الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العائد

انمار رحمة الله

2011 / 7 / 7
الادب والفن


حين فتح عينيه ليُصدَم بلون اسود يصبغ المكان ،كان المشيعون قد رحلوا تاركين ورائهم (حسب ظنهم) جثةَ من شيعوه ودفنوه قبل وقت قصير. المكان يسوده الهدوء المفعم بالارتياب ،ولم يعد هناك سوى امرأة بعيدة تضج بالبكاء، شكلت حولها نسوة مولولة دائرة على قبر (لعله زوج /ابن/ أخ التهمه الموت).ومنظف يجول بين القبور يجمع ما يرمى من أوساخ خلفها الباكون والزائرون. ورجل شائخ يحمل بيده كتابا مقدسا ،ينفس به عن ضيق النائمين وخوفهم وسفرهم الطويل .المؤشر الأول الذي ظهر ،ضيق في التنفس يهجم رويدا رويدا ،ورائحة عجيبة تملأ المكان الضيق الذي لا يتسع إلا لنفر واحد.(لعله حلم...؟)سأل نفسه وهو يحرك يده المرتبكة ليكتشف بعد ثوان انه فعلا قد دفن وانه سيواجه أروع تجربة ستمر به في طريق حياته الذي التصقت به المفاجآت كالأرصفة.برودة المكان تغازل جسده العاري الملقى تحت التراب،لتعانقه أخيرا فيزول استغرابه عن سبب البرد، وإذا لم يقتله البرد سيقتله طمع القبر بالأوكسجين الذي سيقدر بالذهب بعد مدة وجيزة،وإذا لم يقتله الجو الخانق سيقتله الجوع أو العطش،وإذا لم يقتله الجميع سيقتله الصمت المطبق الذي أوشك على أن يجننه.
يحاول أن يخدع ارتباكه؛ليدير رأسه المثقل قليلا ...فلا يستطيع بتاتا،لأن اللحد الذي احكم عضته كتمساح ،لن يسمح لضحيته(الرأس) بالمغادرة ،بل الانتظار إلى اجل وليمة الدود.هل سأستسلم ...)سؤال أخافه من واقع جديد لم يألفه ،ومشكلة ليست كالمشاكل التي واجهته في حياته، كـأريد مصروفا للمدرس الخصوصي/ وفر لنا مالا لأشتري عقدا ثمينا كالذي لدى جارتي اللعينة / سيدي ثمن الخبز ألف وسبعـ .../ أنا موظف الكهرباء وعليكم قائمة بـ .../الحر /البرد/أصوات البائعين /لعنات النسوة والشيوخ المتجمهرين على باب الدوائر الحكومية.مشكلة من هذا النوع لم تصادفه ولم تصادف غيره على الإطلاق.لم يألف الناس إن أمواتا تصحوا بعد موتها ،ولعل تلك الحادثة التي هزت مدينته في سنة من السنين حين فتح عينيه احدهم بعد موته ،وبالتحديد على مغسل الأموات في المدينة، هي الوحيدة التي أثارت ضجة كبيرة منذ زمن بعيد ،وإذا قارنها بحالته فالسابق أوفر حظا منه،ومن ضمنها إن الأول اكتشف الورى رجوعه للحياة قبل غسله وتشييعه ودفنه.
اللحظات تقرع في أذنه المرتبكة كالطبل ،والتساؤلات تحيط به كذئاب متفرسة من كل جانب ،ماهو مشروعي المقبل للخلاص من فك القبر المظلم.؟)سأل نفسه في هذه اللحظة المليئة بالجنون ،من سيفتح عليه بابا من التراب .؟ومن سيفكر له والكل قد ناموا ليلتهم متناسين الرجل الذي يرقد ألان كما يظنون تحت لحاف التراب ،من سيفكر إن الحياة قد عادت إليه من جديد ليزوره ويزيح عن كاهله عبئا هو الأثقل في العالم. اليأس يتسلل إلى مغارة روحه المظلمة.تحسست روحه المخنوقة ذكرياته الماضية،مرت كأنها شريط سينمائي مصور ، منذ اليوم الأول في المدرسة. (رحبوا بالتلميذ الجديد )هكذا نطق معلمه الطويل ذو الشعر الأسود ،المشتعل شيبا على جانبيه ،ذو الرائحة والهيئة التي يأتي بها كل صباح ،والأطفال المعبئون برائحة العرق والرغيف والمرق . ومطالعتهم للطفل الجديد وكأنه نزل من الفضاء. لعل الحبس الانفرادي الجديد ذكره بطفولته الغائبة ،ففي الحالتين تلاقفته أحضان حنونة دفيئة ،في طفولته نام في حضن أمه (الأنثى) ،وألان هو ينام في حضن أمه (الأرض).
تذكر كل شيء ،أصدقاءه/أمه /أباه/زوجته التي لا يعرف أي ثقل سيمر عليها ووحشة من دونه /شارعه/عمله/كتبه ....كتبه الثمينة التي فرط بها وليتها تأتي إلى صديقها القديم لتنقذه ،تلك الكتب التي ما ثمّنها إلا هو،ولما تزل في أروقة الرفوف البليدة هنا وهناك مع مجموعة ضخمة من الكتب النادرة .والتي باعها كلها دفعة واحد ،المكتبة والكتب والأشياء الفاخرة لديه ،لتسديد أجور مادة (البلاتين) الثمينة التي زرعها في ساقه احد الأطباء المشهورين في مدينته .في ذلك اليوم حزن حزنا شديدا لأنه ضحى بكل ما يملك من كتب ثمينة ،في سبيل الحصول على قطعة معدنية بحجم التينة أو اكبر بقليل.وعاد ليضحك بعنف شديد بعد انتهاء العملية ،حين اكتشف إن كل الكنوز المعرفية وكل تلك الكتب الثمينة ،تساوي قطعة بلاتين تافهة في نظره ،وكل ما قرأه وتعلمه باعه ولم يصل لثمن البلاتين المغرور .
يفزع الرجل تحت التراب وهو ينتبه لكمية الأوكسجين التي بدأت تقل /تنفذ/تصبح ثمينة إلى ابعد الحدود/تنتابه رغبة الصراخ /البكاء/العويل.ولكن الرغبة في الخلاص تؤجل كل الرغبات لاحقا ،وتقف شاخصة أمامه بلا حراك. يداه تخربشان وجه التراب الصامت ،تخربشان بلا وجهة محددة ،أنها الحياة ...أمامه كفتاة عروس بكر ،تناديه من بعيد جالسة كحورية بحر تمشط شعرها الأصفر.كيف أنجو..؟ ...كيف أنجو..؟)بدأ يستنطق القدر ليدله على طريق للنجاة، الحياة تهرول مسرعة، وسلسلة الزمن أصابها الهذيان حين تحولت الدقائق إلى ساعات والساعات إلى أيام .وحيدا يصارع كي لا يصل الموت ، هذا الزائر المخيف إلى بستان روحه المعشوشب . الوقت يمر، والنفس يضيق وهو يفكر ولكن بلا جدوى،هناك بدأ النعاس يقترب لينقض على فريسته النائمة بلا حرك ،تسلل شعور اليأس إليه ،حين أحس ببرودة وخدر كبير يغفو على صدره ، فتح عينيه بقوة ودهشة حين التقطت أذناه المتربة دبيبا فوقه /جمد الدم في عروقه وهو يتحسس تلك الحركات الخفيفة على القبر /أنها أرْجل ...؟!)سأل نفسه مستغربا ،وبالفعل بدأ التراب يقلل حمله الثقيل ،حين تهاوت الحركات الحافرة فوق سطح الأرض،معلنة عن نبش قبر الرجل بسرعة جنونية ،حتى كشف التراب عن وجه السماء ،وتسللت نسائم إلى جوف القبر لتلاطف رئته المخنوقة.فتح الرجل عينيه على مهل /تراخت أعضاؤه /واكتفى بالنظر إلى ضوء المصباح المتوهج ،فالوقت أعلن انه الليل ،والشبحان اللذان نبشا القبر واقفان قربه بلا حراك ،وكأنهما جذعا نخلتين ،لم يشعر الرجل المدفون ولم يسأل لماذا .؟ولم.؟وكيف .؟عرف النابشان انه على قيد الحياة فنهض على مهله متأوه ونافضا ترابه ،ولم يدر انه قذف ثلاث أرباع الخوف في قلبي الرجلين الذين وقعا على مؤخرتيهما ،متراجعين إلى الوراء وهما يصرخان من شدة الفزع ،دقق الرجل العائد النظر في وجهي الرجلين ،فلم يعرف لماذا تصرفا بهذه الطريقة ،وهل يعلمان...؟صحيح كيف علما)سأل نفسه وهو يقترب منهما وهما يبتعدان ببطء،رفع الضوء الذي سقط من يد احدهما ليرى وجهيهما ، فأطلق ضحكة عالية ...عالية جدا كادت تحيي كل الأموات، ،حين اكتشف إن الشبحان اللذان نبشا قبره هما... دفان المدينة المعروف والطبيب الذي زرع في ساقه البلاتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا