، فان الخيار المعقول سيتمثل بتفضيل ذلك التيار الاقل انهماكا بالقضية الاجتماعية والذي لايحمل ايديولوجيا "ثورية" للتغيير الاجتماعي ، وهو في هذه الحالة يتمثل بالاخوان واشباههم .
نعم ليس الاخوان هم التيار الاقوى في العملية الاحتجاجية لكنهم التيار الاقدر على اعادة تنظيم الاجندة السياسية وعلى التفوق بعملية انتخابية منظمة في مواجهة تيارات مازالت عاجزة عن التنظيم او غارقة بالمثاليات الثورية . سيكون بوسعهم اخراج الكثير من الناس الذين لزموا بيوتهم سابقا ومن ابناء المناطق الفقيرة والارياف لكي يصوتوا للتيار "القريب منهم ثقافيا" ، للتيار الذي يحمل القرآن شعارا له ، والذي يتصدر قادته صفوف المصلين ، وتزدان جباههم بعلامة التقوى والانكباب على العبادة . سترى فيهم الغالبية ممثلين لمزاج الشارع لانهم يسعون الى دولة ترفع من قيم الاسلام و تتماهى مع ثقافتهم الاجتماعية . "الهوية الثقافية" ستمثل اطارا جذابا للتعبئة في مجتمعات فشلت الدولة – "الوطنية" ان تحقق لها هوية ثقافية متمايزة ، وتحول انقطاع نخبها المهيمنة عن الهم الاجتماعي للاغلبية الى انقطاع ثقافي ملأته القوى الاصولية والهويات التقليدية بما وفرته من شبكات امان اجتماعي وروحي .
لكن الاخوان في النهاية لايحملون مشروعا للتغيير الاقتصادي – الاجتماعي ، ساحتهم الرئيسية هي خطاب الهوية والمعركة الثقافية ، وكما هو شأن اسلاميوا العراق الذين تسلموا السلطة بعد اول انتخابات عامة عام 2005 ، فانهم عاجزون عن ان يبلوروا برنامجا اجتماعيا-اقتصاديا تنمويا فيلجأون الى خطابات الهوية وفضاءاتها . يتمتع الاسلاميون بقدرة كبيرة لتعبئة الدعم وضمان قوة تصويتية عالية في الوقت الذي تعجز التيارات الديمقراطية (ذات الهم الاجتماعي ) عن فعل ذلك اما بسبب غياب التنظيم عنها ، او تشوش خطابها ، او افتقارها لادوات التعبئة المناسبة التي برع الاسلاميون فيها .
لذلك سيبدو فشل الديمقراطيين في مصر وتونس ببلورة مشروع ديمقراطي – اجتماعي وتشكيل تنظيم سياسي ناضج وقادر على ابتكار ادوات جديدة للتعبئة ، سببا اخرا لتفوق الخيار الاخواني بكل مايمتلكه من تاريخ في العمل السياسي ومن شبكات للتنظيم والتعبئة . وتسيد الاسلاميين هو الذي سيدفع الكثيرين من ذوي الميول العلمانية الى التعاطف مع تيارات ذات منطلق نيو- ليبرالي تحظى بدعم قوى "الثورة المضادة" وتفرغ الديمقراطية من بعدها الاجتماعي لأن خطابها يأخذ بالتركيز على الانفتاح والعصرنة كمفاهيم "شكلانية" بديلة عن الانغلاق والتحجر والتعصب الذي تغذيه التيارات الاسلامية ، سيكون ذلك بمثابة نقل للصراع من حيزه الاجتماعي الى الحيز الثقافي ليتشكل حول تيارين لايهددان البنية الاجتماعية للوضع القائم . وقد حصل شئ شبيه بذلك في العراق ولبنان حينما تم تقديم شخصيات مختارة من قبل النخب الاقليمية المسيطرة كزعامات للعلمانية (النيو- ليبرالية) التي تريد استبدال "تحجر الاسلاميين واستبدادهم" بمشروع "انفتاحي" و "ليبرالي" ينطوي في حقيقته على قبول تام للانخراط داخل علاقات الاستتباع التي يتشكل عليها نظام السلطة في المنطقة !!
المسرحان التونسي والمصري سيكونان اختبارا كبيرا لمديات ونتائج الصراع بين قوى الامر الواقع وقوى التغيير الاجتماعي ، وسيقودنا هذا الاختبار في النهاية الى ان نفهم ماحصل وسيحصل اما بوصفه تحولا ثوريا يشكل مدخلا لديمقراطية اجتماعية بمفاهيم واطر جديدة ، او تغييرا سياسيا يمهد للعبة سياسية تعيد تدجين المطالب الاجتماعية عبر نقل الصراع الى مجال اخر ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار