الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة الحفاة (2)

معاد محال

2011 / 9 / 19
الادب والفن


"هُنـاك شيئين وقفت مبهوراً بطولهما
طول شرايين جسم الإنسان
وطول المسافة بين الحقيقة
و بين ما يُقال من منابر الساسة"


ذهب إلى مكان القمامة الكائن خلف كراج النجارة الذي كان يعمل فيه و جمع بعض قطع الخشب وصنع منها منضدة صغيرة، وعاد إلى المنزل واقترض بعض الدراهم الموجودة في صندوق الادخار من أجل اقتناء الأدوات الضرورية من صباغة و فرشاة... وانطلق- في صباح اليوم التالي- باحثا عن المزيد من الدراهم.
قضى اليوم في التجوال عبر المقاهي باحثا عن الأحذية المتسخة ،لا ينتظر حتى يناديه أحد ،فبمجرد أن يلمح حذاء لم يلقى العناية اللازمة من صاحبه يقترح عليه تلميعه مقابل ست دراهم، يتعمد المرور من المقاهي الفاخرة بحثا عن زبائن ميسوري الحال يدفعون أكثر من المبلغ المعمول به ، إن " التدويرة" التي يجنيها النادل أو الحارس من هذه الفصيلة من الناس تفوق أجرتهم اليومية بل إن مصدر معيشتهم يتوقف على هذه "التدويرة" أما الأجرة فتذهب مباشرة إلى صندوق الادخار، لا أحد أصبح يثق في الزمان أبدا ..الكل يعيش في قلق دائم، إن غالبية الناس عاشت حياة كريمة حتى الموت لم تذق فيها طعم الجوع يوما، لكنها- ومن شدة خوفها من الجوع – عاشت حياة أكثر بؤسا وحرمانا من حياة الجياع أنفسهم..إن الذي يولد جائعا يضل جائعا ولو شبع، والذي يولد شبعانا يضل شبعانا ولو جاع.
عندما انتصف النهار، أخذ استراحة على الرصيف وشرع في عد دراهمه وقد بدا في ذروة الاطمئنان .. لا شك في أن يومه سيكون جيدا..أرجع الدراهم إلى جيبه وقرر أن يمنح لنفسه استراحة قصيرة..فكر في أن يسلي نفسه فجمع بعض الأوراق المرمية على الأرض، وبما أن اليوم يبدو جيدا من منتصفه لم يجد مانعا في شراء قلم..فأخذ يكرر عادة الماضي، حينما كان تلميذا في الوقت الذي كان فيه أستاذ الرياضيات يشرح الدرس ينهمك هو في الخربشة على أوراق الوسخ..كل الأحاسيس يفرغها على الورق حتى يستطيع لمسها ورؤيتها و من تم التخلص منها في أقرب برميل قمامة أو الاحتفاظ بها في جيبه..حينما أكون يائسا أكتبها على ورقة ومن تم أحرقها فأقول :-"لقد اختفى اليأس " و حينما أكون سعيدا أكتبها على ورقة وأمسكها وأرفعها للأعلى كما يفعل أبطال الرياضة حينما يرفعون كأس النصر فأقول:-" لقد حصلت على السعادة وأستطيع لمسها الآن" ..مساكين أولئك العاجزين عن الكتابة.. أحاسيسهم لا تساوي شيئا أمام الجهل، إنهم كملوك الصحراءحيث لا تساوي سلطتهم شيئا أمام الخلاء..أمسك قلمه وشرع يملي على نفسه ما يكتب:-" كل من يخرج لضوضاء الدنيا يجب أن يعلم أن لديه دورا ليلعبه ،إن حياة الدنيا كحياة السينما تماما ،حينما نولد نكون متساوين في الأعضاء كالممثلين حينما يكونون خارج أضواء الكاميرات، لكن في اللحظة التي تُسلط عليك الأنوار يجب أن ترتدي الملابس المناسبة وتتكلم بالطريقة المناسبة وتتصرف بالطريقة المناسبة حسب السيناريو المكتوب..أمي وأبي يسميانه: "القدر"، والذين يدعون الثقافة يجدون في الكلمة غموضا لا مبرر له..المخرج يوجد فوق السماوات السبع ،إنه أعلم منا جميعا، ودائما هناك حكمة في اختيار الدور الملائم لكل واحد منا، وإذا حصل في يوم من الأيام وشعرت بالعبث وبالضياع واعتقدت بأن ما يحصل لك حقيقة فستجد دائما من يذكرك بكلمة واحدة (مُكتاب) بمجرد سماعها ستشعر بارتياح عميق لأنك ستعلم أنه وبعد الموت ستتابع حياتك وفق نمطها قبل الولادة كما يتابع الممثل حياته وفق نمطها قبل التصوير..قبل شهور كنت أعمل في الخشب لكني كنت كالعنكبوت شبه أعمى..أحس و لا أرى..لدي أرجل كثيرة ألعب بها أدوارا كثيرة..مُتعلما ومُنظفا وملبيا لطلبات زوجة الرئيس ومرافقا لابنهما في ذهابه وإيابه من المدرسة..واليوم ألعب دور منظف أحذية وأستطيع أن أرى كل الممثلين المتخفين وراء أدوارهم من بائعي السجائر إلى نواب البرلمان، لكني لا أستطيع الحديث مع أستاذ بلغته لأن ذلك يفقد المشهد واقعيته"..ثناها بعناية ودسها في كفه ووقف ليتابع عمله.
لمحت عيناه رجلا من قبيل أولئك الذين يراهم في برامج التلفاز الحوارية وقد أخذ لنفسه مكانا في زاوية منفردة في المقهى ليطالع جريدته..تبدو عليه هبة المثقفين و أصحاب السلطة..تقدم نحوه و سأله إن كان يرغب في تلميع حذاءه..رد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه دون أن تتحركا عيناه عن الجريدة..وهكذا شرع في عمله ..لا شك أن هذا الرجل من الناس الذين يدفعون "التدويرة" ..إنه متشوق لمعرفة ثمنها..إن ل"التدويرة" طعم خاص..مهما كانت قيمتها ضئيلة إلا أنها تجعلك تطير من الفرح و كأنك أمسكت مبلغا باهظا..لقد علم الآن سر الابتسامة التي ترتسم على وجوه بعض رجال المخزن لمجرد حصولهم على درهم من مواطنين أشد فقرا منهم..إنه سر مخدر اسمه "التدويرة".. حينما تتذوقها للمرة الأولى فإنك ستطلب المزيد كل يوم وستصير مدمنا عليها.. حتى لو جمعت الملايين فإنك لن تستغني عنها..إنها أخطر من جميع أنواع المخدرات التي تدمر المجتمع الإنساني.
كاد ينتهي من عمله على أحسن وجه لولا تلك الحادثة اللعينة.. فقد انزلقت الفرشاة عن الحذاء ولوثت جورب الرجل الأبيض..وفيما تزال عيناه جاحظتان هوت عليه صفعة حديدية وقد بدا صاحبها في ذروة السخط و الغضب:
-تبا لك يا ابن العاهرة..ألم يعد من الممكن العثور حتى على منظف أحذية يجيد عمله
فتح علي فمه لقول شيء ما لكن الرجل لم يترك له أي مجال:
-أغرب عن وجهي و إلا زاد غضبي.. وحينها أقسم بوطني بأنك لن تقضي الليلة في منزلكم
أحنى رأسه في خجل ثم اصطرد قائلا دون أن يرفع عينيه:
-ماذا عن أجرتي سيدي..ألن تدفعها؟
-أُجرتك؟..إنك و الحق شاب وقح..يجب أن تشكرني لأني لم أطلب منك دفع ثمن جواربي..إنك لو
عملت أسبوعا كاملا لن توفر ثمنها
بفعل الارتباك سقطت الورقة التي كان يخربش فيها دون أن ينتبه لها وغادر..الرجل ردد بعض التمتمات اللاعنة و هو يعقد جلسته من جديد..ولفتت نظره تلك الورقة المرمية التي سقطت من يد علي.. أمسك بها على سبيل الاستمتاع وأخذ يتفحصها..بينما هو يقرأ الورقة بدأت ملامحه تتغير تدريجيا إلى وكأن تلك الخربشات أثارت اهتمامه، حين انتهى من قراءته ثناها في كفه..أطلق تنهيدة طويلة وشرد ببصره بعيدا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد