الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمسيس يونان، مساحة صمت بين الأنا والمطلق 1-2

يوسف ليمود

2011 / 6 / 21
الادب والفن


منذ نشأة الفنون الجميلة في مصر، بداية القرن العشرين، وإلى نهايته، لم يحظ فنان مفكر بتقدير واحترام، من لدن صفوة المثقفين، بحجم ذلك الذي حظي به رمسيس يونان؛ وفي المقابل، لم ينل فنان مفكر نصيباً من التعتيم والتجاهل ومحاولات التحجيم، من لدن المؤسسة الرسمية، مثلما نال يونان، إلى حد التفكير بأن مصادفات قراءة اسمه في كتاب رسمي هنا أو في لائحة فنانين هناك، ليست سوى محاولات اضطرارية لملء فراغ الحلقة الساقطة من سلسلة مسار الحركة الفنية والفكرية في مصر في العقود الثلاثة التي تتوسط القرن الفائت. تلك الحلقة، المردوم عليها بتلال من تراب باهت لا عمق فكرياً فيه، ويشكّل الحيز الأكبر من النتاج الفني منذ ستينيات القرن وحتى انطواء الأخير، لا يزال معدنها النبيل يلمع في أذهان النخبة المثقفة التي استوقفها، إن لم أقل أدهشها، المنجز الفني والأدبي والفكري العام، ببعده السياسي، لتلك الجماعة من الجانحين، الذين ألهبوا المنظر الثقافي منذ منتصف الثلاثينيات وحتى نهاية الأربعينيات، ممتطين حصان السريالية، بصهيله الغريب وحوافره الخطرة، جماعة “الفن والحرية”، التي كان رمسيس يونان أحد أضلاع تلك الحلقة اللامعه، أو لنقل أحد منحنياتها، من حيث توزّع طاقته الممسوسة، بذات القدر، وبالعمق والصدق ذاتهما، بين الفنان الرسام والكاتب المفكر، الناقد والمترجم.

آثار مبدع ما، ولو كانت قليلة، تغني، في محاولة النفاذ إليه، عن كثير مما قيل فيه أو حيك عنه، بسبب مساحة التحيزات، الإيجابية أو السلبيىة، التي تفرضها الطبيعة الإنسانية، في حميمية العلاقات، أو في حمى الصراعات، على المعاصرين للمبدع، أو اللاحقين له من أجيال. وحيال رمسيس يونان، لدينا من أعماله، فناً وفكراً، وترجمة كذلك، ما يمكّننا من أن نتأمل، ليس فقط في فنه وفكره، بل أيضا في صمته، وذبذبات كيانه التي حَفرت على تلك الأسطح متعددة المستويات، حتى لنكاد نسمع الطريقة التي نطق بها الكلمة، والتي تضيف أبعاداً للكلمة، ليس للأخيرة أن تخبر بمعانيها لو أنها نُسجت ببرود مضطجعٍ على أريكة: “وبانتظار أن يسبق وعي الإنسان رفضه لحياة الكلاب هذه، لا نزال نستمد من اليأس ما يكفي لتغذية نار التمرد في أنفسنا. إننا نصرخ بأننا مجانين. التجارب لم تعلمنا شيئا. نحن لا نتغذى سوى من هذياننا، وهذا لا يحرمنا من بصيص ضوء، وإذا كنا نرفض أن نرى في الفشل الحالي للحركات العمالية نهاية أحلامنا، فإننا لا نزال مفجوعين بثقل هذا الاضطهاد المتشعب الذي لا يفتأ أن يتزايد يوماً بعد يوم”.

بل أبعد من ذلك، أمامنا تفاصيل حياة هذا الفنان، والتي هي جسد ليس بإمكانه الكذب، لو افترضنا حيزاً تستحيل فيه الكلمات أبنيةً تنتشي بأصواتها المجردة، بنيّة صاحبها الحسنة أو غير الحسنة. نحن أمام حياة لحمتها التمرد، منذ النفس الأول في طريق الفن وحتى الأخير. فكان بإمكان الطالب رمسيس يونان، مثلا، أن يصبر عاماً واحداً إضافياً، بعد أن أمضى أربع سنوات في مدرسة الفنون، كي يحصل على شهادة تخرجه، لكن وعيه، وغيرته على الجذوة المتوقدة بداخله، وضعا حداً لاستمراره ومهادنته الوقت، حين اصطدم بالروح الرجعية الجامدة التي تحقن به الأكاديمية الدارسين وتنال من مواهبهم، عبر أساليبها وقوانينها وضيق أفق أساتذتها. كانت هذه خير وأقسى بداية، لفنان سوف تشكل حياته نفسها واحد أعماله الفنية، إن لم يكن أهمها. ونظرة على قاموس الكلمات التي لازمت هذا الفنان في كتاباته: “الحرية، الرغبة، الجنون، السر، المطلق، المستحيل، الحلم، مأساة، شهوات الخيال، الخيال السجين، جنون العاطفة، حكمة العقل، الفنان الحر…” لَتؤكد على التحامٍ لاشية فيه بين الآثار الفنية والفكرية لذلك الفنان، وبين الكيان النفسي والمواقفي الذي أفرز هذه الآثار.

فكرة التمرد تحمل في نواتها جرثومة التحول والانقلاب على ذاتها، وهذا تحديداً ما يعطيها مصداقيتها، إنها دينامية ليس لها أن تهنأ بالسكون على بر آمن، لإدراكها أن فكرة السكون، الفني أو الفكري أو العقائدي، لا تعني سوى الموت، ناهيك عن نفورها الغريزي من فكرة الأمان، التي هي محض وهم في الأدمغة. غير أن هذا لا يعني أن قماشة التمرد لا تشد منسوجتَها حزمةُ ُ من خيوط هي أقرب للبديهيات الثابتة، التي، حتى لو تغيرت ألوانها، تظل وبرتها غير قابلة للنحول. وفي تحول رمسيس يونان من السريالية إلى التجريدية، بعد مرحلة طويلة من الصمت، مثال عملي على ما نقول، من حيث إن السريالية كانت مرحلة بالنسبة لشكل ممارسته الفن، بذات القدر التي كانت مرحلة في تاريخ الفن، تم تجاوزها بعد أن أدت دورها في ظرفها التاريخي، تاركة شيئاً من عصارتها، ولو كان ضئيلاً غير ملموس، صبغ ما تلاها من مدارس وممارسات فنية، بما فيها تلك البعيد منطقها الفكري عن المنطق السريالي. فإلى جانب كون يونان فناناً تأثر مثل الكثيرين غيره بالبيئة الفنية العالمية ومستجداتها التقدمية الفاتحة، ليس بالإمكان أن نُسقط من حسابنا عشر سنوات تقريبا أمضاها يونان عاطلا ًعن ممارسته فنه، بعد أن أثقلته الحياة في مهجره الباريسي، بالتزاماتها العملية، بين وظيفة وبيت وزوجة وطفلتان، وهي الفترة التي تثير تساؤلاً، رغم تداخل عنصريها، الإجباري والاختياري، عن ما إذا لم تكن واحدة من حلقات التمرد في السلسلة، ولكن على الذات هذه المرة، وخيانة لها؟

لعل السؤال الجدير بالبحث، في موضوع التمرد، هو ما الذي يكمن وراء تلك الطاقة القلقة الجامحة؟ أهي أسباب فكرية يبنيها ويراكمها تطور الوعي، أم هي في جوهرها شيء بيولوجي نفسي يتحكم في التركيبة المزاجية للفنان ويوجهها، كثعبان يلتهم ما يصادفه، دون أن ينجو من ذلك حتى ذيله؟ إن ظلاً من مقارنةٍ في ظروف النشأة بين يونان ونيتشه ورامبو، لَيفرض عليّ نفسه حين التفكير في الأمر، فالثلاثة تحكّم اليتم الأبوي، والتزمّت الديني للأم، والجو الأنثوي العام، المنطوي على ذاته، والذي أحاط بهم، في طفولتهم، فكان التمرد المراهق على الدين أول عتبات سلم طويل من الرفض والهدم والقذف بالذات عارية إلى صحراء المستحيل. بين الثلاثة المذكورين، تبدو الذات الشخصية، في حالة رامبو، هي الأكثر حضوراً، كمحورِ توترٍ انطلق منه التمرد على الحياة، وتالياً على الشعر، الذي لم يكن سوى ذات الشاعر نفسها. غير أنه في حالتَيْ نيتشه ويونان، تتراجع الأنا الشخصية حد امّحائها، غالبا، لصالح نوع من تمرد يبدو وكأنه متخطياً الذات الشخصية وعذاباتها الصغيرة، إلى ما هو أكبر من حدود كيان المتمرد، وكأن الوضعية البشرية هي التي تسوط تلك الطاقة، وتهيّج فيها مكامن التفكير الثائر والإرادة الوعرة. وإننا لنرى في ترجمة رمسيس يونان لكتاب رامبو “فصل في الجحيم” سنة 1946، الذي ودّع فيه الأخير الشعر، فعلاً رمزيا له دلالته، على المستوى الشخصي، بنفس مقدار كونه فعلاً ثقافياً يدعم التوجه الثوري النضالي الذي تبناه يونان في مرحلته السرياليه، حيث لم تكن الأخيرة ترفاً فنياً، أو نوعاً من عبث ارتضاه يونان وأصحابه السرياليين وقتذاك، بل كانت وسيلة لتفجير إمكانات الذات، الهاجعة في لاوعيها، والمضغوطة، والمردوم عليها بطبقات هائلة من ركام تاريخ طويل من التعسف والقمع والصراع الطبقي، وبالتالي فإن صدىً لتفجيرات اللاوعي تلك، كان لا بد وأن يكون له مردوده في أودية المجتمع “الإجرامي”، حسب تعبير يونان، يعيد صوغ أنظمته والخيوط التي تحرك طبقاته وتتحكم في علاقات أفراده. كان هذا حلم السريالية الأبيض الذي مد يده من سماء اللوحة التي رسمتها، يصافح به يد الحلم التروتسكي على أرض الواقع. وفي “غاية الرسام العصري”، يذكّر يونان “مدرسة السريالزم هي في صميمها دعوة لثورة اجتماعية أخلاقية قبل أن تكون مذهباً فنياً”.

هذه العلاقة الجدلية بين السريالية كفن، والتروتسكية كمذهب سياسي ونضال، لم يقدَّر للكثيرين في الواقع الثقافي المصري، الذي اصطدم به يونان وجماعته، أن يدركوها. وفي معرض هذا الصدام بين يونان وأصحابه السرياليين من ناحية، ونماذج الثقافة السائدة، التي كان عباس العقاد أحد أقطابها وقتذاك، من ناحية أخرى، يكتب ألان روسيون: “ومن ثم يصبح من السهل على واحد مثل صبحي الشاروني أن يسخر من عدم اتساق موقف السرياليين المصريين، الذين يؤكدون بصوت عال ـ من ناحية ـ مشاغلهم الاجتماعية والسياسية، ويختارون عمداً ـ من ناحية أخرى ـ سجلات تعبير غير مفهومة لمن يدعون التضامن معهم، كما يغدو من السهل التنديد بعدم اتساق أولئك الذين يدعون التفلسف عن عبثية الوجود كالوجوديين ـ وقد التصقت بيونان هذه البطاقة بترجمته لكامى دون أن يبذل الكثير لاستحقاقها”.

كانت السريالية إذن جبهة لمواجهة مجتمع مريض، قبل أن تكون ساحة اصطدام بذات مكبوتة، إذ أن الخروج من مائها الباطني بلآلئ فنية، كان شرطه وقوف الفنان على أرض نفسية ومعرفية صلبة. لذا وجد يونان في السريالية خندقه الذي أعلن فيه رفضه الثقافة التقليدية، وأطلق منه سهام نقده على تلك الثقافة كما على صانعيها. وهنا يلاحظ ألان روسيون في سياق مقاله المذكور أعلاه: “فما عارضه رمسيس يونان وأصدقاؤه لم يكن فحسب الأفكار والقيم السائدة وإنما أيضاً المثقفين السائدين أو الذين في طريقهم إلى أن يسودوا. لقد وضعوا العقلانية وانهيار نماذج الفكر الغربي التقليدي في مقابل اليقين الوضعي للعقاد أو الإصلاحية الأخلاقية لطه حسين في ذات الوقت الذي كان فيه هؤلاء يدعون الشباب المصري إلى أن يستلهموها”. وكان يونان قد نشر في عام 1938 كتابه “غاية الرسام العصري”، وفيه قدم تعريفاً وتحليلاً لبعض المدارس الفنية الرائجة وقتذاك كالحوشية، والتكعيبية، التي رفض منطقها الشكلي المتملص من مسئوليته تجاه المجتمع إذ يقول: “والذي أراه أن الرسامين المكعبيين بتجاهلهم حقائق الحياة الموضوعية قد انتهى بهم الأمر إلى تجاهل الحقائق الذاتية أيضا، فهم يدعون أن الحياة بمشاكلها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية هي موضوع خارج اختصاصهم، وهم لذلك ينعزلون في مراسمهم موجهين كل همهم إلى الأبحاث الجمالية البحتة Aesthetics وينسون أو يتناسون أن هذه المشاكل ذاتها هي التي تقرر نزعتنا العامة تجاه الحياة وموقفنا من العالم، وهي التي يتولد عن صراعنا معها تلك الاضطرابات النفسية العميقة التي تنتظر من الفنان العظيم أن يعالجها بخياله السحري. فكان في إهمال الرسام المكعبي للحياة وحقائقها إهمال الغاية لتلك المادة الضرورية لعمله، ونتيجة ذلك أن أصبح الرسم المكعبي فناً سطحياً يدور حول نفسه وأقرب إلى الفن الزخرفي منه إلى أي شيء آخر”.

كان هذا التحليل الرافض الاتجاهات الشكلية في الفن، تمهيداً لتسليط الضوء الأكبر على السريالية، عبر استعراضه نظرية فرويد في العقل الباطن، لينتهي بتصور عن مقومات العمل الفني، الذي لا يمكن أن يصير له قيمة، ما لم يدعم الوجدانَ الذي أفرزه أفق فكري واسع وفعال في المحيط الذي يخاطبه: “إن الفن الذي نحيطه بهالة مقدسة لابد أن يكون قادراً علي القيام بدور مهم في هذه (الدراما) الباطنة. أعني أن يكون قادراً ـ كالأديان ـ علي إيجاد الحلول لبعض منازعاتنا النفسية، وبذلك يساعدنا على الوصول إلى حالة من السلم والهدوء النفسي ـ فهذه للإنسان أعز أمانيه”.

لكن، بعيدا عن أفكار يونان وآرائه في السياسة والمجتمع والفن والتاريخ، التي عبر عنها كتابةً بوضوحٍ كريستالي بليغ، يبقى أن ننظر في الجانب الآخر من العملة، أي نتاجه الفني، في مرحلته السريالية، رغم عدم توفرنا إلا على عدد محدود من صور تلك المرحلة السريالية، مقارنة بوفرة ما تحت أيدينا من أعماله في المرحلة التجريدة. لكنْ هنا، ولكي تستقيم رؤيتنا أو تقييمنا، أو حكمنا، لا بد أن نكون واعين بالمدى الزمني الذي يفصلنا عن تاريخ تلك المرحلة، بما يحمله ذلك المدى من تراكم كم هائل من خبراتنا البصرية، والفلسفية الجمالية، التي أنتجتها الفنون المعاصرة، أو ما تسمى فنون ما بعد الحداثة، بتشظياتها التي جعلت من ما كان جديداً أو عجيباً، من مدارس واتجاهات فنية في زمن يونان، يبدو الآن وكأنه في عداد الكلاسيكي من الفن. غير أنه، بقليل من الجهد، نستطيع أن نتمثل الجو الفني والثقافي العام في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وحجم الصدمة التي أصابت العين آنذاك، بذائقتها السطحية التي تطرب “للجميل” من فن الصالونات والموضوعات التي تدغدغ مرتاديها. في مثل هذا الجو، تكون لوحةُ ُ، معلقة على حبل غسيل في صالة المعرض، بدلا من عرضها على الحائط بالشكل المألوف، تصور امرأةً بملامح مومياء شنيعة، تطاير ضفائرَ شعرها ريحُ ُ مجهولة المصدر، وتبدو وكأنها تنتزع بأظافرها أحشاء رغباتها الدفينة، تحت أفق كابوسي، تكون لوحة كهذه صدمة حقيقية لذائقة ذلك الوقت وحساسيته، من حيث إنها تقدم “البشاعة” تحت مسمى “الجميل”، أو بديلا عنه. ومثال على ذلك، لدينا وصف للأديب عباس محمود العقاد ليونان وأصدقائه السرياليين، سجّله أنيس منصور في، حيث قال عملاق الثقافة والأدب وقتذاك عن هذه الجماعة إنهم “حرفوا الأذواق الأدبية والفنية (للجمهور)، بحيث جعلوا من الذوق المريض قاعدة، ومن الهذيان منطلقا، ومن الجنون عبقرية”.

ارتاد يونان في لوحته السريالية السكة الوعرة لتلك الأجواء الكابوسية، التي لم تكن العين مستعدة بعد لتلقّيها وتلمّس جمالياتها الغريبة والوحشية، فكان الجسد في لوحته السريالية هو الخلية الحية التي تتفتت أشلاءً كأعضاء تبحث عن خلاصها من الجسم الذي هي جزء منه، وتبدو متراوحة بين محاولة التملص منه والانشداد إليه في الآن نفسه. ويدعم فكرة الحرية هذه، على المستوى الرمزي الإيحائي، أفق فسيح ممتد يشكّل العنصر المطلق، الذي تتصادى فيه صرخات الجسد المكبّل برغباته السجينة وأشواقه الغامضة.

ربما انطبق هذا الوصف العام لعمل يونان، في مرحلته تلك، على أعمال عدد من السرياليين العالميين في ذلك الوقت، بما في ذلك بعض أعمال سلفادور دالي، غير أن هذا لا ينفي خصوصية أعمال يونان، وانبصامها بذاتية وحساسية أصيلتين، سواء على مستوى العناصر وتركيباتها، أو على مستوى الأداء التقني، الذي يستحضر في الذهن أدائية التعبيريين الألمان، أكثر مما يذكّر بأدائية سرياليّي فرنسا، التي انبثق منها فكر هذه المدرسة الفنية، والتي كان الأقرب إلى المنطق أن يتأثر بها يونان، بحكم تواصله الفكري والفني مع الحساسية الفرنسية، عن طريق اللغة التي كان يجيدها. ففكرة “الشكل” في عمله حاضرة، والرياضية حاضرة، والروح البنائية حاضرة، والحس التلويني، رغم تقشفه وزهديته المتحدرة من أساليب الروح الفنية المصرية عبر العصور، وتحديداً القبطي منها، حاضر… كل هذه القيم البصرية المجتمعه في لوحة يونان السريالية، والتي كانت تخدم جمالية العمل قبل أن تخدم سرديته الأدبية، تشكّل فى نظرنا مقدمة منطقية لما سوف ينتهي إليه الفنان في ما بعد من تجريد، كما أن كل هذه القيم المذكورة سوف تلازم إنتاجه في مرحلته التجريدية، الأمر الذي يؤكد على أن تحوّله من هذه المدرسة إلى تلك، لم يكن انقلاباً جذرياً على مستوى العقيدة الفنية، قدر ما كان تواصلاً مع مستجدات الفكر الفني، وفتح الأفق أمام وجدانه لكي ينقّب بأدوات معرفية وبصرية جديدة عن ما لا يمكن أن يُكشف عنه بطريق عقيدة فنية واحدة، مهما كان الإيمان بها. وفي النهاية، بإمكاننا أن نفهم بسهولة، لا معنى أن يعود فنان هذه طبيعته، إلى العمل من جديد في مرحلة فنية كان الظرف التاريخي هو ما قابل ثوريتها بثوريته الفتية، وقطعت ظروف الحياة والهجرة أسباب استمرار بحثه فيها مدة تقارب عشر سنوات، كما تجاوزها الواقع الفني العالمي في سيرورته الكاسحة. ما يلفت انتباهنا في هذا السياق، هو ما ذكره الدكتور لويس عوض في مقاله عن يونان عقب رحيله: “وبعد وفاته سلمتني السيدة زوجته ثلاث صفحات مطوية كتبها رمسيس يونان بالفرنسية أثناء إقامته في باريس نحو سنة 1952 بعنوان “إنما الذي يخيفني هو صمت رامبو”. ورغم عدم عثورنا على ترجمة لهذا النص في أيّ من آثار يونان المنشورة، وأغلب الظن أنه لم يترجم إلى العربية، فإن العنوان وحده كاف لكي يقول إن يونان، رغم ما بدا عليه من استسلام، لم يكن هادئاً، أو بارد الذهن، في صمت السنوات العجاف تلك، التي أمضاها في باريس، زوجا وأبا وموظفا، لا يترك له عمله في الإذاعة الفرنسية الوقت الكافي للرسم، حسبما ذكر الدكتور لويس عوض في المقال ذاته، من أنها كانت الشكوى الوحيدة للفنان حين التقاه في أغسطس 1955 في باريس في زيارة خاطفة. وفي هذا السياق يحكي بدر الدين أبو غازي: “وفي مقهى جلاسيير بالشانزليزيه كنت ألقاه مع جماعة ممن كانوا يعملون معه من طلاب الفلسفة والفن والأدب المصريين بباريس كان بينهم دائب الصمت والتفكير… في عينيه هذا المزاج من الخبرة والقلق والتطلع. ولكنه كان يبدو وكأنما قد نسي معاركه وركن إلى العزلة وإن دلت إشارته الخافتة على أن الصراع مازال يحتدم في نفسه”..
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته