الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمسيس يونان، مساحة صمت بين الأنا والمطلق 2-2

يوسف ليمود

2011 / 6 / 30
الادب والفن


بالنظر إلى توزع طاقة يونان في ممارسات متعددة، بين الرسام، الناقد، المناضل السياسي والمترجم، نستطيع أن نفهم أنه كان نموذج الفنان الذي يعمل على فترات ومراحل، وليس نموذج الفنان المستغرق يومياً، كموظف، وبشكل مطرد، في عمل ذي جنس واحد. فترات، ضاقت المسافات بينها أم اتسعت، تُفرَّغ فيها الشحنة التي كانت تتراكم وتتشكّل وتنتظر ولادتها، ومن ثم تكون الهدنة في اشتباك الذهن في عمل من نوع آخر. من هذا المنظور، نستطيع أن نفهم أيضا الصمت، الذي هادن الفنان فيه الحياة، طوال سنوات مهجره، كما نفهم خوفه من هذا الصمت، صمت رامبو. كذلك نفهم موقفه حين رفض إذاعة بيانات ضد مصر أثناء العدوان الثلاثي عليها، وكان الثمن عودته من فرنسا إلى بلده مطروداً، وقد تبلورت، في هذا الرفض، شخصية يونان بكامل حمولتها الثورية، من حيث كونه موقفاً وطنياً شجاعاً في المقام الأول، وانقلاباً على الصمت، الذي استكان إليه مكرها، في المقام الأخير. كان هذا الموقف برهاناً على أن الصمت شيء والسكوت شيء آخر، ولم يكن هذا الفنان من النوع الذي يسكت وإن صمت. من ناحية أخرى، من الصعب تخيل ما الذي كان سينتهي إليه رمسيس يونان، على المستوى الفني، لو لم يضطر إلى العودة إلى مصر، حيث عاود حروبه الفنية والفكرية مع واقع ثقافي واجتماعي باهت لم يفهمه ولن يعترف به، وحيث تفرَّغ للفن، ليخرج علينا بفيض من اللوحات التجريدية، برهنت كثافتها ومستواها الفني والفكري على أن الجهاز الإبداعي لهذا الفنان لم يكن عاطلاً عن الحركة والسريان تحت تبن الصمت الكثيف. السؤال هو: ما الذي كانت ستؤول إليه هذه الطاقة الفنية لو لم يعد الفنان إلى بلده وفنه؟ إن انشغال يونان بصمت رامبو وسط تلك السنوات (كتب مقاله المشار إليه في منتصف السنوات العشر التي قضاها في باريس) يبدو منطقياً ومفهوماً، وهو الذي انشغل بجحيمه قبلذاك، حين ترجم كتابه وسط لهيب مرحلته السريالية. فهل كان يونان يواجه إشكالية العلاقة بين الفن والحياة، والتي تنتهي إلى أن حياة الفنان نفسها يمكن أن تكون هي العمل الفني؟ هذه الفكرة الحداثية التي أخذت حيزها، كمسلّمة، في عالم الفن المعاصر، وصالحت فنان اليوم مع كسله، ما كانت لتُقبَل، أو لتُستساغ بسهولة، من كيانٍ مثل رمسيس يونان، فهو الذي كتب في مقال له بعنوان “الفن والتاريخ”، نُشر في “المجلة” في يونيو 1958، يقول فيه: “ولا ريب أن للفنان، إذا شاء، أن يكون ـ خارج نطاق جهده الفني الخلاق ـ كاتبا اجتماعيا أو مجاهدا سياسيا، كما أن من حقه، إذا أراد، أن يرصف الشوارع أو يفلح الأرض، أو يسهم في جمعية خيرية، أما الذي ليس من حقه في أي حال فهو أن يخلط بين الأمرين: لأن الأهداف الاجتماعية والسياسية ليست أكثر من وسائل تاريخية محدودة تخضع لأحكام الصيرورة والضرورة، في حين أن الخلق الفني لا ينتسب إلا إلى عالم الدوام والحرية، ولا يدين بالولاء إلا لمنطقه الذاتي؛ وإنه لمن الحماقة التي لا توصف، بل من الخيانة لأعز أحلام الإنسان، أن نتخلى عن كنز باق من أغلى كنوز الحرية الفعلية، بحجة الكفاح في سبيل وسائل مؤقتة محدودة بحدود السياسة والاجتماع”.

ويجب أن نعرف هنا أيضاً أنه ظل حتى النهاية على موقفه الرافض لمنطق الفن الشكلي، أو فكرة “الفن للفن”. ففي احتضاره، كما ذكر لويس عوض، تكلم يونان عن بيكاسو هاذياً: “ربما رسم “جرنيكا” أو حمامة السلام للشيوعيين ولكن طريقه ليس طريق خلاص الفرد بالجماعة وإنما خلاص الفرد من الجماعة”. عدم تنازله، عن فكرة الالتزام السياسي والاجتماعي في الفن هذه، يمثل واحدة من الإشكاليات الكامنة في العلاقة بين آرائه النقدية في الفن وبين إنتاجه الفني في مرحلته التجريدية، وهي المرحلة التي انفضّ فيها الاشتباك، الذي كان قائما، في مرحلته السريالية، بين الفني والسياسي، وخرجت فيها الطاقة والإرادة الفنية من ماء الأنا، إلى ماء الوجود… إلى هواء المطلق.

الوقوف أمام بياض اللوحة، بعد سنوات من الانقطاع، شيء مخيف. فالإمساك بخيط يفتح طريقاً للبحث الفني، لا يأتي من أول ضربة فرشاة. الأمر يتطلب صراعاً وجهداً ووقتاً، حتى تنبنى، أو تَبِين أرض ما يقف عليها الفنان. وفي “المجهول لا يزال”، يكتب يونان، مبرراً تحوله من السريالية إلى التجريد: “ويرجع الفضل إلى الحركة السريالية في إنقاذ الفن من هذه الدائرة المفرغة. لقد أعادت إلى الشاعر شيطانه، فانطلقت كرائم الجن تمرح على مسرح الفن. وعندئذ هتك السر واتضح لكل ذي عينين أن الوهم والحقيقة سيان، وأن حوريات البحر والخيول المجنحة والأشجار ذات الثدي هي خير مرآة لما يدور في خلد الإنسان. وإلى هذه الحركة يرجع الفضل كذلك في أول محاولة جدية لخلق أسطورة جديدة يلتقي فيها الواقع بالخرافة، والظاهر بالباطن، والحكمة بالجنون، والأوج بالحضيض، والحياة بالموت، حتى تصبح مبعث نور وإلهام للنفوس الولهى المتعطشة التي تناهبتها في هذا العصر شتى عوامل الحيرة والشك والقلق. غير أن هذه الأحلام والأشواق، بالرغم مما أشعلته من مواقد لا تطفأ، لم تستطع أن تصمد أمام تلك الوساوس التي أصبحت بمثابة عصب الوعي الحديث وقوته اليومي. وهكذا عاد الإنسان وجها لوجه أمام طلاسم الكون. ولكأنه قد عاد إلى حيث كان في فجر الخليقة، قبل أن يطلق على الأشياء أسماء تستر عريها وقبل أن يبتدع الأساطير التي تضفي على هذه الأشياء مغزى ومدلولاً. وهكذا لم يعد في وسع الفنان ذي الوعي في هذا العصر أن يصطنع لنفسه بيتاً بين أحضان طبيعة فقدت في نظره شفافيتها، ولا أن يقنع بالحياة في إطار زائف من الأشكال الهندسية المنسقة، ولا المجازات المستعارة. ولذلك نراه يعمد الآن إلى تفجير هذه الأشكال، عله يعثر تحت الأنقاض على مادة الوجود الأولية وقسماته الخفية”.

إن تعبير “تفجير هذه الأشكال” لا يعني انقلاباً على السريالية، كما سبق وأشرنا، قدر ما يعني الوصول إلى عدم القناعة بمهمة الفنان في تجسيد رؤىً تظل حبيسة الإطار، مهما كانت درجة تحرر هذه الرؤى، ومهما كانت أسطوريتها. ستظل أشياءً تحمل مسمياتها التي لوّثها الواقع وزيّفها. وفعل التفجير هنا، على ما يحمله من طاقة أو نزعة ثورية، يعني تفتيت ومحو اللغة الزائفة المتعارف عليها، كمن يفكك جملة ما ويبعثر حروف كلماتها على سطح، لتقول ما يلمسه في الأعماق ولا يستطيع النطق به. هذا التحول في المنهج الفني أو البحثي، والذي لا تتناقض، أو لا تتنافى فيه كلمات يونان السابقة مع المعطيات الفنية التي نثرها في لوحاته التجريدية، يشير إلى تراجعية الربط بين السياسي والفني، لصالح الربط بين الوجودي والفني. أصبحت اللوحة حفراً وبحثاً عن “مادة الوجود الأولية”، ولم تعد نبشاً في اللاوعي لخلق أسطورة الذات.

الفتات الهائل الذي تتشكّل منه لوحات يونان التجريدية يحمل في نثاره وتعرجاته وهيوليته كل الخبرات البصرية التي لامست عين الفنان في رحلته، من أشياء الوجود المرئي، إلى تلك التي تنتمي إلى نتاج المخيلة الإنسانية من رؤى فنية وأساطير. هذا الطوفان من أشكالٍ هي أشبه بالزبد وسط أرخبيل من صخور وأحجار، لم يُترك لعشوائية سهلة تميل به إلى مباشرة في التعبير وسيلان في الشكل، بل حَكمته رياضية صارمة لا يكاد يفلت منها جُزَيْء أو لمسة. كل جُزَيْء، وكل لمسة، وكل فراغ، نال حصته من التفكير والتأمل. كل المساحات والعناصر أُخضِعت للوعي، حتى تلك التي أنتجتها الصدفة. لا تعود الصدفةُ صدفةً حين يوافق الوعي عليها. هذه الصرامة الرياضية، بحسّها التأملي التراكمي الذي يشبّع السطحَ بنوع من روحية تنبع أساساً من تمثّلها قوانين الطبيعة في طريقة عملها، كما أنقذت يونان من الوقوع في شبهة الشكلانية البحتة التي كان يرفضها، أنقذته كذلك من الوقوع في أسر الإنفعالية الحركية التي لم تكن لتخلو من نزعة أدائية استعراضية. لم يترك يونان سطح اللوحة إلا بعد أن كان حقق نوعاً من أزيز، وكأن تيارا ما، كهربياً أو مائياً، يسري في ثنايا هذا الرذاذ الشكلي المبعثر. اهتزاز لا مركزية فيه، تنغسل في أفقه التشظيات البللورية لملايين الأشكال التي تصور كائنات وعوالم لا أسماء لها هي كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه، وكأنها تجسيد لمقولة صديقه الشاعر جورج حنين التي كتبها إليه ذات يوم في إحدى رسائله: “إن ما لا اسم له هو ما يوجد حقاً”. ما كان لهذه العوالم أن تتبلور على سطح اللوحة ويكون لها تأثير على العين والوجدان لو لم يكن الاقتصاد الشديد في الألوان، حد الزهد فيها، هو الصرامة رقم اثنين، بعد صرامة الحسابات الرياضية. هذا الزهد اللوني يستمد صبغاته من طبيعة الأرض والبيئة المحيطة، والتي تعود بنا إلى المزاج التلويني المصري، إنْ في زهو تصاوير معبد فرعوني، أو في دكنة أيقونة قبطية، وهو إذ يعكس، بوعي أو بغير وعي، خاصيةً من روح الميراث الثقافي المحلي، بهذا الشكل غير المباشر، فإنه يكون قد لمس عصباً لما يمكن أن يُسمى “الهوية”، رغم أن هذه الأخيرة هي آخر ما كان لفنان، منفتح على الميراث الحضاري للعالم أجمع، كيونان، أن يلتفت إليها. إن الذهنية التي أفرزت هذه اللوحات قد قامت بتفتيت الأنا الذاتية لصاحبها وذرّ مكوناتها على السطح، حين فعلت الشيء نفسه مع المادة التي تشكل هذا السطح. فهذه العملية التبادلية، بين معطيات الذات ودهاليز اللوحة، بين تفكيك هذه المعطيات وإعادة تشكّلها في اللوحة، هي ما يعطي للأخيرة مبرراً وحقاً في الوجود. لم يكن فعل التفجير والتفتيت عبثياً ولا مجانياً، بل خلقاً وتوحداً. هدماً من أجل بناء. شقاً لطريق بين الأنا والمطلق.

كان على يونان إذن أن يمر، في الطريق التصويري، من دهاليز الأنا المثقلة بحمولتها الأسطورية، من كوابيس كونية ورغبات وأحلام رسّبتها الذاكرة منذ الخطوات الأولى للعالم، إلى إنكار هذه الأنا الضيقة ونسف أثقالها من صور وتشخيصات ومسميات تحجب ما هو أوّلي وجوهري ولا اسم له. هذه الروحية، التي لم تتخل عن حسّيتها ودنيويتها، لم يكن لها أن تنزلق إلى هوة من ميتافيزيقا تصوفية تفصلها عن المادة وعن ما هو ملموس، إذ تظل هذه العوالم المجردة مشدودة إلى مرجعيات من هذا العالم، تألف إلى مدلولات البصيرة وإن لم يحددها البصر، وهي بهذا تعود بالعين إلى ما هو تحت حدقتها، إلى اليومي والمألوف والمبتذل، لكنْ متشظياً ومنثوراً، ويحمل إمكانات تشكّله في صيغ وعوالم لا حصر لها. من هنا تأخذ سنوات الصمت الطويلة التي كابدها الفنان في مهجره معناها، من حيث كانت مزيجاً من تمرد، وترميم جراح، وإعادة حسابات، واختمار رؤىً، وإستعداد لنزال جديد، مع المجهول، كما مع الواقع المعلوم، أو المكلوم، بالأحرى.

يوسف ليمود

رابط الجزء الأول:
http://www.doroob.com/?p=7145

نشر في كتاب عن ر. يونان بعنوان: “ثورة العقل وجنوح الخيال”، صدر عن المجلس الأعلى للثقافة 2011

——–

مراجع:

ـ رمسيس يونان: “مقتطفات من بيان”، عن كتاب دراسات في الفن، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب.

ـ ألان روسيون: “رمسيس يونان وكراسات شبرامنت”

ـ رمسيس يونان: “غاية الرسام العصري”.

ـ بدر الدين أبو غازي: “مقدمة كتالوج معرض رمسيس يونان”، باريس، المركز الثقافي المصري.

ـ رمسيس يونان: من نشرة “المجهول لا يزال” 1959.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا