الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رشدي العامل والقصيدة

عبد القادر البصري

2011 / 9 / 25
الادب والفن


(ان ايجاد سعادتنا في شخص آخر هو أمر مستحيل وإستحالته قاتله) ـ مارسيل بروست ـ

لو سلمنا بما قاله بروست، فكيف إذن وجد العامل سعادته في الآخرين ؟ كيف وجدها حين بقيّ في وحدته وتفرده وغياب الآخرين في هجرتهم واختفاء الوانهم ورائحة المشتهى الذي لم تصل له اليد ولم تتحسس تضاريس ذلك الوجه المفرط بذاتية الحب ومأساويتها ،حيث تجتمع في القصيدة هذه اللذة ـ القاتلة ، هذا النهر الفائض بخمرة الإله ، هذا التوجس المجنون الذي ما أن يتلاشى حتى يعود كسطوة عارمة في حياة رشدي العامل ؟

لم تكن قصيدة رشدي تشكو التصحر الذي بدأ يجتاح كل مساحات الحياة ، فكان يجد شجرة يتفيئ بظلها ، ويستغرق في الحلم الصعب رغم البساطة الظاهرة فيخلق من حالة العشق طائرا يطلقه إلى الشجرة مخمورا بالناس يقرأهم ويعيشهم كعادته جميلاً هادئاً في حقيقته .

لم يمارس رقصة الفابير (1) مع قصائده لذا لم يضح بأي حرف في قصيدة ، كانت القصيدة لديه حجرا يلغي سكون بحيرة ، وصوتا يملأ جوف الصمت . فهل كانت هناك قصيدة صامتة في شعر رشدي العامل ؟ قد نجيب بنعم ، والصمت هنا ليس بمعنى الخرس بل الصمت الناطق بأكثر من علامة ورؤيا .. قد يكون العصر مسوراً بغباء كبير فيخال القصيدة صماء مغطاة بطبقات من الطلاسم والغيوم التي لا تنفك تفتك بأدنى شعاع وإن كان كخيط العنكبوت ..
إن القصيدة بالنسبة لرشدي العامل كوردة الثلج ، فقيمتها الشخصية مفترضة بالحب و العذاب الداخلي والحركة التي لا تلحظ لكنها تبدل الأشياء كل لحظة .

إن الشعر عنده كما يقول ،بعيد عن الغائية المسبقة .. إنه شعر الهواجس والشعور بشيئ من القناعة بتناغم الموضوع الذي يعيشه خلال المخاض بالقصيدة ، فهناك أواصر كثيرة تربط بين قصيدته والأضطراب الذي تحدثه اهتزازات العواطف الكثيفة في حياة الشاعر، ليجعل من الشعر شيئاُ إسطورياً شيئاً كالألواح المقدسة ..
لذا فالشاعريبحث في رحلاته الكثيرة وغوصه إلى أعماق البحر عن عشبة الخلود، وقد لايندرج كمبالغة قولنا بأنه وجد عشبته ـ قصيدته الصادقه المفتوحة على عالمٍ من الصراحة وعدم اللبس .
إن العامل حالم اليقظة الذي وجد حياته بكل مستوياتها الزمنية والمكانية شيئاً شبيهاً بالحلم والنبؤة.. فكانت قصائده أزهاراً في أرض (راحت فيها الطلقات تزهر) (2) .

إن هذا الحالم وكما يقول هو( شاعر قابل للمراهنة بعد أعوام طويلة عندما يظل الجمر تحت الرماد ... وما أكثر الرماد) (3) .. .
وهو كما يقول رسول حمزاتوف لم يدل " بشهادة كاذبة أمام محكمة التاريخ " ولم يخن في لحظة صدق مشاعره وحبه للقصيدة فلم يسخفها أو ينتقص من كرامتها شيئاً ، فكان دائماً يؤكد الحب ويتلمس الضوء الكافي في جسدها .. فحين إمتلأت الصحف وأغرقت المهرجانات بأصوات الشعراء شهود الزور أمام محكمة التاريخ والكثير من الذين أحنوا رؤوس قصائدهم ليقبلوا يد الطغيان وإغتالوا النرجس والياسمين لأنها تذكرهم بكذبهم وزيف موهبتهم وخواء ضمائرهم ..

لم يجد العامل في الشعر غير النقاء والضوء وجمرة المستحيل . وهو إذ يكون سعيداً في إبتعاده عن حاشية الخليفة وقوافل المداحين , يكون باراً بشعره وصدق قضيته ، إنه يفهم وظيفة قصيدته بعيداً عن احتمالية بقاء العنقاء على قيد الحياة في ذهنية البعض .

يقول : "إنني سعيد بأني لم أكن في يوم ما إعلاناً ولا شعاراً كاذباً ، ولا مهرجاً في سوق النخاسة ولا متواطئاً ..لقد عشت حياتي بكل ما فيها من بساطة ومن جذل ومن عذاب وفرح إن هذا يكفيني " (4) .

إن زهرة الشعر التي زرعها وسقاها لم تمت وما تزال تجذب بشذاها الفراشات الجميلة وممالك النحل ليكون بعد ذلك العطر ، وعسل القصيدة ولونها الذهبي ليقدمها للناس والمرافئ والحلم والسيدة الأولى ، لأنه شاعر والشاعر يتكامل كأنسان متفرد بشعره وهو دون الشعر مجرد موضوع ومشروع مؤجل .

هذا التميّز يسم قصيدة العامل كونها تتطور بهدوء فهي كموج البحر تلحق الواحدة الأخرى وتمسك نهايتها برفق وتبتلع زبدها وزرقة لونها .. هكذا تتتابع ، لكن الموجة الأخيرة لاتشبه الأولى إلا بمظهرها الفيزيائي ، أما الدواخل فهي جديدة مفعمة بكل ما بالحاضر من حركة حداثية متنوعة .

وقصيدته حافلة بموسيقى رقيقة وإحتفالية بالغة وغنائيه موجعة ، تارة حد الفجيعة وأخرى فرحة جذلة كطفل حظي بلعبةٍ جميلة ..إن هذه البانوراما الشعرية التي كتبها إكتوت بكل النيران وابتلت بكل الأمطار وعرفت وجع السير على ثلج الوهم وواقع المراره . لم يكتف بالحب ولم تكن السيدة الأولى تعني كلمة خيبة أو خيانة بل كان يخطئ من فرط العاطفة الطفولية ، حين يعمم هذا الضرب من العذاب فيوصم كل إمرأة بالاختلاس الجميل والمر أحيانا لأجزاء من حياة كل شاعر عاشق فيرتدي جلباب الحكيم ويطلق نصيحة للعاشقين "مجنون من يحسب أن إمرأة تعشقه وحده " (5) .

هاهو أخيراً يُدخلُ القصيدة مأزقها الصعب فهي أمام وظيفتين .. جمال القصيدة وحقيقة الواقع المتعفن ، إنه يرى فيها شيئاً من الرصاص والدم والحديد المصنع كمدية ويرى فيها الجلاد وما يصنع بالشاعر والإنسان والأولاد فحين يرى الأخرون الجلاد أباً وقائداً ورمزاً لحفظ ماء الوجه يجد هو الجلاد اسخف ما وجد على وجه الأرض , إنه يرتاب من هذا المسخ ويطلق نصيحته لأبنه :

"يا ولدي .. الجلاد
لا يعرف أن يعجن خبزاً للأولاد
الجلاد لا يعرف بغداد " (6) .

حزيران 1991
(*) هذه المساهمة نشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد (235) تموز 1991في الملف الخاص بالشاعر الراحل رشدي العامل واعيد نشرها الان لمرور إحد وعشرون عام على وفاته..
(1) الفابير كائنات أسطورية لاتحيا الا في الليل وبذات في الليالي الشتائيه الباردة الراعدة و هي دائماً على موعد مع حفل راقص يجمعها مع ضحية جديدة .
(2) من قصيدة (ايدي الارض) لخورخه ريبلو شاعر من مزمبيق .
(3) من مقابلة له مع مجلة آفاق عربية العدد 5 آيار 1986 .
(4) نفس المصدر
(5) ديوان هجرة الألوان .
(6) ديوان حديقة علي



هذه المساهمة نشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد( 235 ) تموز 1991
في الملف الخاص بالشاعر الراحل رشدي العامل ؛ واعيد نشرها الأن بمناسبة الذكرى الحادية والعشرين لوفاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة