الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في العقل النقدي وعصبيات ما قبل الدولة

ماجد الشيخ

2011 / 10 / 5
المجتمع المدني


لم يتشكل العالم من لفظيات الحماسة وشعارات الأدلجة، أو صرخات الولاء والاستيلاء القبلية والعشائرية القديمة. كان على العالم أن يتحول إلى إدراك الضرورات، قبل أن يمضي إلى إدراك، بل اكتشاف أمداء من الحرية التي كانت كفيلة بإعانته في أن يقيم تجمعاته أو مجتمعاته البشرية، وينظمها على شكل مؤسسات أو ما يشابهها، وهي التي أخذت فيما بعد شكل الدولة. هذه الضرورات لا يمكننا تجاوزها ونحن نبحث عن الأمن والاستقرار وطمأنينة العيش، كوسيلة من وسائل حفظ النوع الإنساني، وتطوير شروط عيشه في مجتمع دولة/أمة، هي محط آمال عدد كبير من الشعوب التي تتمنى بلوغها، ولو في ظل عولمة لن تستطيع وهي تعولم أدواتها وموضوعاتها، أن تسحب البساط من تحت أقدام الدولة/الأمة، حتى التي لم تتحقق بعد، على ما هو الحال في بلادنا.

وفي مجتمعاتنا التي لم تكن موحدة يوما، وقد تقاسمتها الطوائف المتمذهبة، كما أعملت فيها هدما معاول الفئويات السياسوية المهيمنة في إطار السلطة أو السلطات القائمة، فقد تحول المجتمع الواحد إلى مجتمعات متعادية، متباعدة، متباغضة، ليس بفعل أي صراعات مع الخارج، بل ولمسبّبات تعود - وكما كانت على الدوام - أي منذ التجمعات القبلية الأولى؛ إلى تلك النزعة والنزوع التعصبي، المستمر والمتواصل؛ ولو بأشكال عصرانية، تحاول الظهور بمظهر حداثوي، حتى وهي تتبنى علمانوية رجعية متخلفة، أفضت إلى تشديد قبضة هيمنة الطوائفيات المتمذهبة، كما رأينا ونرى في "التجربة" العراقية الراهنة، وفي مثيلتها "التجربة" اللبنانية، وربما في "التجربة" الفلسطينية، وإن بانحيازات تختلف شكلا، ولكنها في الجوهر هي ذات النتاج الذي أسفرت عنه "تجارب" أخرى في بلدان مختلفة.

وإذ لا يبقى من العصبيات سوى ذكرياتها أو ذاكراتها المثقوبة، فإن الذاكرة وبما هي إحدى شواهد التاريخ، فهي وبصفتها تلك؛ تتشكل جماعيا لا فرديا كنتاج أعلى للوعي، الوعي الذي لا تختزنه العصبيات إلا من حيث كونه معينها الذي لا ينضب، كدلالة على تشوهاتها الإدراكية وقصور وغفوة رؤيتها للتاريخ، في محيط من صحوات وعي تاريخي بالذات وبالجماعة، كجماعة مختلفة عن حصريات التراكيب الأيديولوجية والقوموية. وإذا كان هنالك من يلتفت إلى الذكرى المجردة كونها تاريخ انبناء عصبية ما وسلطتها القهرية، فذلك للأسف بمفعول انتماء وانحياز إلى تلك العصبية، على حساب الانتماء إلى هوية ثقافية أو فكرية. ففي المجتمعات غير "السياسية"، تنأى السياسة عن أن تكون هي الحكم وشرط ممارسة السياسة، في شروط تتحكّم فيها طفرة أو طفرات العصبيات التي تبيح هيمنة الطوائف المتمذهبة وقواها المتلونة، على المشهد والفضاء العام، لتجمعات بدائية لا ترقى إلى مستوى الاجتماع الإنساني الذي يبلور اجتماعه على شكل مجتمعات، في إطارها أو منها ينطلق بناء الدولة /الأمة، من جماع اجتماع المواطنين وانتماءاتهم الواضحة وانحيازاتهم لهوية وطنية جامعة.

هذا هو منطلق أو مبتدأ اشتغال السياسة، بل الاشتغال في السياسة كأقنوم من أقانيم رفض النزوع التعصبي، وبغض وازدراء العصبيات البدائية، ومواجهة تغوّل الطوائف ومتمذهبيها الذين لا يجيدون في سلوكهم العملي سوى ممارسة اللا سياسة، بما عنى ويعني استقالتهم من الانتماء إلى هوية؛ الهوية الوطنية تحديدا، كما استقالتهم من الانتماء إلى دولة، الدولة الوطنية بشكل أكثر تحديدا، أي الدولة/الأمة التي لا يمكن التأسيس لمقوماتها الحقة، دون استناد إلى ذاك العقد المدني الاجتماعي، كأساس لتوافر فاعلية أقانيم المواطنية والحرية والديمقراطية والعلمانية، أي في انتمائها إلى حداثة عصرية ليست خليقة بالطوائف ومتمذهبيها.

وإذا لم نسع إلى تحويل العلمانية إلى قضية شعبية بامتياز، فقد نفقد معها إمكانية تطوير حراك ديمقراطي شعبي لا نخبوي، لازم وملازم لهما في سياق مجابهة تحديات اللاعقلانية والطغيان الاستبدادي والنزعات السلطوية السائدة في بلادنا، في كامل مجالات السياسة والاقتصاد والدين والثقافة، حيث يجري استهلاكها وتحويلها إلى أيديولوجيا، يعاد صياغتها وتحويلها إلى "أيقونات مقدسة" لا تمس ولا تناقش في إطار مجتمع أو مجتمعات الملل والنحل التي فرّخت وتفرّخ المزيد من تيارات دينوية لا إنسيّة، قتلت في الإنسان – إنسانها – روح الإبداع، بل روح الفعل الخلاّق، واستبقته أسيرا للنقل والتقليد والاجترار والتكرار، أي للبقاء عند حدود تباعدت حتى تقاربت ونهج في الأيديولوجيا نظّر لتوافقات هجينة، لا يمكنها أن تنتج أي مضامين معرفية، أو أي مستوى من مستويات الثقافة الحداثية العاملة في إطار مشروع كامل للعلمنة، كما تحتاجها بلادنا للخروج من أطر التخلف الذي دخلت به مراحل من الخضوع الكولونيالي لم تتخلص من آثارها بعد، كما كانت قد دخلت مراحل من الخضوع لأيديولوجيات الهيمنة البطركية - الدينية – بطوائفيتها وتمذهباتها المقيتة، التي ما فتئت تهيمن في فضاءاتنا وتتعايش معنا كظلنا.

وقبل أن يقودنا التعميم إلى انحيازات بعيدة عن نتاجات الحداثة العصرية الراهنة، ينبغي التأكيد على انحيازاتنا لمواطنة حقوقية وقانونية، نستوطن فيها ذواتنا ونستبطنها انحيازا إلى دولة وطنية؛ تجمع أشلاء القبائل والطوائف والعشائر والمذاهب في هوية وطنية جامعة، إحدى سماتها الأبرز تخلصها وتحررها من عصبيات وعصبويات ما قبل الدولة، قبل أن تصبح كينونة سلطات "الدول" القائمة قابلة للقسمة والعودة إلى المكونات البدائية – الأشلائية القديمة – المتجددة إياها، كلما ران على هذه البلاد تلك الهويات البيسماركية في توسلها العنف وسيلة للهدم، بدلا من تبني السياسة وسيلة للبناء، بناء ما يمكن من أبنية الواقع على حساب أوهام اليوتوبيا والطوبى على اختلافها، خصوصا تلك القائمة على قواعد خلاصية لا تاريخية ولا عقلانية.

لذا لا يمكن الاطمئنان إلى إمكانية قيام علمانية حقة في ظل سلطات استبدادية، ومجتمعات أهلوية معادية لها، أو متعادية حتى مع ذاتها وذواتها الأخرى، بل هي شرط قيام الدولة – الأمة، دولة المواطنين الأحرار، حتى قبل تحقق الدولة القومية – وفق النمط الأوروبي – حيث تم إخضاع المجتمع والمعارف والثقافات إلى عملية تعلمن كاملة، طالت حتى السلطات الفاعلة، الأمر الذي وحّد مجتمعات ودولها التي دخلت بمقتضاها أطر الحداثة التي تسعى مجتمعاتنا ودولنا في المستقبل، لتبنيها كنسق مستقل من أنساق تقدمنا وحداثتنا المعاصرة.

وكما كانت العلمانية وتكون شرطا لبناء الدولة، فهي شرط شارط لبناء مواطنة ذات بُعد اجتماعي وثقافي وسياسي، يتساوى أمام عقدها القانوني المدني والاجتماعي كل مواطني الأمة الذين تتشكل منهم الدولة، بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية أو العرقية أو الطائفية أو المذهبية و/ أو الطبقية. كذلك هي في تجادلها الحر مع العقلانية الراشدة، إنما تقوم مقام تجادل آخر بين الفكر والواقع، الفكر الذي يؤسس للواقع عبر عملية معرفية وعرفانية، تزيل حجب الأساطير وطبقات الخرافة التي جرى الزج بها في مواجهة العقل ونتاجاته. كل هذا من أجل إنتاج وعي بالواقع، يصقل أو يرفد وعيا آخر ينسجم أو يتطابق مع العقل الحداثي، الذي يحاكي حاجات وضرورات التطور والتقدم على كافة الأصعدة.

لهذا لا ينبغي التهيّب من نقد المقدسات، وما يشابهها وينسب نفسه لها من فقه الحافة، وكل تلك الركامات الأيديولوجية التي اعتبرت موازية لمقدسات يمكن نقدها بعقلانية فكر العلمنة الكامل، وإلاّ فلن يكون لدينا ما يمكن أن يقود إلى حداثة عصرية راهنة، تاريخية وشاملة، تنقل مجتمعاتنا من ضفاف التخلف، إلى الضفاف الأخرى التي تتوافر فيها إرادات اشتغال مناهج العقل النقدي، وهو يواصل انفتاحه على فكر وثقافة وفلسفة الإصلاح والتنوير، التي يتطلبها واقعنا الراهن؛ كإحدى الضرورات الأساس واجبة الحضور والكفاح من أجلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعقيب
أحمد عليان ( 2011 / 10 / 5 - 16:46 )
أحييك الأخ ماجد الشيخ..
و أعبر لك عن اعجابي بمضمون مقالك الذي حدد الهدف الأساسي من نشر الفكر العلماني المعبر عنه في قولك ؛- وإذا لم نسع إلى تحويل العلمانية إلى قضية شعبية بامتياز، فقد نفقد معها إمكانية تطوير حراك ديمقراطي
شعبي لا نخبوي
اخترت هذه الفكرة بالذات لأن الكثير من الاخوة المتحمسين للفكر العلماني يتجاهلون اهمية جعل العلمانية -قضية شعبية- ، و ذلك عندما يفضلون البدء بمنطلقات فلسفية و على رأسها اشتراط التخلي عن المعتقدات و المقدسات .
و في رأي و كما فهمت من مقالكم أن العلمانية لكي تكون- قضية شعبية - لابد أن تركز على ايجابيات النظام العلماني كمنهج في الحياة الدنيا يتحقق من خلاله تعايش مواطنين أحرار متساوين في الحقوق و الواجبات في شتى مناحي الحياة المدنية. و احتكام الجميع في كل ما يواجه هذا التعايش من عراقيل يعود الى العقل والضمير و العلوم الانسانية و مبادئ حقوق الانسان.. الخ
و خارج هذا الاجماع كل فرد حر في اعتقاداته الماورائية الغيبية الخاصة به أو بأهله و قومه...
دمتم بخير.

اخر الافلام

.. آلاف اليمنيين يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة


.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل




.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون


.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة




.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟