الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى ما يشأ يوما يقدك لسجنه ..

البشير النحلي

2011 / 5 / 24
الادب والفن


متى ما يشأ يوما يقدك لسجنه ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل من رواية قصيرة.

(.. أثار انتباهه، على ضوء اللمبة البـاهت، انقضاض رتيلاء على ذبابة وقعت في شرك نسجت حبالــه الدقيقة بحنكة واقتـدار. غرزت الرتيلاء، بقــوة وسرعة ، نابها في جسم الذبابة،.. سحبت نابــها وعادت إلى المرصد..
رأى مموح الرتيلاء تعود إلى الذبابة وتغرز فيها نابها من جديد. تكب عليها لحظـة ثم تتراجع إلى مكانها دون أن تترك فيــها أثرا ).
*********************************************************************************************************التقاط عين مموح.

لم يبق أحد إلا طار إلى المكان. أعولت النساء وخبطن أجسامهن وقلعن شعورهن وخمشن وجوههن وبكين حتى نزف البكاء دموع أعينهن ، وسكنت الحيرة والهلع عيون الصغار وتعب الرجال من الانتظار ومن محاولات تهدئة النساء وصرفهن هن وصغارهن إلى بيوتهن. كان عليهم ألا يفتكوه ويحملوه إلا بعد وصول المخزن. والمخزن، عندنا، يعرف شغله جيدا ويعرف متى ينبغي أن يحضر . لذا وجب أن ينتظروه وأن يتموا الانتظار، إذا لزم الأمر، إلى الليل.
ما كنت أظن أنه سيأتي علي يوم أقع فيه في مثل تلك المحنة. تصور أن تتكلف بمهمة تقتضي ذهابك إلى المخزن عندنا. أتتجرأ على تصور ذلك! وأنت تعرف أن المخزن عندنا متى ما يشأ يوما يقدك لسجنه وأنه ما سمي مخزنا إلا لكثرة ما يخزن مما يمده به الناس ومن الناس إن لم يفعلوا أو فعلوا ولم يرفقوا فعلهم بإشهار رضاهم وسعادتهم عبر ملامح وجوههم؟ لقد كان يوما عسيرا، علي، صدقني، غير يسير.
عند العصر كان المخزن جاهزا. أركبني معه لأرشده إلى المكان متحملا بذلك وقاحتي وقلة حيائي كما أوضح لي "المقدم" الجالس بجانبي. كان أقل رجالات المخزن شأنا على ما يبدو . لذا كلفوه بأن يستخلص مني المعلومات ويبلغها إليهم. حدث، في الطريق، أن انتابتني رغبة مفاجئة في أن أفكر في هذا المخـ... غير أني انتبهت ووجدتني على وشك الشروع في التفكير فخفت كثيرا وتداركت نفسي ولم أفعل .
ما إن وصلنا، بعد العصر بوقت قصير، حتى انقطع الصراخ وجفت المآقي وتحسنت ملامح الوجوه، وقام إلينا الناس يحتفون بموكبنا ويعتذرون عن إزعاجنا ويستقبلوننا بما يليق وجلال قدرنا عندهم. كنت في الطريق مختفيا ومن بين رجالات المخزن منتفيا غير أني أحسست، عند الوصول، بتحول مسني وصرت انتشي بانحناءات من تعودت أن أبوس أيديهم من كبارنا أمامي، واعترتني رغبة البقاء أطول وقت ممكن قرب مخزننا. واحتللت، منذئذ، المكانة اللائقة بي في نفوس كل الناس لما رأوا من شجاعتي: إذ ركبت مع المخزن سيارته وسرت إلى جانبه ووقفت بحذاه وأجبته في أكثر من مناسبة بمجرد تلويح الرأس إثباتا أونفيا خارقا بذلك بعضا من قواعد وأصول مخاطبته..
عاين المخزن الحادث، وسأل أهل مموح وسمع شهادات بعض الناس. قيل لي فيما بعد إن بعض من يقدرون عواقب الأمور أشاروا على أهل الدوار بأن يشهدوا جميعا بأن مموح المسكين إنما أودت به ساكنة جسده التي كثيرا ما كانت تتهدده بالقتل. فقد كان شائعا، هكذا ينبغي أن يضيفوا، أن نوبات جنون حاد كانت تعتريه فيختنق ويسقط أرضا خابطا بأطرافه ككبش مذبوح ويعلو فمه ما يشبه الملح المبلول ويبقى على هذه الحال مدة ثم تهجره الحركة حتى يظن أنه فاض.. كانوا، بالتأكيد، يحاولون تجنب كمين نسجته لنا يد خفية وقدمته حجة جاهزة ستشتد بسببها، لا محالة، حبال المخزن حول رقابنا.
من قال إن البحر ثائر أبدي؟! الحق أنه غاضب أبدي. غاضب من سجنه وفيه ولن ينفك وإن أدمن الغليان ونطح الصخور.. والحلم مثل الجري وراء الآل في مهمه طامس كلما قلنا تدانى الماء بعد. فمن لنا بخرقة نسيان في هذا الزمن الموبوء تضمد جراحات أمواس الوساوس بصدورنا وتلطف من انشداد الأعصاب؟ ليس بعد عسرنا إلا العسر، والزمن لا ينقلب علينا لأنه لا يتركنا. كلما رمانا ببلية كان مخزننا هناك من أعوانه. وإن لم يبادر قام هو بالواجب! قبل أسبوع فقط اجتمع الناس إلى إحدى العائلات يهنئونها على عودة ابنها قادما من البياض! فقدناه شابا يحلم بالحب ويهجس باحتمالات الأفضل في الأوضاع والسلوك والعقليات وكنا ظنناه قضى فإذا به يعود، بعد تسع سنوات، وقد صوح وذبل. استل صوته وقذف إلينا عاريا إلا من صمته وذهوله وتلفتاته المتواترة المحيرة...
أذن لنا بإراحة كيان مموح ودفنه. مضينا إلا أقلنا ممن تكفل بافتكاكه وحمله لنشيع رعاتنا ونثبت لهم، كالمعتاد، حبنا وولاءنا. أنت أيضا يا شريكي في الهم ستحضر معنا مراسيم التوديع وإلا شأمت نفسك. لن تنفعك، صدقني، حجة البقاء لمرافقة من سيحملون مموح. وأنا أعلمك، منذ الآن، أن لا شأن لي ولأهل دواري بأمرك إن أنت عاندت وتوانيت في القيام بواجباتك نحوهم..
ألقينا بهم في أشد الحركة وأتعب التعب قبل الوصول إلى البيت! فالسيارات لا تنفع في مثل هذه الأماكن، وركوب البغال لا يليق إلا برجالات المخزن الأقل شأنا كالشيوخ والمقدمين. وحتى شيخنا ومقدمنا لم يركبا هذه المرة كما العادة عندما يأتيان في مهامها المألوفة.
كان كبارنا اختاروا لهم من ديارنا أحسنها حالا وأقربها طريقا. أعتدوها وخصوها بأحسن ما يملك كل منا. وبقدر ما قدمنا لهم، إذ دخلوها آمنين مطمئنين، من لذيذ وشهي لا يطمع فيه أي منا، وبقدر ما حرصنا على إرضائهم بقدر ما حرصوا، من جهتهم، على الإمعان في السكوت، فليس أقرب بالإنسان للابتذال من الكلام..
عندما خرجوا وهموا بالمضي اختلى المقدم ببعضنا، قال إن جريمتنا منكرة وما من سبيل إلى السكوت عنها. عاد فخفف اللهجة قليلا وعاتبنا على هذا النزوع لاستعادة أيام السيبة المنسية !، وأكد، في النهاية، أن المخزن مستعد لأن يرى الحادث كما زعمنا شرط أن نعمل لأجل ذلك.. انكتمنا ولم نبد شيئا ورافقناهم إلى أن اركبناهم ومضوا..
كان علينا أن نخف لنواري جسد مموح. لم نشك في أنه مازال مشرعا على هذا الفراغ. القلة ممن افتكوه وحملوه ليسوا أهلا لأن يصلوا عليه ويدفنوه. قصاراهم أن يحتفزوا القبر وينتظروا. الوقت متأخر وضوء النهار سراب تكشف زيفه وأخذ في التلاشي. سال بنا طريق " سيدي حساين". مشينا مسكونين بوجع الصمت نحمل أعمارنا المجهضة. ومع كل خطوة متعجلة كانت تنغرز بدواخلنا مسامير رعب حاقد، وتذوب خلايانا جراء غضب كاسح قاحل..
كانوا كما كنا متعبين وجائعين. اجترأ علينا بعضهم بالقول وغلظ لنا فيه ونسبنا إلى الاستخفاف واللامبالاة وإن كان فينا كبارنا! رددنا عليه بأن جلدناه بسوط الصمت. انكتم منسحبا إلى داخل يحترق بجمر ندم. رققت له. كان خيرا من جلده أن نجيبه.. أشهر الفقيه فتواه المسائية الكالحة: " سنعيد حفر القبر. ليس لقبر المنتحر مكان وسط قبور المسلمين. علينا أن نفرده ونجعله خارج حدود المقبرة. هو من حكم على نفسه بالنار. ليقف أحدكم عند آخر قبر وليقذف الفأس أبعد ما يستطيع وحيثما سقطت شقوا له الأرض.. لكنا، بالتأكيد، سنصلي عليه وندعوا له. لم يكن مموح أمهاوش يأبه لأمور الدين. ولم يسبق لي، شخصيا، أن فكرت في دعوته إلى ذلك لأني كنت متيقنا من أن مكانه هو الجنة. أنتم تعرفونه، فهو لا يعرف الشر. ولولا ما فعل المسكين بنفسه لما شككت في أنه سيقطع الصراط خفيفا مغمض العينين.."
التفكير سؤال. والسؤال خطأ تراجيدي. إنه يشقي. أليس شقاؤنا ناتجا عن سؤال أبوينا:
لماذا؟! ما كان أغناكما وأغنانا عن "لماذاكما" يا أبوينا. كنتما وكنا، عندما خوطبتما وأمرتما ألا تقربا تلك الشجرة، في حاجة لأن تقولا : نعم . لن نقربها. لن ننظر جهتها. أبناؤكما، فلذات كبديكما، هم أيضا اقترفوا، بعدكما أسئلة لانهائية. الشعراء منهم خاصة احترفوها واحترقوا بحرقتها. احزرا كم سيتضاعف، مثلا، شقاء السميسر ابنكما الذي اجترأ وسأل عن سبب إشراكه في العقاب على خطإ أنتما وحدكما من ارتكبه، ولا ذنب له فيه. يقول ابنكما إننا وزرنا وزركما. اسمعا سؤاله الباكي وبكاءه الشاكي:
ياليتنا لم نـك من آدم
أورطنا في شبه الأسر
إن كان قد أخرجـه ذنبه
فمالنا نُشْرَك في الأمر
لا. لسنا في شبه الأسر. نحن في الأسر. ومموح سؤالنا الأول المفتوح : أليس من حق الكائن أن يتخلص من ألمه؟. وابننا الذي اختفى، هكذا فجأة، وفقدناه حالما ليقذف إلينا، بعد أن حذفت من حياته تسع سنوات، هما محيرا وجرحا نازفا هو سؤالنا الآخر الذي لا نملك تركه: أما من شبر لأحلامنا على هذه الأرض حتى لو كان لها مذاق الوهم ؟!.
يا أبوينا: كم كنتما في سعة وفي غنى عن سؤالكما..
يا أبوينا: أبناؤكما لا يملكون الانفلات من حصار الأسئلة المحرقة ..
يا أبوينا: الضوء يكثف العتمة، والمتاح من الإجابات حجب وأستار تدفع للمزيد من الاحتراق..
يا أبوينا: ورطتمانا في مختبر الفجائع واشتهاء الحلم المستحيل..
كلام الفقيه فتح لي باب الغياب عن مكان حضوري والمضي في مطاردة خيوط الدخان . دفعني إلى إرهاف السمع لصوت انهياراتي الحزين يتفجر بداخلي المسكون بالتورط. أعادتني لوقائع الدفن أصوات تستغيث بضوء اللمبات وتستعين به على دفع بياض الليل: وفي جوف الخد الضيق وضعناه على يمينه ملفوفا في كفن بلون العمى. نضدنا فوقه صفائح صما وسددنا الثقوب بينها ثم أهلنا عليه التراب. أنبتنا الشاهدتين: واحدة عند الرأس والأخرى عند القدمين . أدرنا أحجارا حول جثوة التراب المعزولة ووضعنا فوقها نباتات شائكة ومضينا نتقرى مواطئ أقدامنا في عمى الليل..










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه