الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وبؤس اليسار الإصلاحي (2/1)

حسان خالد شاتيلا

2011 / 10 / 7
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية



"إن دزينة من البرامج التجريبية
لن تطبخ حتى طبق
واحد من العجة بالبيض".
(ف. إنجلز، نقد برنامج غوتا)

تُسجِّل ثورة الخامس عشر من آذار في سورية لحالات كثرٍ من الانقلاب المجتمعي السياسي الذي يغيَّر في المقام الأول في نمط المجتمع السياسي، العلاقات بين الأحزاب، موازين القوى الطبقية والسياسية، وأدوات ووسائل العمل في المجتمع بصورة عامة، وفي العلاقات ما بين القوى السياسية والطبقية بصورة خاصة، وعلى رأسها العمل الثوري من أجل تغيير السلطة والنظام السائد على حد سواء. تغيِّيرُ السلطة ونظامها الأمني معا، لأن الضرورة هنا تقتضي التنويه، طالما تلعب "هيئة التنسيق الوطني من أجل التغيير الوطني الديمقراطي" على الألفاظ، فتراها تخلط ببلاهة متعمَّدة بين إسقاط النظام وإسقاط نظام الأمن والاستبداد. إن هذه الهيئة الموقرة تخلط، على هذا النحو، بين الأمرين، حيث لا يتسع النظام من حيث هو نمط سياسي اقتصادي وطبقي، لأي تمييز كان بين السلطة من جهة، وإيديولوجية العنف والفساد التي تؤسٍّس له من جهة ثانية. ناهيكم وأن اليسار في سورية الملتف حول هذه الهيئة، وعلى رأسهم كتَّاب سياسة مخضرمين يدأبون في نشاطاتهم على التبرير لسياسة الحوار مع السلطة حسب مقولات الهيئة، لا يُعَرِّفُ هذا اليسار حتى اليوم طبيعة النظام من حيث تكوينه الطبقي، ويتجاهل أيضا عن قصد التكوين الطبقي ل/"العامة" "المتظاهرة"، و"المحتجة"، حسب تعريفات بعضهم، ويتنكر علاوة على ذلك على موقعها المنفعل والفاعل في العولمة الليبرالية والإمبريالية الجديدة . فكأن النظام ليس هو نفسه نظام الاستغلال الطبقي، العنف والفساد والنهب والاحتكار والاستبداد والظلم و"الانفتاح" الاقتصادي على العولمة النيوليبرالية. هذا الخلط يشكِّل أحد مميِّزات اليسار في سورية، وذلك لافتقاده لاستراتيجية ثورية، ولاستعاضته عنها بسياسة ليبرالية تجزِّء وتَفْصل بين الوقائع والمعطيات المادية والموضوعية، ذلك في ما يركن يسارنا باستسلام لسياسة التجريب والمنفعة السياسية العابرة.
ثورة ضد السلطة وأحزاب المجتمع السياسي
من أقوى هذه الحالات الانقلابية التي تجتاز تكوينات المجتمع السوري مع ثورة الخامس عشر من آذار ما يطرأ اليوم ما بين ليلة وضحاها على المسألة الكردية من تغيُّرات جوهرية. فالثورة أَخرَجَت، على سبيل المثال، وبين متغيِّرات كثرٍ غيرها يأتي الحديث عنها بصورة تفصيلية لاحقا، بالمسألة الكردية من مصنف "مشكلة الأقليات"، حيث كانت طوال العقود الماضية محتجزة فيها، لتعترف لأكراد سورية بهوِّيتهم القومية، وبالقومية الكردية. إن ثورة الخامس عشر من آذار بهذا المعنى ثورة جذرية بكل ما في الكلمة من معنى. فحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، على سبيل المثال، والذي يُعتبر أحد حراس القومية العربية في سورية، تَراه اليوم يعترف أن لأكراد سورية قومية كردية. هذا الاعتراف وغيره من متغيرات جوهرية يدلِّل بقوة أن الثورة في سورية تقلب المجتمع وعلاقاته وأنماطه رأسا على عقب. إن المجتمع السياسي في سورية الخامس عشر من آذار لا يمت بعد اليوم بصلة إلى سنوات الإصلاح العشر العجاف التي كان المجتمع السياسي القديم بقيادة "التجمع الوطني الديمقراطي"، "إعلان دمشق"، و"تجمع اليسار الماركسي"، ينام خلالها ملء جفونه بسكينة وطمأنينة بانتظار أن تسقط التفاحة من تلقاء نفسها على وقعٍ من النسمات الناعمة. بتعبير آخر: إن زمان الغفلة قد ولَّى وانتهى، لكن اليسار لم يصحُ بعد من غفوته التاريخية ليرى أن العاصفة اقتلعت الشجرة من جذورها، وأن الاخوان المسلمين والسلطة العسكرية البورجوازية المتحالفة مع البورجوازية التقليدية والمحافظة والاتحاد الأوروبي الرأسمالي والحلف الأطلسي وأردوغان أفندي يتسابقون لسرقة التفاح.
ثورة الخامس عشر من آذار تُسجَّل أيضا وأيضا لحالات من الثورة في النمط المجتمعي السياسي في سورية، ومنها نهاية الاستعصاء الذي يقي متحكما بالعلاقات السياسية في المجتمع السوري منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي. فتأسيس "إعلان دمشق" في العام 2005، وما تبع ذلك من خلافات كانت ترافق المجلس الوطني الأول لإعلان دمشق المنعقد في العام 2008، وكان انتهى إلى إعلان كل من الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، وحزب العمل الشيوعي، تجميد عضوية كل منها في إعلان دمشق، ثم انسحاب حزب العمل الشيوعي من إعلان دمشق في وقت لاحق، يؤرِّخ كل ذلك لعودة الحياة الطبيعية إلى المجتمع السياسي القديم أو الطبقة السياسية التي كانت نشأت ما بعد الاستقلال في العام 1946.
لكن ثورة الخامس عشر من آذار أَحرزت في مجال الاستعصاء وتفكُّكِه ما لم تحرزه الطبقة السياسية بالرغم من أن إعلان دمشق كان يشكِّل أول بادرة تنم عن تكسُّر قيود الاستعصاء أمام التفاف كل الشرائح السياسية للمجتمع في سورية من حوله. ذلك أن إعلان دمشق، وإن كان نجح في إعادة الحياة إلى المجتمع السياسي أو الطبقة السياسية، إلا أنه فشل في ردم الهوة العميقة التي كانت تفصل حتى يوم الرابع عشر من آذار ما بين التجمع الوطني الديمقراطي وإعلان دمشق من جهة، والمجتمع وقواه الشعبية من جهة ثانية. الثورة، بهذا المعنى، هي وحدها التي تُفيد بقوة أن السياسة قد عادت إلى المجتمع، أو أن المجتمع قد عاد إلى السياسة. ثورة الخامس عشر من آذار كَسَرَت الاستعصاء، وأنجزت ما لم تَنجح الطبقة السياسية القديمة عن إنجازه، ألا وهو انطلاق المجتمع بقواه الشعبية من عقاله بعدما كانت أحزاب التجمع والإعلان تحتجزه في عالم سياستها الإصلاحية التي استمرت فترة تزيد عن عشر سنوات من انتشار الفكر الإصلاحي الذي وَجَد مكانا واسعا لنفسه بين صفوف اليسار القديم.
سياسة الإصلاح هذه تُعْتَبَر اليوم رديفا للاستعصاء ومبررا إيديولوجيا له. هذه العقلية الإصلاحية المتحكِّمة تاريخيا باليسار السوري منذ نشأته في مطلع القرن الماضي، هي التي كانت في ظروف تسيطر عليها إيديولوجية العنف والفساد، تُقْفِل بإصلاحيتها المستديمة على العمل السياسي أقفالَها على المجتمع، وتَحُول، شأنها شأن السلطة الطاغية اللصة والمجرمة، دون انطلاقة القوى الشعبية من عقالها. إلى أن جاء الخامس عشر من آذار ليعلن عن ثورة القوى الشعبية ضد السلطة، وضد الإصلاح، بل وأن القوى الشعبية قفزت بثورتها ما فوق المجتمع السياسي العجوز، وتجاوزته نحو بناء سياسي جديد للمجتمع والدولة. فإذا ما كَسَرت الثورة الطوق وحَطَّمت الاستعصاء، فلأنها انطلقت متجاوزة المجتمع السياسي القديم. ولن تقوى قوة بعد اليوم على الإغلاق عليها من جديد أو أسرها في بوتقة الاستعصاء والإصلاح.
إن كل ثورة، على نقيض من الانقلاب العسكري وثورات القصور، تحمل معها مفاجآتها، ويتعذر على الثوار التنبؤ مسبقا أو بصورة قبلية بمستقبلها على صعيد الدولة والسلطة، وما تحمله معها المرحلة الانتقالية من انحرافات عن المسار المؤدي إلى أهداف الثورة. إن مستقبل الثورات مخالف دوما لبدايتها وماضيها القديم. إنها تطوي معها وهي على طريق السلطة مجازفات ومخاطر لا يُعرَف ولا يُحسًب عقباها. هذا على صعيد السلطة والدولة. حتى الثورة البلشفية لا تشذ عن هذا المسار المحفوف من كل جانب بالمجهول من التاريخ. فالسلطة الانتقالية وما يليها من دولة ثورية ليست أبدا، على سبيل المثال، صورة مطابقة لصورة لينين وماركس وإنجلز ولوكسمبورغ، إلخ، عن السلطة حسب صورة قبلية لها. ذلك أن السلطة الوليدة من الثورة، وما يسبقها من مسار يؤدي إلى الإطاحة بالنظام المجتمعي السياسي ونمط الانتاج الاقتصادي وإيديولوجية الدولة المنهارة، هو محصِّلة لمكونات اقتصادية مجتمعية لكل منها جدلها الزماني على حدة، وما بينها في الوقت نفسه جدل زماني واحد يجمع ويركب بينها، ويتعذر التحكم بها كما يَتَحَكَّم الكيمياوي بتمرينه المخبري وفق حسابات رقمية لحجم المواد الكيميائية المخبرية.
كل ثورة حالة فريدة ذات خصائص تنفرد بها، ولا يمكن ضبطها على نحو دقيق. إلا أن الثورة، وما تحمله معها من مجازفات ومفاجآت على طريقها إلى السلطة، كما خلال الإطاحة بالسلطة القديمة والتأسيس للدولة الثورية الجديدة، تنتهي دوما إلى نمط جديد من الدولة لا مثيل له في الماضي وفي العالم والتاريخ، ومختلف عن بداياتها. هذا على صعيد الدولة والمسار الثوري الذي يُفضي إلى الدولة. إن عنصر المفاجأة التاريخية متأتٍ من تعذر التنبؤ التاريخي الكامل من جراء اتساع مكوِّنات التاريخ التي تبقى مجهولة للوعي ما لم تَخرج من المجهول إلى حيِّز الواقع. فإذا ما انتقلت المكونات المادية للتاريخ إلى الواقع، ومرَّ وقت على التعرُّف عليها بالممارسة، ممارسة التغيير أو ممارسة الثورة، أي تغيير الواقع بالممارسة في ما يتغيُّر الوعي النظري وينضج تنظيميا ونظريا في الوقت نفسه وهو يُغيِّر الواقع، فإن الثورة تتقدَّم زمانيا وتنتقل عبر هذ الممارسة والصيرورة من العفوية الثورية إلى الوعي المنظَّم، من المجهول إلى الوعي النظري، ومن انعكاس الواقع وردود الوعي والممارسة في حالتهما العفوية، إلى الوعي المعرفي العلمي والعمل الحزبي المنظَّم للقوى الشعبية . إنها تنتقل، بهذا المعنى المادي التاريخي، المادية التاريخية من حيث هي نظرية الوعي والعمل عبر ممارسة تغيير الواقع وما يطرأ على الوعي من تغيُّر في ما هو يغيِّر الواقع، تنتقل من الثورة العفوية إلى الثورة المنظَّمَة الواعية. الأمر الذي يتجدَّد بالممارسة ويجدِّد الوعى النظري كل يوم، وليس مرة واحدة فقط. لذا، فإن الثورة وإن كانت مجهولة المستقبل ما دامت مادية التاريخ جدلية، والجدل التاريخي غير المنطق الصوري والوضعي لا يقاس بقوانينه المنطقية، وإنما بالمسافة الزمانية للتطور والتغيير والجدَّة والتجديد، فإن مستقبل الثورة وإن كان يسير على طريق مظلم ومجهول النهاية في ما يتعلق بالسلطة الانتقالية والدولة الثورية، إلا أن ما تُحْدِثُه الثورة من حالات ثورية في المجتمع يظهر من المجهول إلى المعلوم في الحيِّز المجتمعي بصورة أسرع مما يظهر عليه عبر جدله الزماني المحفوف بالمجهول والمخاطر على طريق السلطة.
ثورة الخامس عشر من آذار سَجَّلت حالات من الثورة المجتمعية التي قلبت المجتمع في سورية رأسا على عقب. فلقد تخطى الثوار الأحرار، وهم عصارة القوى الشعبية إن لم نقل "العامة"، المجتمع السياسي، وأَقبَلوا على الاعتراف بالقومية الكردية دونما تردُّد، وساروا فوق جثة التكوينات الإثنية الدينية. هذه هي للوهلة الأولى بعض من المميّزات الأولية لهذه الثورة من حيث هي ثورة مجتمعية سياسية بامتياز.
ثورة جاهزة أم ثورة سيارة ؟!
في هذا السياق المادي التاريخي للثورة في سورية، حيث الثورة المجتمعية في جدلها الزماني، أي في تطورها وما يطرأ عليها من تغيير وتحوُّلات، تتقدَّم على الاستيلاء على السلطة. في تقدُّمها هذا تصطدم بعقبة هي توجُّز اليسار في سورية شرا من الثورة. إنه غير مرتاح لها، إن لم يكن خائفا منها، وينشر الرعب منها في صفوف الثوار الأحرار والقوى الشعبية صاحبة الثورة، ويتوجس منها هلاكه وهلاك المجتمع السياسي القديم معها. لذا، فإنه يروَّج لفكرة مفادها أن الثورة - حسب ما تقول به هيئة التنسيق الوطني، قياديي الهيئة وكتَّابها المرموقين، وهم يقولون "الحركة الاحتجاجية" و"الانتفاضة" ولا يعترفون بالثورة حتى اليوم - تسير بسورية نحو "التهلكة". إن خطابهم نسخة طبق الأصل عن خطاب السلطة. فالعدوان الخارجي والحرب الأهلية – على حد قولهم – "خطران يحدقان بسورية". يجيبهم (الحكماء) المعارضون للسلطة منذ عقود أن السلطة هي وحدها المسؤولة عن هذه الأخطار. الطرفان، الأول كالثاني، وثالثهم السلطة يتبادلون خطابا واحدا أحدا بالرغم من أن المصدر الخطابي مثلث متباين الأضلاع. لكن الثورة، وقد دخلت شهرها السابع في منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، أجابت على هذا الخطاب بالممارسة، وليس بالقول. إن الحرب الأهلية، كما تبيِّن الوقائع، وَهْمٌ يسكن في العقول المريضة للمجتمع السياسي القديم، يمينه ويساره. العدوان الخارجي مرفوض مرفوض من جهة الثوار الأحرار، ومن كل واع يتعلم مما يجري في ليبيا والعراق وأفغانستان وباكستان والبلقان، أي في كل شبر يدوسه الحلف الأطلسي بجزمته تحت غطاء (زعبرة) اسمها منظمة الأمم المتحدة، أو بتحالف بين دول الاتحاد الأوروبي الرأسمالي وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية، يتعلَّم أن الاستنجاد بالخارج يعني في نهاية المطاف إجهاض الثورة، ليس غير.
ثورة الخامس عشر من آذار تدلل، وأول ما تدلل عليه، أن المجتمع السوري في ثورة، ويجتاز ثورة، وأنه يغيِّر في مكوناته السياسية والإيديولوجية وإن كان لا يمس بعد بالاقتصادية منها. أما خوف المجتمع السياسي من الثورة، فإنه يعود لأسباب متعددة، وذلك بالإضافة إلى خوفه من تجاوزها له وانبثاق قوى ثورية جديدة من صلبها. لعل أحد الأسباب وراء خوف اليسار من الثورة يعود إلى أن "أصول الماركسية" و"مبادئ "الماركسية اللينينية"، والمصطلحان من ابتكار إيديولوجية الدولة السوفييتية وستالين المثالي صاحب الكتاب المقدَّس لدولة الاشتراكية الواقعية "مبادئ الماركسية اللينينية". هذه الإيديولوجية المثالية التي كرَّست لمذهب منطقي اسمه "المادية الجدلية" وثنائية الماديتين التاريخية والجدلية، نزعت عن الثورات خصوصياتها المادية التاريخية وصبَّتها كالإسمنت المسلح في قالب منطقي وقوانين شمولية مجردة. إلى أن انتهى بها الأمر إلى علم للثورة الجاهزة يَفتح الطريق - وحري بنا أن نقول ويسد الطريق - أمام أجيال من الشيوعيين تتابعوا من نهاية العشرينات من القرن الماضي مخلِّفين حتى الآن تلامذة لهم مازالوا، هنا وهناك في العالم، يقودون الشيوعية حتى اليوم بعقلية ستالينية مثالية وميكانيكية في آن واحد.
على هذا المسار يظهر اليوم، من هؤلاء في سورية عدد من الرفاق الشيوعيين القياديين، وكل أولئك الذين ما فتئوا ينتظرون سقوط التفاحة من غصن الشجرة من تلقاء نفسها ما أن تتشكل البروليتاريا في مجتمع صناعي متقدم. لذا، فإنهم يعتقدون أن الظروف الراهنة لسورية ليست مهيأة للانتقال الاشتراكي. الأمر الذي ينفي، حسب هذا المنطق الجدلي المثالي، توفُّر الظروف الموضوعية للثورة الاشتراكية والثورة الوطنية الديمقراطية. بل، وأن تعاليم ستالين ونظرية "التطور اللارأسمالي" التي كان "العلماء السوفييت" استوحوا، من المذهب المنطقي الشامل والمجرد لستالين، نمطا للإنتاج يبرِّر كل الانقلابات العسكرية التي جاءت بالطبقات الوسطى وصغار الفلاحين عبر الجيوش إلى السلطة في بلدان الجنوب المتأخِّرة اقتصاديا والموالية لموسكو. هذه النظرية لقيت منهم ما بعد مرور عقود، ولاسيما ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وحائط برلين، رفضا حاسما قاطعا. إنهم يَعْتَبِرون أن الثورات الوطنية الديمقراطية وطريق التطور اللارأسمالي ما هي سوى انقلابات عسكرية بورجوازية انتهت إلى نمو البورجوازية الكومبرادورية وخيانة الطبقة العاملة وصغار الفلاحين والقوى الشعبية. حسناً هم يفعلون. ألا أن ما يفوتهم إلى هذا الحد من التحليل النقدي المادي أن البورجوازية الوطنية في عهد العولمة النيوليبرالية لا أثر لها اليوم في أية بقعة من بقاع العالم، ناهيكم وأن البورجوازية في البلدان المتحررة من الاستعمار بقيت وفيَّة ما بعد الاستقلال لعواصم البلدان الرأسمالية الصناعية ومرتبطة اقتصاديا وسياسيا بها. غير أنهم، وبالرغم من ذلك، فإنهم يتطلعون إلى الثورة الديمقراطية البورجوازية، ويعقدون الآمال العظام على ما يسمونه "البورجوازية الوطنية" لتصنيع البلاد بما يهيء الظروف الموضوعية لنشأة البروليتاريا الثورية، ومن ثم نشوء الثورة الاشتراكية، ويدحضون نظرية الثورة الوطنية الديمقراطية التي توَّجت البورجوازية البيروقراطية على مملكات الاقتصاد الريعي، الاستهلاكي، السياحي، العقاري، حيث يَحْتكر رأس المال ضباط الجيش، وتجار السوق، وأصحاب الصناعات التحويلية والكمالية، والسماسرة، ووكلاء الشركات الرأسمالية العالمية، إلخ وهلم دواليك من فعاليات اقتصادية لا هم لها سوى جمع أكبر حجم من رأس المال بأقصى سرعة وبأقل كلفة.
جان جاك روسو أم ماكسيمليان روبسبيير ؟
ثورة الخامس عشر من آذار إذن تشكِّل ثورة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ثورة في ثورة، ثورة من أجل الثورة، وثورة من الأفراح الحية والأعياد البهيجة قبل أن تكون ثورة من أجل السلطة. إنها تريد "إسقاط النظام، وإعدام الرئيس"، وترضى، حسب ما يُفهم من شعاراتها التي تدور حول الحرية والديمقراطية، وهي التي ما تزال تَفتَقِر حتى اليوم وبعد مرور أكثر من ستة شهور على انطلاقها إلى صورة ما للنظام البديل، تراها تكتفي باستمرار الثورة وسقوط النظام، أو أن تبقى الثورة ملكاً لها دون السلطة. فإذا كان اليسار "المخضرم" في سورية تمخَّض وهو في عقده التاسع (تعود نشأة الحركة الشيوعية في الشرق إلى العشرينات من القرن الماضي)، أو في العقد الأخير المنتهي ما بعد مرور فترة السنوات العشر من مرحلة الحلم الإصلاحي (2000- 2011)، عن إنجاب جان جاك روسو سوري، وابنه إميل الذي ينشأ ويعيش كالحياة الحرة في الطبيعة، فإن ثورة الخامس عشر من آذار تمخَّضت بالمقابل عن ولادة الثوري روبسبيير السوري الذي يتعلم أصول الثورة والسياسة الثورية من الممارسة الثورية، ولا يرتقي إلى معاني الثورة السياسية وسياسة الثورة إلا بالممارسة وما بعد الممارسة. فكيف لليسار السوري بعدما أصبح عددٌ من مثقفيه فلاسفة لحقوق الإنسان، ومن أبرزهم أنور البني الذي يفلسف الدولة السورية المقبلة فينزع عنها أي انتماء إيديولوجي (!!!)، مع أن كل دولة هي بامتياز رافعة الإيديولوجية، أن روبسبيير السوري هو غير الصورة البورجوازية التي تجعل من هذا القائد الثوري الفز "إرهابيا مرعباَ" و"أبَّا العنف"!!!. كيف ل/إيميل السوري الذي يعزل الفرد عن المجتمع حسب تفكير الحقوقيين وعلى رأسهم انور البني فيلسوف الفردية، أن يُدرك أن روبسبيير السوري يتعلم في أيامنا هذه السياسة والفكر السياسي بمعناه المادي، أي من حيث هو صراع طبقي، ونمط إنتاج اقتصادي، من الممارسة العفوية والمعركة التي تدور رحاها في الشارع السوري ما بين السلطة والثورة، ويتلقى الدروس السياسية في الممارسة والفكر كل يوم بالثورة ومن الثورة. وكان روبسبيير الفرنسي بدأ من الصفر أو من الجهل التام في شؤون العمل السياسي والفكر السياسي، بيد أنه انتهى من معاركه المجتمعية السياسية مع أهل السلطة والبورجوازية إلى أهم نتيجة في السياسة والفلسفة السياسية، ومؤداها أن السياسة والممارسة النضالية هي أم العلوم والمعارف. فالسياسة تستمد معارفها النظرية من الممارسة والاندماج بحالات الصراع الواقعية، وتتغير كما تتعلم معها ومنها، وليس من الفلسفة، والفلسفة السياسية.
ثورة الخامس عشر من آذار أقرب إلى روبسببير منها إلى روسو وطفله إيميل الذي ترفعه الطبيعة والحرية الطبيعية ما فوق الإيديولوجية ليبقى مجرد خيال متعشق للحرية. وكانت الحرية الطبيعية أسَّست، كما يؤسِّس اليوم أنور البني ونظرائه من يساريين قدامي ومرتدين، للحرية الفردية، للمجتمع المدني البورجوازي، ودولة القانون، و"المواطنية". إن ثورة الخامس عشر من آذار تتعلم في الوقت الراهن السياسة من حسابها الخاص أو بدماء شهداء الطبقات والقوى الشعبية. تتعلم، بيد أنها تُعَلِّم في الوقت نفسه هيئة التنسيق الوطني والاخوان المسلمين والليبراليين أن السياسة من حيث الممارسة، هي في الوقت نفسه مصدر للمعارف والعلم والنظريات.
القائلون اليوم في سورية بنظرية العقد الاجتماعي يتناسون عن عمد بلا شك، ما دامت ثقافتهم العالمية واسعة، أن هذا التعاقد وإن كان بَنى للثورة الفرنسية في العام 1789 وكان محركا لها، إلا أنه لم يجد طريقه إلى الساحة المدنية والسياسية لفرنسا إلا ما بعد الثورات العمالية في فرنسا وأوروبا في القرن التاسع عشر، وسقوط الملكية بعد مرور ثلاث سنوات على 14 تموز/8يوليو 1789، وزوال الإمبراطورية البونبارتية ومولد الجمهورية الفرنسية الثالثة في العام 1875 . مرَّ على هذا النحو حوالي القرن، من النصف الثاني لقرن الثامن عشر الذي شهد ولادة الثورة الفرنسية، إلى منتصف القرن التاسع عشر الذي كرَّس في الغرب الرأسمالي بصورة عامة، وفي فرنسا بصورة خاصة، لما تسميه الإيديولوجية البورجوازية "دولة القانون". فخلال مائة العام الأولى على عمر الثورة الفرنسية انهار النظام الجمهوري في فرنسا مرتين اثنتين، وسقطت ثلاث أنظمة ملكية دستورية، وأطيح بإمبراطوريتين اثنتين. دولة القانون في هذه البلدان، في كل مرة كانت فيها البورجوازية والسوق الرأسمالية خلال القرن العشرين تختنق، فإن البورجوازية تخلَّت عن دولة القانون وديمقراطيتها البورجوازية، وحلَّت محلها الدول الفاشية والنازية. فيشي في فرنسا، إيطاليا موسوليني، ألمانية الهتلرية، برتغال سالازار، وأسبانيا فرانكو، أمثلة ضئيلة من البلدان الصناعية الرأسمالية في أوروبا. فلنذكر أيضا أن العسكريتاريا هي التي طغت في القرن العشرين في أكثر بلدان العالم، منها دول وليدة كالبلدان العربية بلا استثناء، واليونان، وتركيا العساكر الموالين حتى اليوم للحلف الأطلسي، والدول الإفريقية قاطبة، على أن لا ننسى في هذا الإحصاء النسبي بلدان أمريكا الجنوبية.
لقد تخطت الثورة الفرنسية (1879- الجمهورية الثالثة 1875) وتطوراتها اللاحقة العقد الاجتماعي وفلسفة المجتمع المدني لصاحبيها روسو وهوبز، بيد أنها انتقلت إلى أكثرية مثقفينا وكتابنا عندما تخلى هؤلاء وأولئك عن السياسة المادية، والمادية التاريخية، حتى أن "الماركسيون" منهم يأخذون اليوم بجدية على ما يبدو بنظرية المجتمع المدني التي تضع الفرد الأحد محل الطبقة، وتعزل الفرد عن المجتمع. هذا عن حال هؤلاء وأولئك من معاصرينا. روبسبيير (1758- 1794) ( قانوني ومحام) قبل نحو ما يزيد عن قرنين اثنين يشبه حال "العامة" المعاصرة لنا، في ما يشبه أو يتشبَّه أهل الحقوق والقانون في مجتعنا بروسو وهوبز. روبسبيير، كان في مسعاه يبحث عن التأسيس لمجتمع العدل والمساواة الذي لم يجد معادلا موضوعيا له حتى اليوم لا في فرنسا ولا في أية دولة قانون بورجوازية في العالم . إن أنور البني وأمثاله لا يحصى عددهم بين مثقفينا اليوم. هؤلاء إذ هم يختارون العقد الاجتماعي دليلا لثورتهم، فلآنهم كالكشافة أو معمر القذافي يقرأون دليل الطريق ويسيرون عليه. أما روبسبيير، فإنه يكتشف أن القانون والتشريع غريب عن الواقع، لذا فإنه انخرط في اشد حالات "العنف الثوري" كي تكتسي المساواة الاجتماعية بين المواطنين بالمساواة من حيث الحرية والصوف والقطن والخبز والوقود والسكن والسلطة وتأمين حياة العامل وأسرته والترفيه والاستجمام. كي يكتسوا بقدر متساوٍ من حيث الكيفية والنوعية من هذه المكونات الحياتية الضرورية بضمانة من قوانين ودساتير وتشريعات كانت وما تزال معدومة. إذ إن القانون يساوي بين الأفراد من حيث هم متساوون في المطلق. روبسبيير قُتِل وهو على معرفة أن الثورة الفرنسية لم تبلغ إلى العدل والمساواة بالرغم من أنها ترفع هذه الشعارات وتنادي بها. ماتَ في ما كان القانون يحمي أصحاب الأملاك والملكيات الفردية، ويظلم من لا يملكون في الحياة سوى قوة عملهم. حق الملكية كالحرية يضمنه القانون المفارق للواقع، والذي يعلو على الواقع علو المثل العليا والقيم والمقولات المنطقية التي تخفي ما تحتها من استغلال وظلم. روبسبيير قُتِلَ لأنه كان يتوق إلى قانون مستمد من الثورة. الثورة السياسية حسب ما يراها هي أم العلوم والمعرفة. فالثورة وليس القانون وفلسفة القانون والاقتصاد السياسي وعلم السياسة هي التي تمد الانسان المجتمعي، وليس الإنسان الفرد، بالقانون الحي المادي المستمد من الإنتاج وقوة العمل والذي يضمن المساواة ضمانته للحرية. إن كل هذه الحالات الانسانية المجتمعية تغيب بصورة كاملة عن القاموس المقدَّس للحقوقيين السوريين وليسارهم.
ثورة الخامس عشر من آذار ستُأتي ليس فقط على أنصار روسو القائلين أن الدستور الجديد يقوم على أسس من العقد الاجتماعي والمواطنة والفرد الأحد، وإنما ستضم إليهم المثقفين من أصحاب النمط الفكري الجاهز والتقليعات الثقافية الجاهزة. أولئك الذين تنقلوا من غير ما عناء من الوجودية فالستالينية ثم الألسنية إلى البنيوية عبر مدرسة فرانكفورت، ليحطوا أخيرا، بعدما احتسوا حتى الثمالة ثقافاتهم من علم اجتماع الاثينات (إثنولوجيا) والاستشراق، وفي مدرستي روسو والفيلسوف البريطاني لوك . ثورتنا، إن لم تأتِ بجديد في مسائل القوميات، العربية والكردية والأمازيغية والاشورية وغيرها، وفي التشريع الدستوري للقوانين، وفي الحقوق المدنية والجزائية، إن لم تُغْلِق ثورتنا على العسكر في ثكناته وتحرَّم عليهم التجوال في المدن والبلدات، إن هي لم تَدْفُن الإثنيات الدينية التي ما تزال تجد في مؤتمرات السوريين في اسطنبول وغيرها متسعا من المكان في مشاريع دساتير الدولة السورية المقبلة التي تُتَداول في هذه المجالس بين فلاسفة القانون وحقوق الإنسان في سورية، إن لم تُنجز كل هذه الحالات التاريخية والمكونات الاقتصادية الاجتماعية، فإنها ستؤول إلى ثورة مُجهَضَة. هذه الثورة، إما أن تأتينا بتكوين إيديولوجي جديد من دستور وقوانين وتشريعات وسلطات، بعدما تكون علمتنا أن الثورة تهشم كل ما هو قديم وتبني من المجهول كل ما هو جديد، أو ما هو جديد مما كان حتى وقت قريب مجهولا، وإما ستنتهي تحت لفَّات المشايخ وتحت أحزمة الجيش وفي جيوب الرأسمالية العالمية.
يسار سياسي جداً جداً ومنحرف للغاية عن السياسة المادية
خطاب اليسار في سورية يقوم حسب ما يتبيَّن من المجلس الأول لهيئة التنسيق الوطنية على أسس من اللاءات الثلاث. لا للعنف، لا للطائفية، ولا للتدخل الأجنبي. إنه يُقْدِمُ على هذا النحو على الخطوة الأولى الضرورية لحماية الثورة التي لا تجد لنفسها اسما في بياناته وبلاغاته ما دام يمعن في تسميتها "حركة احتجاجية" و"انتفاضة". ثم يترك الثورة بعد ذلك لحالها نهبا، على نقيض ما يُعلِن في رفضه الثلاثي، لجماعة الاخوان المسلمين، وآل سعود، وأمير قطر الساهر على أعظم قاعدة أمريكية في الخليج العربي، والطائفيين والطامحين إلى نهب ثروات سورية الاقتصادية وكنزها الاستراتيجي في المشرق العربي. تركيا التي تتطلع إلى توسيع نفوذها في المنطقة من أجل مشاركة الاتحاد الأوروبي الرأسمالي صفة العضوية في هذا الاتحاد المشترك للرأسماليين الأوروبيين، والحلف الأطلسي أداة الإمبريالية الحربية التي تريد تذويب الشاطئ الجنوبي لبحر الأبيض المتوسط في العولمة النيوليبرالية، وتنحية إيران جانبا من سورية والعراق ولبنان وفلسطين. تركيا التي تريد أن تسيطر على العرب. إن اليسار، باختصار شديد، إذ هو يعزف عن زج نفسه بقوة في الثورة مكتفيا بثلاثية الرفض إياها، ولا يضع ثورة الخامس عشر من آذار في قلب العولمة والإمبريالية، فإنه ينحِّي نفسَه عن مسار الثورة، ويتفيأ في ظل السلطة بانتظار ما تقدِّمه من تتازلات إصلاحية وشكلية للقوى الشعبية.
لنلاحظ أن الأحزاب المنضوية تحت راية هيئة التنسيق الوطنية، وعلى رأسها النادي الثقافي "تجمع اليسار الماركسي"، تَفْصُل في مقاربتها للحالة السورية سورية عن العولمة النيوليبرالية، وتسلخها عن سياسة الإمبريالية الجديدة وما تدبِّره أمريكا وأوروبا الرأسمالية من حروب متخفية وراء شتى أنواع المسميات، ومنها ذاك التشريع الدولي ذائع الصيت في أيامنا هذه :"التدخل لأسباب إنسانية"،. ما ذلك كله سوى لتذويب السوق والسياسة العربية في السوق العالمية الرأسمالية التي لن تجد مخرجا لها من أزمتها ما لم تبتلع، كما هو الحال – على سبيل المثال - في العراق وليبيا، ثرواتها وتجعل من الوطن العربي سوقا رخيصة لليد العاملة، ومجتمعات لاستهلال صادراتها، وحقلا لاستثماراتها بأرخص أسعار اليد العاملة للزراعة والصناعة التحويلية الخفيفة. حلم الرأسمالية المعولمة اليوم هي أن يصبح حوض البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات المقبلة منطقة حرة. سورية بعد هذه السنوات الطوال منطقة حرة !! إن مقاربة اليسار للحالة السورية مقاربةً تجزيئية بعيدة عن حالة عالمنا المعاصر تنتهي هكذا مقاربة إلى الغوص به ما تحت السلطة العائمة فوق سطح مستنقع من القمامات الرأسمالية، المحلية والعالمية. لذا، ولما كان هذا اليسار لا يرى سورية من حيث هي مستهدفة من السياسية النيوليبرالية في العالم، بل وإنه يعزلها عن الأزمة الرأسمالية العالمية في الوقت الراهن، فإنه يعمى عن رؤية التكوين الطبقي، ليس فقط لسلطة التحالف بين البورجوازيتين العسكرية من النمط الشرقي، والتقليدية المحافظة، وإنما يعمى علاوة على ذلك عن التكوين الطبقي لثورة الخامس عشر من آذار الشعبية. تعريف هذه السلطة بالمستبدة والإرهابية غير كاف للإلمام بشفافية مادية بالحقيقة الطبقية للنظام، وحقيقة ارتباطاته بالرأسمالية العالمية. هذا اليسار لا يرى، حسب ما تشهد على ذلك وثائقه المنشورة طوال ما يزيد عن الستة أشهر من تاريخ الثورة، الصراع الطبقي المحتدم في سورية ما بين السلطة والقوى الشعبية، وما بين الثوار الأحرار واللصوص السوريين والإقليميين والعالميين، لا تراه ولا تشير إليه ولا حتى على وجه التلميح.
بؤس اليسار في سورية. بؤس متأت من انحراف اليسار عن المادية، والمادية السياسية بصورة عامة، ونحو شتى أنواع التيارات الليبرالية السياسية، من تجريبية، ونفعية أو براغمائية، وكلاسيكية. هكذا يسار ينتهي به الانحراف عن المادية السياسية أو السياسة المادية إلى انتهاج سياسة ليبرالية براغمائية وتجريبية في ما هو ما يزال ستالينيا في ما يتعلق بالتصنيفات المنطقية للمراحل التاريخية. على هذا النحو، يختار اليسار السوري "الماركسي" المنطق على التاريخ الحي، أو يقع بصره على صورة عن سورية وظلها، فلا يشاهد الأشجار الخضراء لثورة الخامس عشر من آذار وقد نبتت في كل مكان بعدما سقاها اصحاب الدخل المحدود وحلفاؤهم من بروليتاريا رثة أو عامة وشرائح مُفْقَرَة من الطبقة الوسطى بدمائهم وعرق كدِّهم وعملهم. هيهات لهذا اليسار الذي يقيس موازين القوى بمعايير نفعية أن يميِّز في استراتيجيته، بافتراض أن لديه استراتيجية، بين الطبقة الحاكمة المُسْتَغِلَّة والطبقات الشعبية المُسْتَغَلَّة.
إن أعلى سقف لمطالب اليسار في سورية اليوم هي الحريات السياسية العامة والديمقراطية. هذا يدلِّل إن يسارنا المعذَّب الملاحق والمنكَّل به، يفتقد إلى الاستراتيجية الثورية. سياسته على هذا النحو مُفْرَغَة من أي مضمون سياسي مادي، اقتصادي اجتماعي. إن شاغله الشاغل في ذهابه وإيابه، إذا ما راح وعاد، يتردَّد ما بين حدَّين اثنين تحت أعلى سقف له. النأي بسورية عن "التهلكة لا سمح الله"، والإصلاحِ الاصلاحٍ الإصلاح. فلقد سقط سهوا أو عمدا من قاموس لغته السياسية عبارات "التكوين الاقتصادي المجتمعي"، أي علاقات الإنتاج، وقوى الإنتاج، وأدوات الإنتاج، وما يؤدي إليه نمط الإنتاج الرأسمالي، من حيث التنظيم السياسي والإيديولوجي للمجتمع، من تكوينات جديدة للحالات التاريخية للصراع الطبقى والتنظيم السياسي للقوى الشعبية، إلخ. لذا، فإنك ترى واحدهم يتشاطر في الدفاع عن نفسه فيزعم أنه "يمارس السياسة"، وأن اليساري من دون ذلك، أي من كان يساريا ويرفض البرغمائية السياسية، فإنه متَّهم على لسانهم بأنه "إيديولوجي"!!. ماكيافيللي، مثالهم الأعلى في السياسة، هو أعظم عبقري سياسي ليبرالي أرسى للإيديولوجية البراغمائية، علم الدسائس والمؤامرات، والحسابات المؤقته والعابرة لموازين القوى بين القوى السياسية والمجتمعية. هذه الإيديولوجية الليبرالية لم تعف أي قائد سياسي ليبرالي من السقوط على إثر اصطدامه بجدار الصراع الطبقي القومي والعالمي، والحركات الاجتماعية والنقابية.
إلى ذلك، فإن ثورة الخامس عشر من آذار لن تصل إلى إسقاط النظام وتشييد جمهورية الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة والتنمية بأفق اشتراكي متوسط البعد أو بعيد المدى ما لم تصير الثورة صيرورتها وتَخْرُج ُمنتصرة من صراعاتها مع النظام البورجوازي الاستبدادي من جهة، وأعداء الثورة من جهة ثانية. لكنها بالمقابل مرشَّحة للإجهاض من قِبل اليسار العتيد والبورجوازية السلطوية والتقليدية المحافظة، والرأسمالية العالمية وصنيعتها تركيا. مرشَّحة للإجهاض من هؤلاء وأولئك ما لم ينصرف اليسار في سورية عن مقاربته للثورة بصورة سلبية، لا، لا، ولا، فيزيد على ثلاثية الرفض لا للحكم العسكري. ليستعيض إذن عن هذه السلبية بنعم للمطالب المعيشية للقوى الشعبية، نعم للجان الثورية في الحارات والمدن والبلدات والقرى والمعامل، نعم للمجالس الثورية في كل مكان، نعم للصراع الطبقي، نعم لإسقاط النظام وليس "نظام الاستبداد والعنف" فقط لا غير، ثم نعم للسلطات البديلة والديمقراطيات الواسعة، نعم للمقاومة الشعبية ضد الصهيونية وتركيا الأطلسية، وأخيرا وليس آخرا نعم للثورة وللاستراتيجية الثورية التي تبدأ بتعريف النمط البورجوازي للطبقة الحاكمة المستَغِلَّة، وتعريف أصحاب الثورة من طبقات شعبية محرومة، مستغَلَّة، مظلومة، مفقرة، جائعة، وعاطلة عن العمل. ما لم يأخذ يسارنا بمثل هذه الاستراتيجية الثورية، أو ما لم يبزغ يسار جديد وعلى وجه السرعة من صلب الثورة، فإن يوم الخامس عشر من آذار سيؤول في ذاكرة الشعب في سورية إلى يوم أسود.
ثورة شعبية على خطا من إيديولوجية ليبرالية !!
الثوار الأحرار في سورية يخوضون حربا غير مسلَّحة ضد إيديولوجية العنف والفساد التي تسود حتى اليوم برعاية من سلطة الأجهزة التي ألغت حزب البعث منذ نحَّاه الجنرال أسد جانبا، يدفعه في ذلك حبه لشخصه "كقائد" قومي للعرب، وما كان وما يزال يرافق ذلك كله من ترجيح لعقيدة عبادة الفرد، وانتشار للفساد، وسيطرة البورجوازية العسكرية بالتحالف مع بورجوازية السوق ورجال الأعمال على الاقتصاد، وذلك على حساب القطاع العام الذي يُنهَب من هؤلاء وأولئك بعدما أصبح في خدمة القطاع الخاص الصناعي والتجاري. ثورة الخامس عشر من آذار، كثورتي تونس ومصر، بالرغم من أن نمط الإنتاج الرأسمالي وتجلياته المافياوية البيروقراطية في سورية، كما في هذين البلدين، هي أحد الأسباب الرئيسة وراء الثورات العربية، إلا أنها تهدف في الظاهر إلى تغيير التشريع والقانون والحقوق والدستور وسلطات الدولة دون أن تمس، حسب ما يتبيَّن من الشعارات الطاغية في ثورة الخامس عشر من آذار في سورية، بنمط الإنتاج الرأسمالي. بل وإنها أَهمَلَت ما كانت تَرفَعه لدى بدء الثورة من شعارات تطالب بمحاربة الفساد بعدما تقدَّم، على كل ما سواه من هتافات ويافطات، شعار "الثورة تريد إسقاط النظام وإعدام رئيسه بشار أسد". فإذا كانت الثورة في مرحلتها الراهنة ذات طبيعة إيديولوجية وثيقة الصلة بمؤسسات الدولة القانونية والدستورية، وتبدو في ظاهر الأمور باعتبارها ثورة الحرية والديمقراطية والكرامة، فلأن الثوار الأحرار يتطلعون إلى فرض العدل والمساواة والعدالة بالقانون والتشريع كيما يحوزوا في الدولة الوطنية الديمقراطية بالسلطة بالطرق الديمقراطية من أجل تشريعات تحميهم من البورجوازية العسكرية وكل ما يرافقها من فساد وعنف ونهب وظلم. أي التحكُّم بنمط الإنتاج وتوجيه الاقتصاد الليبرالي، أو نمط الإنتاج الرأسمالي، بما يستجيب للمطالب المعيشية والحياتية للجماهير الشعبية، وذلك في ظل ديمقراطية تحمي الشعب من طاغوت السلطة والمال المرتبط بالحكم السياسي. بتعبير آخر، وبإيجاز شديد: إن الجماهير الشعبية في سورية تخوض ثورة لانتزاع حقوقها كقوى عاملة وأصحاب الدخل المحدود على خطا السياسة الإيديولوجية للبورجوازية الليبرالية.
لكن هذا الشعب المُفْقَر والجائع والمظلوم ليس وحده من يريد التخلُّص من التحالف الحاكم للبورجوازيتين العسكرية والتقليدية. إذ إن شرائح من تحالف البورجوازية العسكرية والتقليدية تتطلع بدورها أيضا إلى إصلاحات إيديولوجية تنسجم بصورة أفضل مع تراكم رأس المال خلال السنوات الأخيرة من السلطة المستبِدَّة، وتريد أيضاً أن تدفع بالاقتصاد السوري نحو السوق الرأسمالية العالمية. نحن هنا أمام تقنين وتنظيم جديد للرأسمالية التي تتحفَّز للاستفادة من الثورة، إن لم يكن سرقتها. تقنين للرأسمالية لا يعدو كونه انتقال من رأسمالية متوحشة إلى أخرى مُقنَّنة، تزعم أنها إذ توسِّع في سوق اليد العاملة ، فإنها تُفيد، على هذا النحو، ليس فقط الأكثرية المُفقرة والجائعة من الشعب في سورية، بل تستجيب أيضا، وعلاوة على ذلك، إلى مطالب شرائح من البورجوازيتين السلطوية والتقليدية التي تتطلع في ظروف العولمة النيوليبرالية إلى قوانين ودستور وتشريعات وسلطات توفِّر الأمن والسلامة للرأسمالية وتحميها قانونيا ودستوريا، وتُقدِّم لها كل ما يَكْفَل إيديولوجيا، توسيع العلاقات الرأسمالية، وضمان تراكم رأس المال في ظل "دولة القانون". من هؤلاء من يرى أن دستور الجنرال أسد قد شاخ ولم يعد يلبي ما تفرضه العولمة النيوليبرالية من حريات اقتصادية واسعة، وتشريعات قانونية تضمن الحريات السياسية والدستورية لرأس المال العالمي والمحلي، بحيث يتسع توازع رأس المال وترتفع قيمة أرباحه في ظل إيديولوجية الحرية والديمقراطية. أي أن التحالف بين البورجوازيتين العسكرية والتقليدية تتأهب لسرقة الثورة من الطبقات الشعبية بعدما تُذَوِّبُها – هكذا يخيَّل إليها – في مخدِّرات الدين والميتافيزيقا والنفعية السياسية، وباختصار شديد في أيديولوجيتها البورجوازية. إن الانقلاب العسكري شبه الديكتاتوي، شبه الديمقراطي، البورجوازي الموالي للإمبريالية، المهادن للصهيونية، المعادي للمقاومة، المشرئب العنق نحو الاندماج بالعولمة النيوليبرالية، يخيم على سورية منذ اليوم الذي غادر فيه نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدَّام السلطة، وانتقل بمقر إقامته من دمشق إلى شارع فوش بباريس.
في ضوء ذلك، فإن السياق العام لمسار ثورة الخامس عشر من آذار، وما سيَلحَق بالمؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية للدولة من تغيير في المرحلة الانتقالية وما بعدها، تَتَغلَّب فيه الإيديولوجية الليبرالية على أية لمسات جوهرية تَلحَق بنمط الإنتاج الرأسمالي. إلا أن الجوع والفقر والظلم بوجهيه المجتمعي والسياسي لن يَلبَث أن يكتشف أن الإيديولوجية الليبرالية التي حلَّت محل إيديولوجية العنف وقادت ثورة المُسْتَغَلَّين المظلومين لن تلبي احتياجات الشعب المعيشية، من أسعار البضائع وأجور العمل، واحتياجاته الحياتية من تأمينات صحية ومجتمعية تعليمية وصحية، وغير ذلك مما يحتاجه أصحاب الدخل المحدود والقوى العاملة وصغار الفلاحين، من تأمينات تكفل لهم مستقبل أسرهم. لذا، فإن الصراع على السلطة بين أصحاب الدخل المحدود والقوى العاملة، من جهة، والبورجوازية من جهة ثانية، لن يلبث أن يظهر ما أن تبدأ المرحلة الانتقالية، أو ما أن ترحل الأسرة الحاكمة وأعوانها وأزلامها من رجال أعمال وصناعيين وتجار ووكلاء الذين استفادوا بدون حدود من إيديولوجية العنف التي حلت محل سلطات الدولة بصورة عامة، والقضاء والقانون بصورة خاصة.
إن الطبقات الشعبية التي تشكِّل أكثرية الشعب، وإن كانت لا تدركُ اليوم، من جراء افتقادها للقيادة اليسارية الثورية، أنها سوف تترك للبورجوازية حريات اقتصادية واسعة طالما تصونها الإيديولوجية الليبرالية السائدة خلال المرحلة الانتقالية، إلا أن هذه الطبقات الشعبية لن تلبث، بالمقابل، أن تشهد ظهور القيادة اليسارية الجديدة من أحشائها خلال الشهور القادمة. الأمر الذي يشجِّع خلال المرحلة الانتقالية الطبقات الشعبية على النضال من أجل ممارسة الحكم بنفسها عبر المؤسسات السياسية، بحيث توجَّه الاقتصاد وتخطِّط له بما يلبي احتياجات الشعب، والنمو الوطني للاقتصاد، وتصنيع التصنيع، فيَحُول بالتالي دون أن تضع البورجوازية يدها على الاقتصاد والسياسة معا. بتعبير آخر، إن ثورة الخامس عشر من آذار التي تتميَّز بالتطور العميق من حيث تكوينها الاقتصادي المجتمعي والمجتمعي السياسي مرشَّحة لتطور لاحق يسير في منحى من الصراع بين الطبقات الشعبية والبورجوازية من أجل الفوز بالسلطة السياسية من أجل الجمع ما بين الديمقراطيتين السياسية والاجتماعية، وإن كانت البورجوازية ستحظى خلال المرحلة المقبلة من تاريخ الثورة بحريات واسعة تحت سلطة اليسار. هذا كله ممكن وممتنع معا، ويتوقف أول ما يتوقف على انبثاق يسار ثوري جديد من صلب الثورة.
هذا يعني أن السلطة التي تمثِّل أصحاب الدخل المحدود والقوى العاملة وصغار الفلاحين والبروليتاريا الرثة والشرائح المُفْقَرَة من الطبقات الوسطى، والتي تفوز بالسلطة عبر صناديق الاقتراع، إذ هي تُطلِق الحرية واسعة لرأس المال، فإنها بالمقابل، من حيث هي تشكِّل الأكثرية التشريعية والتنفيذية، تمارس ديمقراطية أوسع من الديمقراطية الليبرالية من حيث السلطات المباشرة الممنوحة للشعب، وتخطِّط لإعادة تنظيم الاقتصاد الوطني من أجل التأسيس لاقتصاد إنتاجي يطوِّر الصناعة الثقيلة، صناعة التصنيع، من أجل الانتقال من اقتصاد الصناعات التحويلية والتركيبية والكمالية، اقتصاد الخدمات والسياحة، أو الاقتصاد الريعي، إلى تصنيع الآلات الصناعية نفسها، وتنفيذ المشاريع الاقتصادية التي تلبِّي الاحتياجات الحيوية للشعب. فإذا لم يأخذ اليسار دوره من الآن في تنظيم الثورة ميدانيا وفكريا وفق استراتيجية ثورية، فإن البورجوازية التي تَتُوق إلى الاندماج بالعولمة النيوليبرالية بصورة أوسع وأعمق مما كان يحصل في المرحلتين الراهنة والسابقة، فإن التحالف البورجوازي العسكري والتقليدي، هو الذي ستسيطر على السياسة والاقتصاد معا. الأمر الذي يُملي على اليسار بصورة عامة، و"هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني الديمقراطي في سورية" بصورة خاصة، أن يتخلى عن لغة الحوار مع السلطة بصورة نهائية وقاطعة، لا سيما وأن شرائح من تحالف البورجوازية العسكرية والقديمة تتجاوز في تطلعاتها سياسة هذا اليسار من حيث توقها إلى دستور جديد يلبي مصالحها الاستغلالية المتطورة. لاسيما أيضا وأن هذا التحالف لن يوفِّر جهدا لسرقة الثورة من أصحابها ليستفيد منها أعظم استفادة، بحيث يفوز بالاقتصاد والسياسة معا، فيؤسِّس لإيديولوجية ليبرالية تَخْلُف إيديولوجية العنف التي كانت تسود في عهد تكوين البورجوازية العسكرية، ويرمي أيضا باقتصاد سورية في صلب السوق الرأسمالية العالمية والعولمة النيوليبرالية التي ستنهب الاقتصاد الوطني والثروة البشرية حتى أخر فلاح فقير. إن هذه المعطيات المادية والموضوعية للثورة الشعبية في سورية تحتاج كيما تقف على قدميها بصلابة، وتبلغ أهدافها الظاهرة والباطنة، الكرامة في ظل الحرية والديمقراطية، والازدهار والنمو في ظروف حكومة يسارية تقود البلاد ديمقراطيا على طريق الازدهار والنمو، تحتاج من أجل ذلك كله إلى يسار يحمل على كتفيه منذ اليوم الأول للثورة مطالب الشعب المعيشية والحياتية.
الثورة مستمرة حتى ما بعد المرحلة الانتقالية
ستة أشهر ونيف وما تزال الثورة الشعبية في بداياتها، طالما أن موازين القوى العسكرية بين الثوار الأحرار والعسكر مختلة لصالح السلطة اختلالا يُرجِّح كفة الأجهزة السلطوية بفضل ما تحمله من أوزان الأسلحة المُثقَلَة بإيديولوجية العنف والفساد، وأموال تتراكم في جيوب التحالف البورجوازي العسكري التقليدي، على كفة الثورة السورية. هذه الثورة التي ما تزال تَحْمِل خصوصيات أصيلة فيها، فإنها ما تزال، بالمقابل، غير قادرة على ترجيح موازين القوى لصالح الجماهير الشعبية والثوار الأحرار. أصالتها هذه تكمن في عفويتها التي طالت واستمرت دون أن يُقضى عليها من جراء غياب القيادة، وتصارع قوى المجتمع السياسي القديم، وخيانة حراس اليسار التقليدي لها بعدما تركوا باب الحوار مع السلطة مشرعا على دفتيه. أصالتها متأتية لها، وفي محتواها، من صمودها حتى الآن لإغراءات تدخل تركي أطلسي لإسقاط النظام. أو هي أصالة مثيرة للدهشة طالما تَحْمِل الثورة من المفاجآت التي تُفنِّد العقلية الطائفية، ما يندى له جبين مثقفينا الكبار وقادتنا السياسيين، يمينيين ويساريين على حد سواء، والذين نقلوا وروَّجوا عن علم اجتماع الإثنيات لصاحبه مرسيل موس، والبنيوية الساكنة لليفي ستراوس، ما تعلٌّموه من هذين الأخيرين. فلقد بيَّنت القوى الشعبية منذ اليوم الأول للثورة أن المجتمع السوري ليس مكونات من الفسيفساء الإثنية الدينية. وكان برهان غليون في عمل له بعنوان "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، الصادر في مطلع النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، من أوائل الذين ألغوا الحركات الاجتماعية والصراع الطبقي وحروب التحرر الوطني، عن المجتمع، ووضع مكانه فسيفساء ساكنة من الإثنيات الدينية والقومية. إن المجتمع السوري بخلاف علم اجتماع الإثنيات البورجوازي الاستعماري الذي ينفي عن المجتمعات المتأخرة صناعيا ورأسماليا مكونات التاريخ عنها، من صراع طبقي، وثورات التحرر الوطني، والوحدة القومية، والتضامن الأممي،، كان توحد منذ انفكت "الأكثرية السنية" في بلاد الشام والجزيرة العربية عن "الأكثرية" السنية في الإمبراطورية العثمانية. القومية والتحرر الوطني هما اللذان فكَّكا ليس فقط الإثنية ما بين الطوائف، وإنما فككا علاوة عن ذلك الطائفة الواحدة. ثم جاءت المشانق التي عُلِّقَت لأبطال الثورات العربية ضد الغثمانيين لتصهر الطوائف في الحركات القومية والتحررية. أولم يُقبِل مثقفونا في الخمسينات من القرن العشرين أفواجا أفواجا على منظمة أنصار السلام من أجل التضامن مع معركة التحرر الوطني لشعوب جنوب شرقي آسيا. ناهيكم وناهيكم عن العاميات والثورات المعادية للعثمانيين والاستعمار ومناهضة الأحلاف والمشاركة في سياسة الحياد الإيجابي والصداقة مع البلدان الاشتراكية ومقاومة إسرائيل وحروب المخيمات وأيلول الأسود...
مفاجأة تلوى المفاجأة. فطوائف المسلمين لم تتقاتل بالرغم من أن حرس اليسار القديم وغيره من أدعياء الدين والليبرالية يُلوَّحون بها، تارة لإرهاب السلطة، وتارة أخرى لتخويف الشعب من الثورة. مفاجأة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهي أن أ الأمة الكردية نسيت مطالبها القومية في سورية، واندمجت بمعاصريها من العرب وغيرهم عبر التاريخ. بل، وإن من خصوصيات ثورة الخامس عشر من آذار في سورية أن العفوية الثورية التي ما تزال تلازمها لم تنقلب إلى حرب أهلية وتدخًّل خارجي بالرغم من أن الأجهزة الحاكمة تحاول إشعال فتيل الفتنة الطائفية في البلاد، والفصل ما بين العرب والأكراد، واستفزاز القوى الخارجية لاستدراجها نحو التدخل العسكري.
لقد مَنَحَت العفوية الثورية للجماهير، بالرغم من أن الثورة، أية ثورة، ما لم تنتقل من العفوية إلى الوعي والعمل المنظّم تبقى عرضة للاندثار من جراء الثورة المضادة، الطابور الخامس، أو قمع السلطة لها، مَنَحَت هذه العفوية الثورية، بسبب من الأصالة السياسية للثورة، قوة على مقاومة الأخطار التي تهدِّد بجرفها نحو شتى أنواع الانحرافات العقائدية وغيرها، ولم تتمكِّن منها بحيث تخبو شعلتها أو تنساق وراء تحريضات دموية قاتلة. هذه الأصالة ليست إرثا ثقافيا، أو صفات لبيولوجيا وراثية تتناقلها أجيال من عرق سوري مفترض في ما بينها، أو ذات صلة بالدين والقومية. إنها هي نفسها الواقع الحي المعاش. هذا الواقع ليس آنيا أو عارضا أو حتى زائلا. إن له تاريخ. تاريخه يعود بالإصالة إلى الثورة العربية الكبرى وبدايات الحركة القومية في مطلع القرن العشرين. ثم يعرِّج هذا الواقع التاريخي على الثورات السورية ضد الانتداب الفرنسي، فالمشاركة بحرب 1948 في فلسطين. ثم مناهضة الأحلاف الاستعمارية في الخمسينات من القرن الماضي. أصالة الثورة في سورية اليوم ترجع إلى العاميات في القرن التاسع عشر والتي تؤرِّخ لبدء الصراعات المجتمعية-السياسية-الاقتصادية في عهد الانتقال من الاقطاع إلى البورجوازية ذات الصلات الحميمة في حينه مع قنصليات البلدان الرأسمالية في بيروت، وهي وثيقة الصلة بوحدة الشعبين المصري والسوري في العام 1958. السوريون، هذا شعب من أمة وأمم متعاصرة، عرب وأكراد وأمازيغ وآشوريون وأرمن وشركس.. أمة ذو تاريخ من النضالات التي قطعت الصلة مع الإثنيات منذ اتساع العلاقات الرأسمالية في منتصف القرن التاسع عشر، وحتى الصِدام مع العولمة النيوليبرالية.
بيد أن الانفصال الأسود بين سورية ومصر في العام 1961 يُسجِّل لبداية مرحلة طويلة من قمع الوعي. فإذا كانت الطبقات الشعبية في سورية شاركت، في الستينات من القرن الماضي وحتى تاريخ استيلاء الجنرال أسد على السلطة في مطلع السبعينات، بالمقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها، إلا أن الاستبداد العسكري بقيادة هذا الجنرال حال دون انحيازها، من حيث الممارسة المسلَّحة، إلى جانب المخيمات الفلسطينية في لبنان والتي كانت تُقصف أثناء الثمانينات تحت أنظار الجيش السوري في لبنان او بنيران مدفعيته وصواريخه. ولما كان القمع العنيف للوعي السياسي لا يأتي على هذا الوعي، وإنما يرغمه على الانطواء في أعماق الجماهير التي تُمْهل المستبِّد ولا تهمله، فإن انفجار كل ما هو مقهور منذ انتصار الاقطاع في العاميات والثورة العربية الكبرى، والهزيمة أمام الصهيونية بصورة متجددة، وانتصار العسكريتاريا على الثورة الوطنية الفلسطينية المسلَّحة، وفوز آل سعود بالمقعد القيادي الأعلى للسياسة العربية الرسمية منذ جريمة الانفصال الأسود في العام 1961، وتفرُّج القيادة السورية على تدمير العراق أمام إيران (1981-1989)، ثم على يد التحالف الدولي (حرب الكويت 1991)، ثم الغزو الإمبريالي له من قِبَل جورج بوش الابن والمستر هيغ (2003)، ناهيكم وحرب غزة وجنوب لبنان (2006).. إن انفجار كل ما هو مقهور ومتراكم لدى الوعي الجماهيري، ما تحت النظام العسكري في سورية، المتراكم المستمر منذ انقلاب حافظ أسد (1970)، والمكدَّس ما تحت الذل والإهانات التي لحقت به على يد إسرائيل والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وآل سعود وحلفاؤهم من مشايخ وعسكر، قد انفجر في الخامس عشر من آذار الماضي، في ما كان الشعب يَظهر وكأنه مكتوف اليدين يتفرَّج، انفجر عن ثورة ذات تاريخ من القمع والفساد والهزائم والذل. ثورة أصيلة، عفوية ومتطورة، ممتدة على المدى الطويل.
هذه هي العناصر الأولية المكوِّنة لثورة الخامس عشر من آذار. عفوية وأصيلة. أما الظروف التي تحيط بها وترافقها أو تنتظرها وتتربص بها، فإنها كثيرة وإن كان التدخل الأجنبي هو من أشدها خطرا عليها، أو لا يقل خطورة عن سرقة البورجوازية للثورة في مرحلتها الجديدة، الحالية والمقبلة. فإذا كانت الحرية والديمقراطية والكرامة، وقيم العمل وأسعاره أو أجوره، بالإضافة إلى المطالب المعيشية والحياتية وأسعار المواد الأولية والغذائية والسكن والصحة والتعليم والنمو الاقتصادي، إلخ، تشكِّل مجتمعة الدوافع المباشرة للثورة، وكانت الخلفية المحركة، أي الماضي القريب والبعيد الممتد إلى بدايات عصر النهضة المغدورة التي لم تنجَز أيا من أهدافها، كالحرية والديمقراطية والوحدة العربية والنمو والتطور بصورة عامة، تشكَّل أرضية لها، فإن العدوان الخارجي والحرب الأهلية، فضلا عن السباق على السلطة السياسية – بصرف النظر عن السلطة الاقتصادية ونمط الإنتاج الاقتصادي - بين الطبقات الشعبية والبورجوازية خلال المرحلة الانتقالية، توفِّر كلها أمام ثورة الخامس عشر من آذار أسباب الاستمرار، ليس فقط حتى سقوط النظام الحالي، وإنما إلى ما بعد ذلك. إن هذه المكوِّنات التي تَعْمل عملها في المجتمع والسياسة تبقى فاعلة حتى لو توقفت المظاهرات تحت تأثير القمع العسكري للشعب. ثورة الخامس عشر من آذار لن تخرج عن هذا المسار الجوهري، حتى وإن تطورت وتنوعت أشكال الممارسة. فإذا ما خبت شعلة الثورة في وقت لاحق من جراء التدخل الإمبريالي أو الصراع المسلح ما بين قوتين إقليميتين، كاندلاع حرب بين تركيا وإيران للسيطرة على الثورة والتأثير في المرحلة الانتقالية القادمة، أو بسبب انقلاب عسكري، فإن الثورة لن تندثر لاحقا، وإنما ستستمر بأشكال أخرى، كتنظيم صفوفها، وبرمجة سياستها. بل وإنها ستستمر بحالات جديدة إلى أن تنفجر مجددا وقد نضجت من حيث الوعي والتنظيم والبرنامج السياسي.
إن الثورة في سورية، إذ هي ترفض التدخل الأجنبي والخضوع لأية سلطة كانت، كما تعادي التبعية للإمبريالية الجديدة والعولمة النيوليبرالية، فإنها تُؤْثر بذلك إذا ما هُزمَت أن تستمر بصورة ضمنية، أو بوجه الإمكان وليس الواقع الآني والراهن، بالرغم من سقوط ألوف الضحايا، على أن تَستَسلم لنهب الإمبريالية لقوة عمل الطبقات الشعبية والثروات الطبيعية والبشرية لسورية. إذا ما سُرِقَت الثورة من قِبَل الإمبريالية الجديدة والعولمة، تركيا العضو في الحلف الأطلسي، أو التحالف البورجوازي بين العسكريتاريا والسوق الرأسمالية، فإنها لن تفشل بصورة نهائية، وإنما ستعود بعد حين وقد قسا عودها. خير لها ان تسقط غدا إذا لم تكن قادرة الآن على حماية نفسها بنفسها، لتبدأ من جديد بعد حينٍ وقد اشتد عودها وتوفَّرت أمامها أسباب أفضل للانتصار بقيادة التنظيم الجديد لليسار الثوري، من أن تَستنجد بالإمبريالية الجديدة وتركيا الأطلسية، فتغوص حينئذ قواها الشعبية في حرب طائفية، وتتفكك عراها الطبقية والقومية، في ما يتربع على سورية وسلطاتها المشايخ واصحاب العمامات ورجال الأعمال ووكلاء الشركات متعدَّدة الجنسيات والوسطاء التجاريين والبورجوازية العسكرية على مرأى من ديمقراطية بورجوازية ممسوخة.
.../... للبحث صلة،،،
حسان خالد شاتيلا
تشرين الأول/أكتوبر 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جهد فكري مشكور
صلاح بدرالدين ( 2011 / 10 / 7 - 12:02 )
جهد فكري ثقافي نقدي هائل ومفيد حول مشهد الانتفاضات والثورات المندلعة في عدة بلدان وتشخيص دقيق لجوهرها ومضامينها الاجتماعية والسياسية واستشراف لمستقبلها والموضوع يحتاج الى المزيد من المتابعة والتحليل لأن ثورات الربيع العربي بداية مرحلة جديدة في حياة شعوبنا ومؤشر لتحولات جذرية في مجمل الأوضاع بشرقنا الأوسط المتعطش للديموقراطية والتغيير واعادة البناء .
تحية للكاتب القدير الأستاذ حسان شاتيلا

اخر الافلام

.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in


.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا


.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي




.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا