الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


.../... ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وبؤس اليسار الإصلاحي (2/2)

حسان خالد شاتيلا

2011 / 11 / 4
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


.../... ثورة الخامس عشر من آذار:
تهافت السياسة الليبرالية وبؤس اليسار الإصلاحي (2/2)
حسان خالد شاتيلا

التدخل ا لخارجي:
فلتَرْفع تركيا يدها عن الأكراد ولتَنْسحب من الحلف الأطلسي
لم يتركوا باباً إلا وطرقوه. الجامعة العربية، الاتحاد الأوروبي، منظمة الأمم المتحدة، تركيا، روسيا والصين. حتى باب السلطة المفتوح على مصراعيه من القاهرة إلى الدوحة، فإن حسن عبد العظيم يقف على بابه متأهبا لاجتياز العتبة المُرْهِقَة للحوار مع السلطة العسكرية الاستخباراتية تحت سقف بيت الخيانة العربية، في ما يجول قادة "المجلس الوطني السوري" بين هذه العواصم ملتمسين منها ما يسمُّونه "الحماية الدولية للمدنيين" و"حقن دماء الشعب". إن المجلس" على غرار "الهيئة" يتحدثان، بالرغم من أن الاختلاف شاسع بين الطرفين حيال "التدخل الخارجي"، ما دام الأول يستجديه في ما يرفضه الآخر رفضا حاسما وقاطعا مؤثرا الإبقاء على باب الحوار مع السلطة مفتوحا، يتحدثان، كل منهما، لغة واحدة. الأول كالثاني يريدان، سواءً بالحوار مع السلطة أم بالاستعانة بالخارج، أن يتخلَّص من هذا "البلاء الأعظم" الذي حلَّ به، الا وهو ثورة الخامس عشر من آذار التي تَسْتَلزم بالضرورة القصوى والعاجلة، حسب ما يُسْتَنتَج من سياستهم، الخروج منها وعليها، والاستفادة منها وجنى ثمارها في السوق الرأسمالية قبل أن تأتي الثورة على المجتمع السياسي، والسلطة، وتقضي على ارتباطات السلطة بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتعيد النظر بالاقتصاد السوري، خططه الإنمائية والإنتاجية، وتوزيع فوائده وأرباحه.
في هذه الأثناء، فإن كبار المعلقين الدبلوماسيين في كبريات أجهزة الإعلام يعتقدون أن جامعة الدول العربية التي تخشى من التداعيات العربية والإقليمية والدولية للحالة السورية، إذا اما ستمرت السلطة على ترجيح العنف المسلَّح على الحوار مع المجلس الوطني "باعتباره الممثل الوحيد للحركة الاحتجاجية"، وثابرت على رفض مبادرة الجامعة، سينتهي بها الأمر، على غرار الحالة الليبية، إلى تعليق عضوية سورية في الجامعة، لتعترف، بالمقابل، ب/"المجلس الوطني" باعتباره "الممثل الشرعي الوحيد لسورية". حينئذ، فإن من المرجَّح، أن الحالة السورية – على حد قول المعلقين الدبلوماسيين الدوليين - ستأخذ مساراً مشابها للحالة الليبية. روسيا والصين لن تلبث كل منهما عن التراجع عن موقفها المعارض لأي تدخل من مجلس الأمن الدولي، كما فعلت حيال الحالة الليبية، فتوافق، في نهاية المطاف، على توفير "الحماية الدولية للمدنيين" و"فرض منطقة حظر جوي". ما يأتي لاحقا يشبه ما جاء سابقا في ليبيا. سلاح الجو التركي بمساعدة من قواعد حلف الأطلسي المنتشرة فوق الأراضي التركية، هو الذي يُنَفِّذ قرار الحظر الجوي الذي يوفِّر الحماية ل/"الجيش السوري الحر" الذي يتلقى الإمدادات من أردوغان أفندي والحلف الأطلسي بوساطة تركية. يلي ذلك – حسب ما تراه هذه الأوساط – انشقاق الجيش السوري بين مؤيد ل/"الجيش السوري الحر" وموال ل"الجيش المؤيد لبشار أسد وأسرته". الحالة السورية ستتطور- على حد قول هؤلاء المعلِّقين - حينئذ إلى "حرب أهلية". الأمر الذي يبرِّر، بالتالي، شكلا جديدا من التدخل العسكري وسقوط النظام الحاكم على يد "الجيش السوري الحر" وتركيا .
هذه الخطة محبوكة بعناية فائقة، ولربما تكون مرشَّحة للنجاح. لكنها تنسى بصورة كاملة أن العامل الرئيس والمحرك في الثورة السورية، ألا وهو تنسيقيات الثورة، هي التي تقود ثورة القوى الشعبية. نعم، إن هذا السيناريو الشيطاني، الدبلوماسي والعسكري، لم يأت على ذكرٍ، ولو لمرة واحدة، على تنسيقيات الثورة التي تمثِّل القوى الشعبية. فالدوحة، كالقاهرة وباريس وواشنطن، ترى في ممثلي "المجلس" لسان حال "المعارضة السورية. إنها تتجاهل، في الوقت نفسه، "هيئة التنسيق" ومنسقها العام الذي يحاول، ما أمكنه ذلك، أن يُبقي على باب الحوار مع السلطة مشرعا على دفتيه، حتى وإن كان يُنْزِلُ على باب الحوار المفتوح ستارة من التصريحات المتعارضة.
خطة الجامعة العربية بقيادة آل سعود وآل ثاني مؤهلة للنجاح في حالة واحدة فقط. ألا وهي إسقاط التنسيقيات، ما قبل إسقاط النظام، تحت عباءة "المجلس" الذي يسعى، بدون هوادة، وبتأييد من باريس ولندن وواشنطن وأنقرة والقاهرة والدوحة التي تتفق في ما بينها على تعظيم المجلس وتضخيمه إعلاميا وسياسيا في الساحة الدولية والعربية والسورية، يسعى من أجل ابتلاع التنسيقيات، بحيث ينتهي الأمر ب"المجلس" إياه إلى تذويب التنسيقيات في منظَّمته، وضمان تأييدها له. الأمر الذي يُملي على التنسيقيات، ما قبل أن تُسْقِطَ السلطة، أن تُسقِط أولاَ جامعة الخيانة العربية من حسابها، وتًعزل "المجلس" عن ساحة الثورة الشعبية، وتَعتمد استراتيجية الاعتماد على الذات، حتى لو بلغ ثمن التأسيس لدولة الثورة الوطنية الديمقراطية المزيد والمزيد من التضحيات بالأرواح والممتلكات. إن لم تفعل التنسيقيات ذلك، من الآن فصاعدا، فإن ثورة الخامس عشر من آذار سيُقضى عليها، تُجهض وتُسرق، كي يُستَبْدل النظام الاستغلالي الظالم بنظام استغلالي أفظع، طالما يتخفى النظام الجديد المقبل وراء القانون، ودولة القانون، وحقوق الإنسان، والحريات السياسية، والديمقراطية، ويتحالف مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، ويضع سياسة سورية بين أيدي خليط مزيج من البورجوازية العسكرية والتقليدية التي تتطلع إلى الاندماج بالعولمة النيولييرالية، والانضمام إلى المنطقة الحرة لحوض المتوسط، وعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل. هذا "السلام" الذي كان الجنرال أسد، ما قبل ابنه بشار، بدأ ينسج خيوطه بحنكةِ وحذرِ قائد الطيارة العسكرية القاذفة التي لا تغير إلا بعدما تنتهي غيرها من الأسلحة الجوية والبرية من تهيئة الأجواء الآمنة لها.
إن تنسيقيات الثورة في سورية، حسب ما يتبيَّن من الخطط السياسية التي تُرسم في عواصم البلدان الرأسمالية الكبرى، موضعٌ لتحالف سوري، عربي ودولي، للقضاء عليها. تحالف ليبرالي بقيادة الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، أي الرأسمالية العالمية، أو العولمة النيوليبرالية. تحالفٌ، كان وما يزال، يشجِّع بلغة الضغوط تارة، وبأسلوب المكافآت تارة أخرى، السلطة الحاكمة على إصلاح النظام الاقتصادي والسياسي والإداري لسورية، بحيث تنسجم السياسة العامة لسورية بصورة أفضل مع السوق الرأسمالية العالمية، وتندمج في العولمة النيوليبرالية. هذا هو المعنى الصريح لمبادرة الجامعة العربية التي تَمنح اليوم للسلطة فرصةً للخروج من أزمتها، واستعادةِ "مصداقيتها" أمام شعبها وأمام العالم، بعدما تنحني أمام مطالب الجامعة العربية وبلدان الحلف الأطلسي، فتوافق على الحوار مع "المعارضة" في القاهرة، وتحت سقف الجامعة العربية التي كانت مَنحت الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي تأشيرة الموافقة لاحتلال ليبيا بصورة "حضارية"، تليق بثورة المعلوماتية والاتصالات الفضائية. فلنلاحظ أن واشنطن وباريس وبروكسيل تعاملت مع السلطة السورية، ما بعد ثورة الخامس عشر من آذار، بحذر وتؤَدة. في ما حافظت دوما، وحتى هذه الساعة، الجامعة العربية على الطريق الدبلوماسي والسياسي سالكا في الاتجاهين ما بين دمشق والقاهرة، دمشق والرياض، ودمشق والدوحة. في ما يقف الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، خلال الأسابيع والأيام القليلة الماضية، موقف المتابع بحذر لما قد يُستجد أو لا يُسىتجد ما بعد المبادرة العربية. فلنلاحظ ، أيضا، أن وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي يلتزمون الصمت، بخلاف عادتهم طوال الشهور السبعة الماضية، حيال الحالة السورية خلال الأيام القليلة الماضية، والتي ترافِق، من حيث التوقيت، مساعي الجامعة العربية مع حاكم سورية.
كان السبب، خلال العقد الماضي وما يزال حتى اليوم، وراء هذه المهلة الدولية والعربية المتاحة أمام النظام السوري كي ينفِّذَ الإصلاحات اللازمة، وهي قابلة للتمديد والتجديد، وثيق الصلة بعلاقات سورية مع كل من إيران، والعراق، وحزب الله، ولبنان، وحماس، والهدنة المستديمة مع إسرائيل. إن الحل الأمثل بأنظار السياسة الدولية بزعامة باراك أوباما والاتحاد الأوروبي ونيكولا ساركوزي، كان وما يزال، الإصلاح، بما في ذلك الدبلوماسي منه؛ إن لم يكن هذا الأخير يتقدَّم سواه على رأس غيره من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية. فإن لم يأت الإصلاح من قبل بشار أسد نفسه وبقيادته، فليكن بانقلاب عسكري بقيادة غيره من قادة الجيش والاستخبارات. مسألة الانقلاب العسكري، كانت، ما قبل ثورة الخامس عشر من آذار وما بعدها، حاضرةً على سطحِ وفي أعماق الساحة السياسية السورية. نائب رئيس الجمهورية السابق عبد الحليم خدام راهن على الانقلاب العسكري طوال أسابيع على إثر مغادرته لسورية إلى المنفى في باريس، وكله يقين أن الانقلاب أتٍ عما قريب لا محالة. غير أن الإشارات الدبلوماسية الصادرة من مراكز القرار في السلطة السورية باتجاه كلٍ من باريس وواشنطن، والتي أفادت بأن السياسة الخارجية لسورية آيلة إلى التغيير، أجَّلت من توقيت الانقلاب قبل فترة وجيزة من وقوعه. ما تَرَكَ عبد الحليم خدام معلقا في الفراغ، برفقة جماعة الاخوان المسلمين، التي ما لبثت أن أنفضت عن ائتلافها مع خدام بعدما تبين لها أن الانقلاب قد تأجل إلى آجل غير مسمى. حينذاك، ما لبثت "الجماعة" أن أعلنت عن هدنة لمدة سنة واحدة مع السلطة السورية للتفاوض معها حول الإصلاح السياسي. إلا أن وراء هذه المهلة المطاطة أسبابٌ أكثر تعقيدا وتشابكا من الجغرافية الاستراتيجية للسلطة السورية الحاكمة، وإن كان متداخلا معها. هذا السبب وثيق الصلة بتكوين السلطة نفسها، تكوينها الاقتصادي المجتمعي، وليس الطائفي. فالسلطة السورية، شأنها شأن جميع السلطات، لا تخلو من حالات من الصراع والخلاف والتبدُّل.
ثمة حالة من التململ لدى مراكز القرار في السلطة السورية حيال ما يسمُّونه "النفوذ" الإيراني في سورية، والذي تضاعف شأنه ما بعد وفاة الجنرال أسد الذي كان يُسِيس سياسته مع طهران من موقع القوة، وذلك بخلاف ابنه بشار الذي تهاوى على أقدام إيران من جراء ما يعتري نفوذه على الساحة السورية والعالمية من ضعف. الأب الجنرال أثبت "جدارته ومصداقيته" في الساحتين العربية والدولية، عندما نال من الدول الرأسمالية العظمى اعترافها به كزعيم وقائد "عبقري" بعدما حل محلها ليمقود بنفسه مذبحةَ الفلسطينيين في الأردن ولبنان، وقمعَ الديمقراطيين الثوريين في المشرق العربي، وبوجه خاص في كل من سورية ولبنان. ثم جاء الانسحاب السوري من لبنان متأخِّرا، أو في غير توقيته الدبلوماسي والسياسي، وبالرغم عن أنف المطامع المالية والاقتصادية لقادة الجيش والاستخبارات والبورجوازية السورية التي اتسع نشاطها الاقتصادي بفضل التدخل السوري في لبنان. وفي تطور متصل، تلاحقت الأحداث التي تنم عن اضطرابٍ ما في أداء آلة السلطة السورية. من أهمها، اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وما تبع ذلك من اغتيالات مقنَّعة طالت عددا من أقطاب النظام الأمني في سورية، منهم، على سبيل المثال، العقيد على كنعان وأخيه، والعميد محمد سلمان، وعماد مغنية، وذلك في ما كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تصول وتجول في الأجواء السورية، وفوق مقر إقامة بشار أسد في اللاذقية، وتدمِّر موقعا استراتيجيا للجيش السوري بالمقربة من دير الزور، دون أن يطال أي حساب أو مساءلة أيا من قادة النظام الأمني !! أضف إلى ذلك، أن سلسلة الاغتيالات التي طالت عددا من رواد الثقافة والصحافة والسياسة في لبنان توقفت ما بعد تأجيل الانقلاب العسكري المشار إليه أعلاه، في ما دخلت المحكمة الدولية للتحقيق باغتيال الحريري في حالة من السبات المشبوه. ما كان يشير إلى أن تبادل النخاب بين القادة السوريين والفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين يُفشي بأن السياسة السورية صائرة إلى التغيير، بما ينسجم مع سياسة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وأل سعود وآل نهيان وأمثالهم.
التكوين الاقتصادي المجتمعي للسلطة وأوضاع سورية عامةً، بدوره، كان وما يزال الهيئة التاريخية التي تُحَدِّد بصورة رئيسة وحاكمة، وذات الأولوية، طبيعة الحالة السورية الراهنة، تَشَكُّلِها، تحولاتها ومستجداتها. فخلال العقد الأخير، وهو عهد السلطة الفاسدة المُفسِدَة، كاد الفساد أن يصبح في سورية نمطا للإنتاج الاقتصادي، بعدما تغلغل إلى جميع القطاعات الاقتصادية وغيرها، علاقاتها، قواها وأدواتها. خلال هذه الفترة، انهار ما كان بقي من فُتات الدولة في عهد الأب الجنرال حافظ، ليحل محله الفساد الذي عطَّل كل السلطات باستثناء الأمنية منها - طالما تُشكِّل الاستخبارات والأجهزة الأمنية والعسكرية مصدراً للفساد - وانتشر في السلطة القضائية، وشوَّه القانون والتشريع، ورمى بحزب البعث إلى الهامش، إلى أن انهارت الدولة وانحلت أيديولوجيتها القومية المجتمعية، وظهرت محلها إيديولوجية العنف قرينة الفساد وسلطة الأجهزة. وكان التحالف ما بين البورجوازيتين العسكرية والتقليدية، والذي استفاد بصورة واسعة من "الحركة التصحيحية" للجنرال أسد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1970، عَرِفَ حالةً من الازدهار في عهد الفساد. بيد أنه استفاد أيضا، منذ العقد الأخير من القرن العشرين، من العولمة النيوليبرالية التي اختَرَقت الاقتصاد السوري عبر الوسطاء والسماسرة والوكلاء والمتعهدين، تحت جناح توصيات البنك الدولي والمنظمة العالمية للتجارة ولجان المستشارين الإداريين الفرنسيين، والتي أرشدت السلطة السورية إلى طرق تحرير الاقتصاد من القيود، بما يضاعف من تراكم رأس المال الخاص وتوزيعه بين أصحاب رؤوس الأموال، وذلك بفضل إعادة تنظيم الإدارة بما يوفر أداءً أفضل لاقتصاديات السوق و"الدولة". فجاءت الإصلاحات الاقتصادية، ومنها الترخيص لرؤوس الأموال والبنوك الأجنبية، كأول بادرة صريحة تنم عن توجُّهات جديدة في الاقتصاد السوري بقيادة السلطة نحو تقنين العلاقات الرأسمالية، ومنحها صفة قانونية مطلقة، تحمي تراكم رأس المال، وتضمن له استثماراته بصورة قانونية.
هذا التراكم الواسع لرأس المال، والذي بلغ حده الأقصى مع الاصلاحات الأخيرة، يستدعي بالضرورة استعادة الدولة من الأجهزة والسلطات الأمنية بعدما أتلفتها، وإرساء أيديولوجية القانون والتشريع وسلطات الدولة، وتحديث دستور حافظ أسد الذي كان صدر في مطلع السبعينات، وبات عاجزا عن مواكبة التطورات الاقتصادية المجتمعية لسورية في العقد الثاني من العقد الواحد والعشرين. الأمر الذي كان له صدى في خطاب بشار أسد منذ توليه العرش عن أبيه، وحتى غاية اندلاع الثورة. فضلا عن ذلك، فإن تَشَكُّل بورجوازية الاستثمارات من داخل السلطة، وهي متحالفة مع البورجوازية التقليدية والعملاء والزبائن والوسطاء، يقتضي بالضرورة تحديث المؤسسات القانونية والتشريعية والدستورية والقضائية والتنفيذية، من أجل توفير فرص مناسبة وأفضل أمام استثمارات رأس المال، وللانتهاء من تراكم رأس المال بالاعتماد على عنف وإرهاب الأجهزة الأمنية. إلا أن رأس السلطة، وهو طبيب مختص بأمراض العين والبصر، كان يؤثر التأجيل إلى ما لا نهاية بانتظار سقوط الشبكية البصرية لعين المريض من تلقاء نفسها، وبدون الاضطرار إلى جراحة ثقيلة قد تكلِّف المريض نور عينيه، إن لم يكن حياته. بمعنى آخر، فإن سلطة بشار أسد عاجزة إلى ما لانهاية عن تنفيذ أي إصلاح عميق للقانون والتشريع والدستور وإعادة بناء الدولة وأيديولوجيتها، لأن مثل هذا الإصلاح في صلب تراكم رأس المال، وفي غياب حركة سياسية إصلاحية مؤهلة سياسيا وإداريا لإنجاز الإصلاحات الواسعة التي يستدعيها التكوين الاقتصادي المجتمعي لسورية، محكومٌ عليها، ليس بالفشل فقط، وإنما بظهور بورجوازية من ضمن السلطة تتجاوز سلطة بشار وتقضي عليه. هذا، وإن انقلابها على سلطة بشار لا يستتبع بالضرورة إنجاز الإصلاحات البورجوازية التي قادت حركتها الانقلابية، لأن إنجاز هذه الإصلاحات، على خير وجه، يحتاج بدوره إلى الأطر السياسية والإدارية غير المتوفرة في السلطة.
هذا هو ما تنتظره وتتوقع وقوعه ما بين لحظة وأخرى السياسة الدولية ذات الرأسين، مستر أوباما ومسيو ساركوزي. إن النداءات الموجّهَة من البلدان الرأسمالية الكبرى والجامعة العربية، بالأمس كما في يومنا هذا، والتي تحثُّ السلطة على الإصلاح والحوار، هي موجَّهة في حقيقة الأمر، ما بعد ثورة الخامس عشر من آذار، إلى التحالف البورجوازي العسكري التقليدي للإسراع بانتزاع السلطة، قبل أن تُثبِّت تنسيقيات الثورة أقدامها في المجتمع السوري، وبين صفوف القوى الشعبية. وكانت هذه النداءات، ما قبل الثورة، تعوِّل على سلطة بشار لإنجاز الإصلاحات، إلا أنها تخاطب، ما بعد الثورة، أصحاب العلاقة ضمن السلطة باعتبارهم أصحاب المصلحة، ليس في الإصلاح فقط، وإنما في القضاء على التنسيقيات. أي إن الانقلاب العسكري والمهلة المتاحة أمام السلطة، ما قبل التدخل الخارجي، يلتقيان معا في أداء وظيفة واحدة، وهي انفتاح التكوين الاقتصادي المجتمعي والتشكيلة السياسية لسورية على مصراعيها أمام العولمة النيوليبرالية، وسياسة الاتحاد الأوروبي، والاستعداد للانضمام، جنبا إلى جنب مع إسرائيل، إلى المنطقة الحرة لحوض المتوسط في العام 2020.
إلى ذلك، فإن السياسة الدولية لا تترك أمام السياسة السورية سوى هامش ضيق من الحركة، على أن يُفْهَم من السياسة السورية، أن السلطة السورية، أدواتها، وظائفها، أداؤها، ثقافتها، أيديولوجيتها وتكوينها الاقتصادي المجتمعي، يتسع ليشمل المجتمع السياسي الذي يُعتبر، بدوره، أداة من أدوات السلطة، ليس سلطة بشار أسد وحده، وإنما أداةٌ للتكوين الاقتصادي المجتمعي والإيديولوجي للسلطة. إن المجتمع السياسي صورة طبق الأصل، إلى هذا الحد أو ذاك، من حيث برنامجه الاقتصادي ودبلوماسية القلعة الحصينة المغلقة، وانتخاب القيادة للقاعدة. إنه أداة من أدوات السلطة التي تَحمل في تكوينها سلطة رديفة لها، تنمو من داخلها، وإن كانت أكثر حداثة وانفتاحا من السلطة الحالية، وتتطلع إلى التحديث لتوفير ظروف أفضل أمام تراكم رأس المال واتساع الاستثمارات الداخلية والعالمية، حتى لو أدى بها الأمر إلى الإطاحة بالسلطة الحالية إذا ما قصّرت في تنفيذ الإصلاحات البورجوازية التي تُمْلَى على الاقتصاد السوري من قِبل التكوين الاقتصادي المجتمعي للسلطة، ومجتمعها المدني البورجوازي. إلى ذلك، يلتقي المجتمع السياسي في سورية، بجميع تكويناته، "الهيئة" و"المجلس" والسلطة والسياسة الدولية بما في ذلك العربية منها، حول هدف واحد، ألا وهو القضاء على التنسيقيات وثورتها، بالرغم من أن لكل طرف من هذه الأطراف لغته المتباينة عن الطرف الأخر، وليست مختلفة عنه، كالحوار مع السلطة، والإصلاح، الإصلاح التدريجي السلمي، الخوف من الحرب الأهلية والتدخل الخارجي، وقف إراقة الدماء، إنهاء العنف، وتوفير الحماية الدولية، وحق التدخل العسكري لأسباب إنسانية يضمنها القانون الدولي وينص عليها.
هذه المسارات ينتهي بها المطاف إلى التكوين العالمي للسياسة الدولية في عهد العولمة النيوليرالية والإمبريالية الجديدة. إن الرأسمالية العالمية، ما بعد سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، اختَرَقَت الحدود الجمركية والقومية، وشَرَّعت، بموجب موازين القوى العسكرية الراهنة في عالمنا اليوم، للالتفاف على منظمة الأمم المتحدة وتبرير التدخل العسكري، سواء من قِبَل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، حسب ما حدث، على سبيل المثال، في غزو قوى "التحالف" الرأسمالي بقيادة واشنطن ولندن للعراق، وكما يحدث عندما تُطْلَق يد روسيا في الشيشان والقوقاز. كما فَرَضَت الدبلوماسية في عهد العولمة النيوليبرالية، بمقتضى موازين القوى العسكرية والاقتصادية، سياستها على منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي. حتى أن الأمم المتحدة باتت تُقَرَّر بناء على السياسة الأمريكية الأوروبية لتَعْهَدُ، من ثم، للحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي بتنفيذ القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي. أفغانستان، وليبيا، والبلقان، أمثلة حية على ذلك ماثلة أمام ناظرينا، بالإضافة إلى إسرائيل التي استباحت الفلسطينيين وأمعنت في انتهاج سياسة عسكرية ومدنية لإبادتهم، أضعاف أضعاف ما كانت تمارسه خلال عهد الحرب الباردة. غير أن السياسة العدوانية للعولمة النيوليبرالية لا تقتصر على المجالين الاقتصادي والعسكري فقط، وإنما تمتد وتتسع لتشمل، علاوة على ذلك، مجتمعات العالم. إنها تمزِّق القومية الواحدة إلى أقليات، وتدمِّر النقابات العمالية في كل مكان، وتفرِّق بين الشعوب المتأخية عبر التاريخ، وتحيل الأحزاب السياسية إلى هياكل مُقْعَدَة عاجزة عن الحركة في مواجهة الهجوم الرأسمالي العالمي للبنوك والبورصات والاستثمارات متعددة الجنسيات. بل، وإنها مَسَخَت منظمة الأمم المتحدة، عندما جعلت منها أداة لإشهار الحروب ضد "الشعوب الإرهابية"، بعدما كانت حيزا دوليا لحل النزاعات بالطرق الدبلوماسية. ففي عهد العولمة والإمبريالية الجديدة أضحت الدبلوماسية ملحقة بالحروب العسكرية، بعدما كانت حاجزا يقف دون الحروب، ويسعى إلى الحلول السلمية، حسب ما كان شائعا إبان عهد الحرب الباردة. أيديولوجياً، فإن العولمة ابتكرت إيديولوجية نهاية التاريخ والأيديولوجيا معا، وأرست لإيديولوجية مكافحة "الإرهاب"، وصدام الحضارات، وروَّجت لسياسة ميتافيزيقا الأخلاق، أي الصراع بين الخير والشر، على مثال العقلية التيميَّة التي ترى في النور مصدرا للخير، وفي الظلام مصدرا للشر. ناهيكم، أولا وأخيرا، أن الرأسمالية العالمية تجتاز أزمة اقتصادية خانقة لا مخرج منها، ما لم تُشعِل الحروب بوسائل مستحدثة، لنهب ثروات البلدان النامية، من أجل شراء ثرواتها بأرخص الأسعار، وتوظيف استثماراتها في أحسن الشروط الاستغلالية، وذلك في مسعى منها للخروج من أزمتها المستعصية.
في وسط هذه "الحداثة" ترتفع أصوات من سورية تتضرع للأمم المتحدة والجامعة العربية لإنقاذ سورية من عنف السلطة. كذا، فإنها تلتمس من هذه وتلك الخلاص من البلاء الأعظم الذي حل فوق رؤوسها، ألا وهو الثورة، وما يرافقها من انتشار للتنسيقيات التي تذكِّرهم بالمجالس، والمجالسية، وتثير الرعب في نفوسهم حيال مستقبلهم السياسي والمجتمعي. بيد أن السلطة التي تحدُّ سياستَهم من كل جانب، فتراهم يصبُّون كل مساعيهم على دولة المستقبل، ويهرعون إلى الدول الرأسمالية طلبا للمعونة، ويُهملون الثورة والعمل على تطويرها وإنضاجها بالممارسة والفكر، السلطة وعقل السلطة هي التي تَسِير بهم نحو تكريس - ما أمكن لهم ذلك - عقلية الوصاية على الثورة وتنسيقيتها. وصاية هي نفسها تلك التي تمارسها السلطة الحاكمة. وذلك في ما يَلْهى اليسار البائس عن الوضع العالمي الذي يفرز حيزا لسورية تتحرك بين جنباته، بانتظار انقضاض انقلاب عسكري يزعم الإصلاح والحداثة، على الثورة، أو تحجيم الثورة والتنسيقيات بأيدي كل من "جيش سورية الحر" وتركيا الأوروبية المتحالفة مع الحلف الأطلسي، والتي ترفض الاعتراف بمذبحة الأرمن التي كان الجيش التركي ارتكبها في العام 1915، وتَقمع الأكراد بالوسائل الوحشية، وبطغيان القومية الطولانية التي ترفض الاعتراف لهم بانهم يشكِّلون أمة ذات قومية. أردوغان أفندي صورة جديدة لسابقه عدنان مندريس الذي تَرَكَ للاحقيه من رؤساء الوزارات التركية قواعد الحلف الأطلسي المنتشرة فوق الأراضي التركية، والمتأهبة لقمع ثورات الشعوب في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، بعدما كانت ترابط على مشارف الاتحاد السوفييتي والمشرق العربي وكردستان لمحاربة الشيوعية – حسب مزاعمهم - في آسيا وأوروبا.

نظرية الفسيفساء الإثنولوجية:
سورية الوطن، الأمة، الطبقة، المجتمع والتحرر
الخامس عشر من آذار هو يوم الثورة في سورية طالما برهنت القوى الشعبية عن انتماءاتها لشتى أنواع التكوينات السياسية المجتمعية، باستثناء ما كان منها إثنيا. فإذا كان للثورة في سورية من مضمون مجتمعي سياسي، فلأنها دَحرت الطائفية والتعصب القومي منذ اليوم الأول، ودلَّلَت أن الثورة في المجتمع السوري ثورة سياسية، وأن تكوينات هذا المجتمع تتوزع وتنقسم سياسيا بين مؤيِّدة للسلطة وأخرى ثائرة عليها، بين مناصرة للتدخل الخارجي وثانية ثائرة عليه، بين مُسْتَغَلَّة ومُسْتَغِلَّة، بين طبقات شعبية جائعة تواجه أسلحة السلطة بصدور عاربة، وطبقة مترعة بالرفاهية والبزخ من الرأس حتى أخمص القدمين تراقب بحذر تطورات الثورة، بانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض عليها من أجل سرقتها. البورجوازية تتأهب للانقضاض على الثورة والتنسيقيات انقضاض التحالف الدولي العربي المتخفِي وراء "المجلس الوطني" الذي يَسْتَنجِد مع حلفائه بالتحالف التركي الأوروبي الأمريكي العربي لسرقة الثورة من القوى الشعبية، والاستفادة من الثورة بحيث تنتهي نتائجها إلى ترجيح كفة تراكم الرأس المال الخاص إلى أقصى حد.
المجتمع في سورية ذو تكوينات قومية، تحررية وطبقية. وهي متحركة ومتطورة ومتجدَّدة كما هي المجتمعات البشرية في كوكبنا بأسره، من بورصة بكين إلى الوال ستريت، عبر ساحات وشوارع مدريد وأثينا وباريس والقاهرة وتونس ونيويورك. ليس المجتمع في سورية تكوينات إثنية متراصفة جنبا إلى جنب أو إحداها ضد الآخر. حتى الأمة الكردية في الجزيرة السورية نسيت انتماءها القومي، واندمجت في المعركة ضد نظام الاستبداد والاستغلال، وذلك حسب ما يتبيَّن من الشعارات التي تُرفع في بلدات ومدن الجزيرة السورية، والتي تُغْفِل المطالب القومية للأكراد في سورية وتُعلي الشعارات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة فوق المطالب القومية المشروعة للأمة الكردية. الحال، أن ثورة القوى الشعبية في اليوم الخامس عشر من آذار، إذ هي هَزَمَت الحرب الأهلية منذ اليوم الأول، فلأنها تنتمي إلى الحركة الوطنية ومعاركها ضد الاستعمار القديم والصهيونية، ومعاركها، في الخمسينات من القرن الماضي، المناهِضة للأحلاف في عهد الاستعمار الجديد، والمؤمنة بالوحدة القومية، والأممية البروليتارية، والمناصرِة لحركة السلام ضد الحروب الإمبريالية في جنوب شرق آسيا. يَكْذُبُ، إذن، من يقول إن سورية فسيفساء من الإثنيات الدينية والعصبيات القومية، طالما برهنت هذه الثورة أن المعارك السياسية التي تخوضها القوى الشعبية منذ نشأت الحركات القومية في منتصف القرن التاسع عشر، والحركات الوطنية والمجتمعية والطبقية والوطنية في وقت مبكر من القرن العشرين أو في وقت متأخر من القرن التاسع عشر، قد ذوّبت الإثنيات الدينية ودَمَجَت الأهالي في الحركات السياسية المعاصرة. الصراع الطبقي، عاميات الخبز والأفران وضد الإقطاع، معاداة الاقطاع الشرقي: إقطاع المشايخ وأمراء الجيش ورجال الدين وكبار موظفي الباب العالي والباشوات، الثورة العربية الكبرى ضد الإمبراطورية العثمانية، والمشانق في ساحتي المرجة والبرج في دمشق وبيروت التي عُلَّق على اعوادها المسيحيون والمسلمون، الثورات الوطنية ضد الانتداب الفرنسي، النضال ضد الأحلاف ورموزها وعلى راسهم الملوك والأمراء العرب في العراق والأردن وشبه الجزيرة العربية، وعدنان مندريس الذي ضمَّ تركيا في عهده (العقد الخامس من القرن الماضي) إلى حلف شمالي الأطلسي، وجعل من دولته رأس حربة للرأسمالية العالمية ضد الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. هذا الأخير، لم تعفه سياسته المتصالحة مع التعليم الإسلامي وتعاليم "الدين الحنيف" في تركيا الخمسينات، من كراهية الشعوب المتحرِّرة والمعادية للاستعمار الجديد والأحلاف الاستعمارية له، ومنها العرب والأكراد والأتراك الأحرار. الشعوب المناهضة للاستعمار والأحلاف ناهضته، هو والملك فيصل وولي عهده عبدالإله، من جراء ما كانوا شيَّدوه من علاقات تحالفية متينة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، ولمشاركتهم في مخططاتها الاستعمارية في المنطقة وخارجها. الأمر الذي يفسِّر الأسباب التي تجعل من ثورة الخامس عشر من آذار ثورة مجتمعية سياسية مطلبية وطنية وطبقية بأفق قومي عربي مؤيِّد للحقوق القومية للأكراد.
تقسيم المجتمع في سورية إلى مجتمعين اثنين، كما يحلو لعزيز العظمة وغيره أن يفعلوا عندما يميَّزوا بين المجتمع السياسي والمجتمع الإثني (الطائفي)، هذا التقسيم ينفي حالات الحركة والتناقض والتطور والتغيَّر عن هذا المجتمع الذي يَشهد منذ منتصف القرن التاسع عشر حركات سياسية مجتمعية وحروبا وصراعات اقتصادية، كفيلة كلُّها بدك الجبال وهز سلسلة جبال زغروس وطوروس وكردستان والقلمون وجبل العرب وجبل الشيخ التي تجتازها ثورات التحرر القومي، مرة ما بعد مرة، ضد السلطات الطاغية خلال المائة سنة الماضية. تارة في الحرب ضد الصهيونية، وتارة من أجل تحرُّر الأكراد من الجيش التركي، وتارة أخرى من أجل دك المخيمات الفلسطينية في البقاع بقنابل الجنرال أسد. هذا التقسيم ذو الرأسين للمجتمع في سورية، أحدهما سياسي والآخر طائفي، هو تقسيم أكاديمي أو جامعي ومدرسي. إنه، وإن كان يلقى في العقود الأخيرة انتشارا واسعا في الجامعات والمعاهد السياسية الكبرى في العالم، إلا أنه يجهل عن عمد أن الطبقة والطائفة، الأمة القومية والطائفة، ضدان لا يلتقيان إلا لتذيب السياسة ما هو طائفي، فتحيلُه عبر الحركات الاجتماعية إلى تكوين مجتمعي سياسي جديد ذي صلة وثيقة بنمط الإنتاج الاقتصادي، والتكوين الاقتصادي المجتمعي. إن هذا التقسيم يرفض ما تمارسه الحياة السياسية من تأثير على البنى الإثنية، فكأن الإثنيات ليست، من حيث نشأتها التاريخية، وليدة السياسة والصراع على السلطة والجاه والمُلْك !!-
أليست الخلافة هي التي قسَّمت المسلمين إلى فرق؟ الخلافة من حيث هي بوجه خاص مصدرٌ للجاه. الأكاديميُّون الجامعيون عندما يؤكِّدون على ثنائية السياسة والإثنية في مجتمعاتنا، فإنهم يُحيلون ما هو سياسي إلى ما هو إثني. فالقومية العربية نِتاج المسيحيين في لبنان وسورية. والاشتراكية من عمل المسيحيين في مصر ولبنان. والانقلابات العسكرية في سورية منذ الثامن من آذار 1963 ، هي من صنع الأقليات الطائفية (كذا). إلى أن تنتهي بنا الإثنولوجيا الاجتماعية إلى القول إن الفِرق في الاسلام هي السبب وراء الخلاف حول الخلافة، وليس النقيض. أي أن الصراع السياسي على الخلافة والمُلْك هو السبب وراء نشوء الفرق. لاسيما وأن الخلافة هي مصدر الثروة والجاه في مجتمعات تنتمي إلى نمط الإنتاج الشرقي. السياسة هي السبب وراء تمزق الأمة المسلمة إلى فرق، والدين، هنا، ما هو سوى السلاح الإيديولوجي لتولي الحكم السياسي، والحفاظ عليه، ومحاربة خصومه. إن الإثنولوجيين، يكرِّسون، على هذا النحو، لبنيوية ساكنة منعدمة الحركة، ومحكوم عليها أن تبقى إثنية طائفية إلى الأبد، حتى لو اخترقتها أحداث التاريخ من صراعات وحركات سياسية ومجتمعية، ثورات التحرر الوطني، والثورات الوطنية ضد الكولونيالية، والصراع الطبقي، والوحدة القومية، والحركات السياسية والاجتماعية من نقابات وغيرها، والتي أحالت الإثنيات الدينية إلى فتات متناثر. لولا ما للسياسة من أولوية على الإثنيات المجتمعية، لولا أن أولوية السياسة هي الهيئة التاريخية المحدِّدة لنشوء الإثنيات، لولا فعل السياسة في التكوينات المجتمعية ما قبل الرأسمالية والرأسمالية، ما كان، من جراء هذه المكوَّنات الاقتصادية المجتمعية، أن تنتصر السياسة على الإثنية، وأن تَسْتَخدِم السياسة الدين وليس النقيض، وأن تشهد الوقائع المادية أن الثورة في سورية سياسة بامتياز. بَلا، ما كان لثورة الخامس عشر من آذار أن تكون سياسية بامتياز، لو أن الإثنية في سورية لم تنتصر عليها السياسة في المجتمع السوري خلال معارك سياسية مستمرة منذ ما يزيد عن القرن، تَقْلُب وتُقَلِّب المجتمع وتكويناته الدينية لتعيد تنظيمها في حركات وضعية مجتمعية سياسية. السياسة المادية مصدر الدين وأداته الإيديولوجية للسيطرة على السلطة والجاه. لولا سيطرة السياسة على الدين وتحكُّمُها به، لو أن الدين هو الذي يتحكَّم بالسياسة، لكان المشرق العربي اليوم ينقسم إلى عدد كبير من الدويلات الطائفية. إن الإثنية، بإيجاز شديد، تَنتشر على بساط من الثورة المضادة، من حيث هي خصم طبقي وقومي للكل السياسي. كل مكونات وظواهر المجتمع وإيديولوجياته سياسي. والسياسة هي التي تسيِّر الطائفية وتتحكم بها، وليس النقيض. أعداء الثورة ضمن السلطة وخارجها، والثورة المضادة، والمتربصون بثورة القوى الشعبية استعداداً لسرقة التحوُّلات التاريخية التي تجتاز المجتمع في سورية، هي التي تتمسك، على غرار السلطة، بالإثنيات، وهي التي ترفض الكل السياسي من حيث هو مفهوم وفعل، نظرية وممارسة، تُتْبِع الدين للسياسة. إن مصير كل دعوى طائفية هو الهزيمة أمام السياسة. فالظاهرة الدينية تتهاوى مع سقوط السلطة التي كانت تحتمي بالدين من حيث هو أيديولوجية لاستلام السلطة وللدفاع عنها.
على هذا النحو، فإن الإثنيات الطائفية امَّحَت ولم يبق منها إلا ما كان منها لا يذوب بالدماء الوطنية والقومية والثورية، ما لم تَنقرض الطبقة المُسْتَغِلَّة التي تعيش وتستفيد من بقايا بقايا طوائفها. فتَرى، والحال كذلك، أن الطبقات المُسْتَغِلَّة تحافظ على بقائها وتضمن لنفسها سلطانها وثرواتها بالاعتماد على ما تبقى من النعرات الطائفية، بعدما كنَّسَت رياح الثورات طوال قرن ونصف القرن بنيات التكوينات الإثنية الطائفية. إن عزيز العظمة وبرهان غليون وغيرهما من تلامذة الإثنولوجيا الاجتماعية التي تسود في أوساط المستشرقين والإدارات الكولونيالية ومكاتبها، وَرِثت هذه التصنيفات المجتمعية الجامدة عن الوضعية الاجتماعية لمارسيل موس في مطلع القرن العشرين، والبنيوية الاجتماعية لليفي شتراوس في نهاية القرن الماضي (وكلاهما تلقى الثقافة السامية). وكان كل منهما استاذا أكاديميا يُلَقِّن علما متخصصا بالمجتمعات التي يجتازها الزمان المتغيِّر، دون أن تتحرك، حسب الإثنولوجيا الاجتماعية، تكويناتها قيد أنملة واحدة. دولة اللاذقية في مطلع عهد الانتداب الفرنسي لسورية (1920) التي هُزِمت على أيدى الثورة الوطنية بقيادة صالح العلي والتي ناهضت التقسيم الإثني الديني لسورية السياسية، هي نفسها التي تعود اليوم تحت تسمية "الدولة العلوية"، لأن التعليم الأكاديمي يتمخض دوما وأبدا، وفي جميع أنحاء الكوكب الأرضي، إما عن علوم وتعاليم جامدة، وإما عن نظريات شبه علمية مشوَّهة ومنحرفة. انظروا – على سبيل المثال - إلى ما تنتهي إليه الماركسية عندما تُدَرّس في الجامعات والأكاديميات !! مجتمعاتنا أشبه ما تكون بالماركسيات الجامعية. إن الأولى كالثانية منزوعة بفضل الأكاديميين من حالتين اثنتين هما أهم حدود تاريخيتها. الحد الأول هو السياق التاريخي والظروف الموضوعية. أما الحد الثاني فإنه النقد ليس غير.
تحتاج مقاربة الطائفية في سورية مقاربةً ماديةً نقدية، في ضوء ما تقدَّم، إلى مقاربة سياسية، هي نقيض علم اجتماع الإثنيات أو الإثنولوجيا الاجتماعية، وتفنيد لإثنولوجية الطائفية لبرهان غليون وعزيز العظمة وغيرهما من جامعيين وأكاديميين. إن للطائفية في سورية تاريخ، وهو التاريخ السياسي، تاريخ من تبعية الدين للسياسة السورية. فالطائفية في سورية جهاز سلطة، شأنها شأن الوظائف السياسية للدين المسخَّر بصورة عامة من السلطة السياسية وللسلطة. أي أن الدين أو الطائفية جهازٌ، بين أجهزة غيرها قمعية، كالجيش والأمن والاستخبارات، وظيفته قمع المُسْتَغَلِّين والحفاظ على السلطة بين أيدي المُسْتَغِلِّين. إن الطائفية لها تاريخ سياسي مادي. تاريخها هو نفسه تاريخ السلطة، وتاريخ الطبقة المُسْتغِلَة التي تَجْمَع ما بين شرائح بورجوازية تَنهب وتستثمر قوة عمل المُسْتَغَلِّين من طائفتها ومن الطوائف الأخرى، بالعنف والبطش والأجهزة الأمنية التي ألغت فانون المِلكية، وحلت محله في تسيير السوق . الطائفية في سورية، من حيث هي جهاز سلطةـ فإنها ذات صلة وثيقة بما تمارسه السلطة نفسها منذ مطلع السبعينات من قمع وإبادة للديمقراطيين والثوريين الفلسطينيين واللبنانيين في لبنان ما بعد الأردن، وضد الأكراد وحقوقهم القومية، وفي العراق وغيره. السلطة السياسية في سورية تَستَخدم الوظائف الإيديولوجية للدين، حيثما تَفرض سيطرتها بالقوة على حركةٍ مقاوِمَةٍ لإسرائيل الصهيونية وأمريكا الإمبريالية، كي تقايض بها مع أعداء الثورة، من أجل توفير أسباب البقاء لسلطتها وهيمنتها على القضايا القومية والتحررية العظمى. والسلطة في سورية توظِّف أيضا الدين لإحكام سيطرتها على السوق والإنتاج طلبا لتراكم رأس المال والأرباح، ومن أجل الحفاظ على سلطتها. إن أهل السنة، حسب هذه المقاربة المادية السياسية، كغيرهم من الطوائف، منقادين، سواء كانوا معارضين أم موالين، للسياسة. إنهم منقسمون في ما بينهم، بين مؤيِّد للسلطة المُسًتَغِلَّة التي تهيمن وتسيطر وتقمع كل القوى بما في ذلك حلفائها، حسب ما تمليه مصالحها الآنية الضيقة، وبين مناهض للسلطة مناهضته لاستغلالها بلا رحمة للمُسْتَغَلِّين وقوة عملهم وثروات البلاد.
مقصد القول هنا أن السلطة، من حيث هي تحالف بين البورجوازيتين العسكرية والتقليدية، فإنها تحالف عابر للطوائف كلها ويقسِّمها ما بين مؤيِّد للسلطة البورجوازية ومناهض لها. سُّنةٌ مع السلطة، وسنةٌ ضد السلطة، هكذا دواليك وهلم جراً. السلطة تحاول، دونما جدوى، أن تستعيد، من حيث هي بورجوازية سلطة مُسَيَّرة حتى اليوم بمخلَّفات نمط الإنتاج الشرقي، - إلى هذا الحد أو ذاك - حيث يوجد التلازم الوثيق ما بين السلطة وصلاتها بالفرق الدينية، تحاول، دونما جدوى، أن تستعيد "الطائفة العلوية" وتستعين بها، بحيث تجعل منها جهازا لسيطرة السلطة وهيمنتها وقمعها للمجتمع، بما يضمن للبورجوازية الحاكمة، وهي مؤلفة من جميع الطوائف، أن تبقى في السلطة، وتحتكر رأس المال لنفسها وفي أضيق دائرة ممكنة، وتوجِّه السياسة الخارجية في الغرف المظلمة بعيدا عن أعين الشعب. السلطة السورية تكوينُ اقتصاديُ مجتمعيُ، وتشكيلٌ سياسيُ قوامه حلقة العسكر وحلفائهم وشركائهم في السوق المحلية، والوسطاء مع السوق العالمية. طائفية السلطة قوامها الاستعانة، بدون طائل، بالطائفة العلوية كجهاز للسلطة، شأنها شأن الجيش والاستخبارات والأمن، بما يوفِّر لها أسباب الدوام. ناهيكم وأن الطائفية تشتد وتطغى عندما تصبح السياسة الخارجية للسلطة حجرة سوداء لا تعرف النور، أو عندما تكون السلطة مهدَّدَة بالزوال. في مثل هذه الحالات، تُسَخِّر السياسة الدين إلى أبعد حدِّ، فلا تترك هيئة من هيئاته إلا وتجعل منها أداة أيديولوجياً في خدمة الحكم السياسي .
لكن "الطائفة العلوية" لم تتحول إلى جهاز للقمع واحتكار الثروة. فإذا ما تجاهلنا الأحوال المعيشية المتواضعة، إن لم تكن المتردية، لصغار الفلاحين من الطائفة العلوية، وتناسينا ما يلقاه المثقفون اليساريون وضباط الجيش من "الطائفة العلوية" في عهدي الأب والابن من قمع وتنكيل وتعذيب، فإن هذه الطائفة لا تختلف عن أهل السنة من حيث تأييدها للسلطة أو رفضها لها. بل، وإن الضغوط النفسية التي تُمارَس على الطائفة العلوية للحفاظ على وحدة الطائفة وتماسك عصبية السلطة، لا تختلف إلا من حيث الشكل أو الأسلوب والدرجة عن الضغوط التي تُمارَس ضمن الطائفة الثانية بأيدي أعيانها للحفاظ على العصبية متماسكة. هذا، إن لم يعاني المثقفون والعسكر من "الطائفة العلوية" أكثر مما حلَّ من تنكيل بغيرها من الفرق الدينية. لكن هيهات للطائفية أن تتغلَّب على السياسة. فلقد أَعْمَل الجنرال أسد في "أبناء طائفته" قتلا، وسجنا، ونفيا، وتعذيبا. بل، وإن السلطة والجاه بالمعنى الخلدوني، وهو سياسي، قد فكَّكت العصبية ضمن الأسرة الواحدة. فالدين في "مقدمة" ابن خلدون، من حيث هو إيديولوجية تَحْمل العصبية إلى السلطة، مُسَيَّر من قِبَل السياسة، أو من أجل الاستيلاء على السلطة. يقوى عوده ويتماسك عندما تسير العصبية نحو السلطة، ثم يذبل بعدما يزدهر أهل الحضر ليتفكك الدين والعصبية معا، في ما تنهار السلطة ويخبو نور الحضارة. الأمثلة التي تؤكد أن عصبية أسرة السلالة الحاكمة في سورية يلحق بها التفكُّك، متعدِّدة. رفعت أسد منفِ عن سورية منذ ثلاثة عقود. ماهر أسد أطلق النار على زوج اخته آصف شوكا وكاد أن يرديه قتيلا. صَدِّقوا أو لا تُصَدَّقوا أن الابن باسل أسد توفي، حسب ما ترويه مصادر القلعة المغلقة، في حادث سيارة على طريق المطار. الأخت الكبرى بشرى أسد وأولادها من آصف شوكت زوجها، لا يُعرف لها مقرٌ أو عنوان. تَراها تارة شبه متخفية في أحد البلدان الأوروبية، وفي الإمارات تارة أخرى. إلخ. أي أن السلطة السياسية التي تحاول تحويل الطائفة إلى جهاز للسلطة، هي نفسها، أي السلطة، أي السياسة، هي نفسها التي فكَّكت عصبية الطائفة، بله عصبية الأسرة الحاكمة نفسها. خيرٌ، إذن، للأكاديميين والجامعيين وأشباهم من المثقفين والسياسيين السوريين أن يعودوا إلى تفكُّك العصبية والدين وزوال المُلك والجاه من جراء الأسباب السياسية المادية وثيقة الصلة بالسلطة، حسب ما جاء نقدها في "مقدمة" ابن خلدون، ويدحضوا الإثنولوجيا الاجتماعية التي توُصَف في أحيان كثيرة أنها "علم استعماري"، أو "علم بورجوازي" .
فسيفساء الإثنيات الدينية لن تَحْمل معها الحرب الأهلية في سورية إلا في حالة واحدة، ألا وهي التدخل الأجنبي. فالسياسة أو السلطة، من حيث هي مصدر الطائفية، لن تُشعل نيران الحرب الأهلية ما لم تَقَع الطائفية فريسة عامل سياسي آخر غير السلطة، وإن كان يمارِس قمعا مشابها لما تمارسه السلطة، ويهدف، كالسلطة، إلى الحيلولة دون أن تستمر ثورة الخامس عشر من آذار نحو غاياتها: التحرر، وإعادة تنظيم نمط الإنتاج الرأسمالي، ونقل السياسة الدولية إلى الشعب، وبناء جديد لأيديولوجية الدولة. التدخل الخارجي، في هذا المنحى، والسلطة يعوَّلان الآمال على فسيفساء الإثنيات الدينية للانحراف بالثورة عن مسارها التحرري الديمقراطي، وذلك بتشتيت التاريخ السياسي لسورية طوال ما يزيد عن قرن مضى، أو بتغليب الدين على السياسة. ولن يكون للسلطة والعدوان الخارجي والمجتمع السياسي ذلك، ما لم تنس القوى الشعبية تاريخها وسياستها المعادية للاستعمار والصهيونية والإمبريالية طوال ما يزيد عن قرن مضى. هذا، في ما لا تؤول السلطة السياسية عن جهد من أجل توظَّيف الطائفية، من حيث أن الدين بصورة عامة جهاز سياسي ديني للسلطة، كي تحتفظ بالسلطة، بعدما تنجح، حسب ما تحدِّثُها بها أوهامها، في الانحراف بالثورة، إما نحو الاستنجاد بالقوى الخارجية، وإما بزج الطوائف في اقتتال دام في ما بينها. التدخل الخارجي، على غرار السلطة، يَعْتَمِد بدوره على الطائفية من أجل تبرير تدخله، كما يعوِّل عليها الآمال من أجل سرقة الثورة. يشاركهم في هذه السياسة المعادية للثورة، الطابور الخامس أو الثورة المضادة التي تريد أن يكون إسقاط النظام هو الحد الأقصى للثورة.
لكن الثورة ترفض هذه السياسة. ترفضها لأن التدخل الخارجي غريبٌ عن تاريخٍ من النضالات التحررية يزيد عمره عن القرن الواحد من الزمان، وقاد بالمجتمع السوري إلى تكوين سياسي جديد غير طائفي، هو القومية والطبقة والوطنية. التدخل الخارجي، حسب هذا السياق التاريخي لتكوين المجتمع والسياسة في سورية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، هو نقيضٌ للمسارات التاريخية التي سارت على طريق الثورة التحررية والقومية والطبقية لسورية. لذا، ولما كان التدخل الخارجي يهدف إلى أن يلعب دور الهيئة السياسية التي تحل محل مخزونٍ واحتياطيٍ هائلٍ من النضالات التحررية، وكان على هذا النحو يشكِّل نقيضا للمسار التاريخي، وكان، علاوة على ذلك، من طبيعة واحدة مع السياسة الطائفية لسلطة كانت تريد تحويل طائفة بعينها إلى جهاز للسلطة، على مدى سياسة عربية مناوئة للمسار الثوري القومي التحرري للمجتمع السوري طوال أربعة عقود، من خيانة الجنرال أسد للمقاومة الفلسطينية في إربد، إلى قمع ثورة الخامس عشر من آذار، مرورا بحرب المخيمات في لبنان، فإن التدخل الذي يريد أن يملآ بمفرده الفضاء السياسي لسورية، سيعزِّز، من جراء هذا النقيض الذي يعتدي على مسارات الثورة وسياستها الراهنة والماضية ويلغيها، سيعزِّز من الطائفية، شأنه شأن السلطة، وشأن كل ما هو نقيض للمسار التاريخي الثوري للمجتمع السوري. التدخل الخارجي بهذا المعنى مرشح للنجاح حيثما فشلت السلطة. أي إشعال الحرب الأهلية، وسرقة الثورة من أهلها، من القوى الشعبية، وإيداعها من جديد بين أيدي البورجوازية، التقليدية والعسكرية. إن أخطر ما يعنيه التدخل الخارجي في سورية، هو أنه سيحتل الفضاء السياسي بصورة كاملة، ويُلغي التاريخ السياسي للشعب السوري، ويحكم الدين بصورة ناجحة، بحيث يَنجح في إشعال الحرب الأهلية، حيثما فشلت السلطة في ذلك، عندما كانت تحاول توظيف الدين بجميع أشكاله، الطائفية وغير الطائفية، من أجل ترسيخ سلطتها السياسية والاقتصادية.
هذا يعني، بالتالي، أن التدخل الخارجي والطائفية متلازمان، ليس من حيث هما خطران يهدِّدان البلاد حسب ما تروج له كل من السلطة واليسار الرسمي وشبه الرسمي، "هيئة التنسيق" إياها، كي ما ترهب الثورة والثوريين، وإنما من حيث تناقضهما مع التاريخ المجتمعي السياسي لسورية. فالحركة الوطنية والثورية القومية والشيوعية لم تستنجد يوما بالعسكر الأجنبي، ولم ترفع أبدا منذ القرن ما قبل الماضي شعارات الحرب الطائفية. التدخل الخارجي لم يحتل يوما منذ استقلال سورية في العام 1948 ، ويتمدد ليملأ الهيئة السياسية لسورية. سورية "قلب العروبة النابض"، أنجبت أول حكومة عربية غداة الثورة العربية الكبرى والتحرر من الإمبراطورية العثمانية، وتضامنت مع الفلسطينيين في لبنان عندما كان الجنرال الجلاد حافظ أسد يقصف مخيماتهم، وتَعْرِف حاليا ثورة شعبية شملت كل مكوَّنات المجتمع في سورية من فن وأدب وحركات اجتماعية، بما في ذلك ثورة المعرفة والسياسة من حيث هي أم المعارف، فكانت ثورة الخامس عشر من آذار موضوعاً لتجديد المعرفة العلمية المادية بالثورات. فإذا ما استنجد المجلس الوطني السوري بالتدخل الأجنبي أو نادى ب/"توفير الحماية الدولية للمدنيين"، فإن الاخوان المسلمين سوف يرتكبون على هذا النحو أعظم خيانة لهم للحركة الديمقراطية والقومية التحررية، وبحق الشعب السوري. الاخوان، ومن لف لفهم تحت قبة "المجلس الوطني" إياه بإسطنبول الأطلسية، يتحملون مسؤولية هذه الخيانة العظمى بحق الديمقراطية والحرية.
فلنحذر، إذن، من عودة سورية إلى إلإثنيات التي كانت أحد المكوِّنات المجتمعية لنمط الاستبداد الشرقي في العهد العثماني. ذلك أن التدخل الخارجي أيا كان شكله، بما في ذلك أسطورة "المراقبين الدوليين لحماية المدنيين"، ما أن يملأ الفضاء السياسي لسورية، فإن من شأنه أن يزيح جانبا السياسة المجتمعية التي تحرِّك ثورة الخامس عشر من آذار، ليحل محلها التآمر على الثورة والقوى الشعبية ، فتصبح سياسة العدوان المعادية للثورة هي السياسة كلها، وترفع الدين آلة مدمِّرةً لإحراق المجتمع وثورته. سياسة العدوان الخارجي إذا ما اكتسحت الفضاء السياسي لسورية، فإنها ، بإيجاز شديد، ستسخِّر الدين لتدمير المجتمع السوري. فإذا ما حدث ذلك، فإن الحرب الأهلية ما بين الإثنيات، بعدما تُعطِّل واشنطن وبروكسيل التاريخ السياسي لسورية بطائرات الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لن تجد أي عائق سياسي أمامها، طالما يُلغي هكذا تدخل التاريخ السياسي لسورية. سوف تصبح، حينئذ، الطائفية هي سيدة الموقف بلا منازع. إن الحرب الأهلية الطائفية والتدخل الخارجي متعايشان، متلازمان ومتداخلان، على مسار سيرورة زمانية تاريخية ومادية من الصراع، والتطور، والتناقض، والإلغاء، وإلغاء الإلغاء.

من نهاية الاستعصاء السياسي إلى المعضلة الإيديولوجية
انتهى الاستعصاء السياسي مع الإعلان عن تأسيس "هيئة إعلان دمشق"، وما رافق ذلك من حالات من التحرك السياسي تمثَّلَت بخلافات ما بين الأحزاب المشاركة في الهيئة، سواء ما كان منها تنظيميا وذات صلة بأدائها ووظائفها، أو سياسيا وثيق الصلة باستراتيجيتها. غير أن نهاية الاستعصاء، وإن كان أعاد الحركة للمجتمع السياسي، فإن الهوة التي كانت وما تزال تفصل ما بين المجتمع السياسي والمجتمع بقواه الشعبية، بقيت واسعة. لم تٌردَم هذه الهوة مع انطلاقة ثورة الخامس عشر من آذار، ولم يتَّحد المجتمع السياسي بمجتمع القوى الشعبية حتى اليوم، أو ما بعد مرور ستة شهور وأكثر على بدء الثورة.
السبب الذي ما يزال يَحُول دون إنجاز هذا التلاحم هو نفسه، القديم الحديث، والذي كان يَفْصل ما قبل الثورة، ويفصل اليوم ما بعدها، ما بين القوى الشعبية والأحزاب. السبب السياسي واضح، صريح وظاهر. ف/"هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني الديمقراطي" تمتنع حتى غاية اليوم عن رفع شعار "إسقاط النظام وإعدام بشار"، وتترك الباب مفتوحا أو شبه مفتوح على الحوار مع السلطة، وتَعتَقد أن الحالة في سورية ما هي سوى "أزمة وطنية" ذات شقين. الأول يتمثَّل بركون السلطة إلى الحل الأمني والعنف، والاستعاضة عن الحلول السياسية والحوار الوطني بإيديولوجية الدبابة. والثاني يكمن في "الحركة الاحتجاجية"، و"الانتفاضة الشعبية" التي تطالب بالحريات السياسية كحق التظاهر السلمي، والديمقراطية البرلمانية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وسحب قوى الأمن والجيش من الشوارع، والبدء بحوار وطني مع السلطة من أجل إجراء الإصلاحات السياسية المطلوبة من حريات وديمقراطية برلمانية. لا محلَّ هنا، حسب منطق "الهيئة"، في تحليلها للحالة في سورية، للبورجوازية العسكرية التقليدية الحاكمة، وللمطالب المعيشية والحياتية لأصحاب الدخل المحدود وحلفائهم من فقراء الطبقة الوسطى، والبروليتاريا الرثة، والجُوَّع المرضى الجُهَّل بدون طعام وطبابة وتعليم وعمل. إنها تُهمل بصورة كاملة هذه المكوِّنات الموضوعية المادية، وتلغي، بالإضافة إلى ذلك، موقع الحالة السورية في العولمة النيوليبرالية، والإمبريالية الجديدة، والوضع الإقليمي، والأزمة العالمية لرأس المال. "الهيئة" تتحرك في الحيِّز السلطوي، وتلف بسياستها وتدور حول السلطة، منها وإليها. فكأن "الأزمة الوطنية" إياها، وليس الثورة التي لم تحظ باعتراف الهيئة بها، تُخْتَصَر بعبارة واحدة هي "الحل الأمني" و"الحوار الوطني" بمشاركة السلطة، ليس غير. لذا، فإن مجتمع الثورة، مجتمع القوى الشعبية، تجاوز بمسافات زمانية بعيدة المجتمع السياسي. تَراها لا تأبه به. هذا السبب السياسي ذو مسمَّى، ألا وهو العقلية السلطوية الإصلاحية التدريجية ليسارنا السوري الذي يَحمل على أكتافه معوَّل الإصلاح ويجري وراءه نحو الخلف (!!) منذ خطاب العرش ("خطاب القَسَم" لأعظم كذاب في تاريخ البشرية المدعو بشار أسد)، وحتى غاية الشهر السابع من تاريخ الثورة في سورية. عقلية سلطوية تَرسَّخَ لديها يقينٌ وثوقيٌ مؤداه أن السلطة مفتاح الإصلاح السياسي، وأن المجتمع مشلول وعاجز عن قيادة البلاد نحو التغيير. "الهيئة" ك/"المجلس" سجين السلطة، قابع في القلعة الحصينة والمُغلقة للسياسة السياسية، مُتَحَصِّن وراء أسوارها العالية لأنه يخشى الجماهير، ويهاب ثورة القوى الشعبية.
هذا السبب يمتد ويستطيل ليطال "المجلس الوطني السوري". هذا الأخير أو الآخر لا يختلف من حيث الجوهر عن الهيئة. فالثورة التي نالت الاعتراف من المجلس تستدعي الخلاص منها بأسرع وقت ممكن كي لا تمتد إلى أركان البورجوازية السياسية، وبحيث تتوقف قبل أن تستحوذ على مضمونها المجتمعي، فتمس نمط الإنتاج الرأسمالي بالإصلاح. كي ما تتوقف الثورة، فإن المجلس يستعين بدوره بالسلطة، ليست السلطة السورية، وإنما السلطة الدولية، الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، ومنظمة الأمم المتحدة من حيث هي، ما بعد سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، الزراع المسلَّح للإمبريالية الجديدة. حتى أن الحلف الأطلسي حل محل القوات الدولية !! سلطة التدخل الخارجي، هي التي تكفل للبورجوازية الحفاظ على هيمنتها السياسية والمجتمعية، وتَحُول، علاوة على ذلك، دون إعادة توزيع الثروة الوطنية، وتُعَوِّق بناء دولة جديدة بأفق مجتمعي تُقِر دستوريا بالديمقراطية المجتمعية إلى جانب الديمقراطية السياسية، وترعى مجتمعيا وحياتيا أصحاب الدخل المحدود والعاطلين عن العمل وحلفائهم الطبقيين. السلطة الخارجية إذا ما تمكَّنًت من الاستيلاء على الهيئة السياسية ضمن التكوين الاقتصادي المجتمعي لسورية، فإنها ستسيطر على الدين لتحركه حسب مصالحها الأنية. لا بأس، بهذا المعنى، من أجل سد الطريق أمام الثورة المستمرة، حسب منطق المجلس، من إضافة الانقلاب العسكري الذي يُفَرِّق لجان التنسيق الشعبية ويُشتِّتها في محالها الجغرافية، بما يَحُول، فوق كل شيء، دون تشكُّل سلطة سياسية مجتمعية تَفْرض نفسها رقيبا على السلطة، وتستمر في تقليب المجتمع على قادته من رجال دولة وعسكريتاريا.
في هاتين الحالتين، فإن السلطة السورية والسلطة الدولية هي الحل المطلوب لإنهاء الثورة، سواء من وجهة نظر "الهيئة" اليسارية، أم من وجهة نظر "المجلس" اليميني. بيد أن ما كان سببا سياسيا يَحُول دون سد الهوة ما بين مجتمع القوى الشعبية والمجتمع السياسي، ليس إلا الحالة الظاهرة لسبب آخر وأعمق يَنتصب أمام الثورة ليعترضها، ويزج بها في معضلة، هي ما يعترض طريقها من عراقيل تقف دونها ودون الانتصار على السلطة والاستمرار خلال المرحلة الانتقالية، وهي أشد وأكثر صعوبة من إسقاط النظام، لبلوغ أهدافها المتجدِّدَة والمتطورة. معضلة الثورة ذو حدّان. الحد الأول يتعلق بالتكوين الطبقي والإيديولوجي للثورة. إن هذا التكوين ماثل أمامنا من حيث هو مُكَوَّنٌ من ثلاث علاقات متداخلة، وهي الطبقة المجتمعية، والتنظيم السياسي، والإيديولوجية السائدة. فإذا كان الثوار الأحرار ينتمون للطبقات الشعبية في المدن وضواحيها، وصغار الفلاحين في الريف والبلدات، وكانت الأحوال الاقتصادية والمجتمعية للطبقات الشعبية هي المحرِّك للثورة، وكانت، فوق ذلك كله، الإيديولوجية السائدة لدى المجتمع السياسي، يمينه ويساره، ليبرالية، فإن غياب البورجوازية عن الشارع الثوري، يهوي بالثورة في الفراغ. إذ، كيف تسود الإيديولوجية الليبرالية في زمان الثورة الشعبية للمُسْتَغَلِّين، المظلومين والمُضْطَهَدين، فيما تختفي البورجوازية الليبرالية من الشارع بالرغم من أن أيديولوجيتها هي السائدة !! هذا هو الحد الأول من المعضلة، أي انتشار السياسة والإيديولوجية الليبرالية في ما البورجوازية غائبة عن ساحة الثورة. أضف إلى ذلك، أن هيمنة المجتمع السياسي، المنافق أو المعادي للثورة، على ساحة العمل السياسي، يزج ذلك كله بالثورة في صميم معضلة ما تزال تفتقد للحل في الساحة الميدانية للثورة، سواء من حيث الممارسة أم من حيث الوعي. الحل هنا هو، حسب الحد الأول للمعضلة، يتمثَّل بهبوط الشرائح الميسورة والتجار الكبار والصناعيين إلى الشارع لقيادة الثورة تحت مظلة أيديولوجيتهم. وانقلاب القوى الشعبية على نفسها بحيث تضحى هي نفسها المجتمع البورجوازي !! لكن المجتمع السياسي، والبورجوازية المتحالفة مع السلطة، ما زالوا يتمسكون بسلطتهم وتحالفهم مع البورجوازية العسكرية الشرقية، إلى أن تميل موازين القوى لصالح الثورة، فيلتحقوا، حينئذ، بها لسرقتها وإجهاضها والحؤول دون استمرارها نحو أهدافها البعيدة والقريبة.
الحد الثاني للمعضلة يكمن في حاجة الثورة إلى التوسُّع نحو القواعد الشعبية، بما يكفل لها انتزاع السلطة، بعدما تستقطب الملايين ممن ما زالوا متردِّدين حيال الالتحاق بالثورة، تردُّدُهم حيال معضلة الإيديولوجية الليبرالية التي تُلًصَق بالثورة على الرغم عنها، وبأيدي المجتمع السياسي، يمينه ويساره. فإذا كانت الثورة هي ثورة الطبقات الشعبية، وكانت الإيديولوجية السائدة للثورة ليبرالية، أو ما تزال ليبرالية، فإن افتقاد الثورة لإيديولوجية ثورية يكبِّلها بمشكلات ما تزال تفتقد للحل، ويُقعدها، بالتالي، عن التوسُّع نحو الملايين من اصحاب المصلحة بالثورة، من أصحاب الدخل المحدود وحلفائهم الطبقيين. إن مشروع الثورة، إذن، برنامجها السياسي وأيديولوجيتها، ليبرالي، في ما البورجوازية هي المسيطرة على السلطة الليبرالية الشرقية الحاكمة، بورجوازية لا علاقة لها حتى اليوم بالثورة. هذا من جهة. الثورة، من جهة ثانية، هي ثورة الطبقات الشعبية، لكنها تفتقد لإيديولوجية ثورية. إن ثورة الخامس عشر من آذار تقع حتى غاية اليوم ما بين هذين الحدين لمعضلة واحدة لم تجد حلا لها في الشهر السابع من تاريخها. المعضلة بإيجاز شديد ذات تكوين إيديولوجي بعدما كان الاستعصاء، ما قبل الثورة، سياسيا. إنه افتقاد ثورة القوى الشعبية لإيديولوجية ثورية.
الثورة، إلى ذلك، في ما هي تحاول إنقاذ نفسها من المحاولات الرامية إلى إجهاضها، والتي تُرَوِّج من أجل سرقة الثورة من قواها الشعبية شعاري "الحوار مع السلطة" و"توفير الحماية الدولية للمدنيين"، متعثِّرةٌ بمعضلة، هي عجزها حتى غاية اليوم عن التوسُّع نحو الملايين من قواها الشعبية، لافتقادها إلى الاستراتيجية الثورية والإيديولوجية الثورية. هي معضلة مستعصية عن الحل حتى غاية اليوم ما دامت العملة السياسية الرائجة تتداول عملتين اثنتين مزيَّفَتين. إحداهما حلٌ يقول: إن "الحوار الوطني مع السلطة" هو الحل، والثاني يردِّد إن التدخل الخارجي أو "توفير الأمن الدولي للمدنيين" هو الحل. المعضلة بتعبير آخر وثيقة الصلة بموازين القوى المجتمعية والسياسية، والتي تُرجِّحُ كفة السلطة والتدخل الخارجي، وتُخَفِّف، إلى حد كبير، من الوزن التاريخي للقوى الشعبية عبر التاريخ السياسي لسورية. بتعبير آخر، فإن حلُّ هذه المعضلة الإيديولوجية، يتوقف على ظهور يسار ثوري من صلب الثورة مسلح بإيديولوجية ثورية وبرنامج سياسي يستجيبان للمطالب الشعبية والقومية والأممية، بحيث ينجح اليسار الثوري بتعبئة الملايين من الحلفاء الطبقيين للثورة.
غير أن استمرار الثورة بالاعتماد على قواها الذاتية، يواجه في جميع الأحوال عقبة جديدة، ألا وهي مقولة "حقن دماء الشعب" التي تُجْتَر ليلا ونهارا في معدة المجتمع السياسي، ب/"هيأته" و"مجلسه". هذه المقولة، ما هي سوى ذريعة يتخفى وراءها خونة الثورة وقواها الشعبية، لتبرير إما مناداتهم بالتدخل الخارجي، أو لتبرير العفو عن السلطة والدعوة إلى الحوار معها من أجل الإصلاح، وباسم الدم الذي يراق. أما إذا ما توفَّرت الظروف الموضوعية لثورة الخامس عشر من آذار، الظروف السياسية والإيديولوجية سالفة الذكر، فحافظت هذه الثورة على خصوصيتها التاريخية وأصالتها الثقافية ومعاصرتها العالمية، فإنها سترد على مقولة حقن الدماء بمقولة "هِبُوا الغالي والرخيص من أجل الثورة". حينئذ، فإن الثورة تتخطى معضلتها لتأخذ معرجا يقودها إلى مرحلة أعلى من الثورة. حيث يَظهر، هنا، بالمستقبل القريب، أن الانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة المسلحة، بعدما تكون تنسيقيات الثورة اتحدت في ما بينها وراء قيادة سياسية مركزية واحدة، وبعدما تكون ثورة التنسيقيات، علاوة على ذلك وفي المقام الأول، حلّت المعضلة على هدى من استراتيجية ثورية وإيديولوجية ثورية، يظهر، حينئذ، أن هذا الانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة المسلَّحة أضحى ضرورة تمليها المعطيات والظروف الموضوعية من أجل إسقاط النظام، وتغيير المجتمع والدولة.

في سورية نمط جديد من الثورات: "ثورة التنسيقيات"
هذه المعضلة الإيديولوجية للثورة تسير، بالإضافة إلى ذلك، على مسار من سباق محتدم ما بين المجتمع السياسي وتنسيقيات الثورة. ف/"المجلس الوطني السوري" يتباهى على الملأ بأنه يضم بين أعضائه ممثلين عن تنسيقيات الثورة، و"هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الوطني الديمقراطي" تتفاخر بدورها بأن التنسيقيات من مكوِّناتها الرئيسة. حتى أن عددا من قادة اليسار القديم يزعم أن التنسيقيات هي وليدة نضالاته. هذا السباق لا يشبه سباق الخيل في ملعب الفروسية، وهو ليس مباراة للجري من أجل الفوز بالمرتبة الأولى في بطولة. هو أعقد من المعاني الرائجة للسباق ما بين قوتين سياسيتين تتنازعان لفوز إحداهما وهزيمة الأخرى في معركة انتخابية تشريعية لتقاسم السلطة بين الأكثرية والأقلية (السياسية وليس الطائفية). إنه صراع من أجل البقاء لأحد الطرفين، يَنفي في كل طرف الطرف الآخر. هذا، بالإضافة إلى أن الصراع ما بين المجلس والهيئة، وضمن تشكيلات كل من هاتين المنظمتين على حدة، متأتٍ من الأمراض المزمنة التي تلازم المجتمع السياسي في سورية، كالشلَّة، والعصبة، والعلاقات الأسرية وروابط الدم والقبيلة، والزبائن والأعوان، والمزاجية، والنرجسية، وجنون العظمة الفردي منه والجماعي، وكل هذه العيوب المسلكية التي تصبح طبيعة ثانية مكتسبة من مخلَّفات القمع الذي يكرِّس الماضي، ويكبت الشخصية الوطنية كبتا مرضيا. ناهيكم أيضا والخلافات المتراكمة عبر تاريخ من حالات من الصراع السياسي، حيال السياسة العربية الرسمية، والسياسة الخارجية للدولة إبان الحرب الباردة، قيادة خالد بكداش، والوحدة السورية المصرية، وجريمة الانفصال الأسود، وسياسة الاخوان المسلمين ومسألة التحالف معهم أو عزلهم، والثامن من آذار، و23 شباط/ فبراير، والحركة التصحيحية ودستور الأسد، والموقف من القرار الدولي 242 و338، ومستقبل إسرائيل، وحروب الجنرال في لبنان والمخيمات الفلسطينية، وموقف سورية الرسمية من الحرب العراقية الإيرانية، ثم موقفها من احتلال العراق، والموقف من "الإصلاح" ما بعد انتقال المُلك من الأب إلى الابن، والمفاوضات السورية الإسرائيلية بوساطة الأفندي في تركيا، بالإضافة إلى الخلافات حيال القضية الكردية، والتحالف السوري الإيراني، والسلام والحرب مع إسرائيل إلخ، وهكذا دواليك، إلى أن تَظهر الخلافات التي تُغْرِق المجتمع السياسي في سورية حيال مؤتمرات أنطاليا واسطنبول وبروكسيل والدوحة. مؤتمرات هي صورة عن الخلافات المحتدمة حول تعريف الثورة وبرنامجها وأيديولوجيتها (مؤسسات الدولة، وسلطاتها، وقوانينها، وتشريعاتها، وأمنها، وثقافتها.
تارة هي "ثورة الكرامة"، وتارة أخرى هي "ثورة الخبز والحرية"، فضلا عن تسميات ما دون الثورة، "انتفاضة"، "حركة احتجاجية"، "حراك مجتمعي". إن كل هذه التسميات وإن كانت لا تخلو من مصداقية شكلية وإشكالية ، إلا أنها لا تغور إلى أعماق ومضامين وأهداف ثورة الخامس عشر من آذار. إن ما يميز هذه الثورة عن "ربيع الثورات العربية"، والثورات الشيوعية في روسيىا والصين وكوبا، والثورات الخضراء والبرتقالية والبنفسجية وغيرها من ثورات العالم التي عُرِفَت تحت شتى المسمَّيات على إثر سقوط حائط برلين، ما يميِّزها عن هذه الثورات، بالرغم من أن تقاسم الطبقية والقومية والتحرر ومناهضة الاستعمار والإمبريالية، يَجمع بينها، هو خصوصيتها التاريخية. ليس من حيث هي ثورة "الأكثرية" (السنَّة) أو "الكرامة" أو الفسيفساء أو الحرية والديمقراطية والخبز. إنها "ثورة التنسيقيات". هذه هي خصوصيتها التاريخية. وهي تُعَرَّف بها.
ثورة التنسيقيات لأن القوى الشعبية غير داريه بما يجري في الأعلى، من فوق، وفي القمة. في الغرف والقلاع المُغْلَقة والأسوار العالية حيث تتجسَّس أحزاب وهيئات المجتمع المدني بعضها على البعض، وتناوِر، وتتكتِك، وتَعْقُد الاتصالات السرية في جميع الاتجاهات، وتخطّط للانقلابات بشتى أنواعها، من انشقاقات ضمن الحزب الواحد، وفي الجيش. إنها نسخة طبق الأصل عن السلطة وأجهزتها ومجالسها، تسيطر على المجتمع وقواه الشعبية من الأعلى، وهي، في كل ذلك، امتداد للسلطة وجهاز من أجهزتها، إن هو أطاح بسلطة وغيَّر في تشكيلاتها الرسمية وإداراتها، فإنه يحرس دوما النظام القديم، الاقتصادي منه والسياسي. لذا، فإن القوى الشعبية تَراها لاهية اليوم عن الانقياد لسين وجيم من قيادات المجتمع السياسي. لاهية عنهم في تضميد جراحها وتهيئة الضمادات لليوم التالي. فلقد دَخلت القوى الشعبية الجائعة المظلومة المُسْتَغَلّة المقهورة والمقموعة في حرب مع بورجوازية العسكر والوسطاء. نعم هي حرب، وحرب غير متكافئة حتى غاية اليوم. العامل والفلاح والصنائعي الحرفي، وصغار أصحاب المهن الحرة، والحلاق، والموظف، والطبيب، والممرض، والجندي المنشق عن الجيش، والمحامي، والخادم، والأجير، والحمَّال، وصغار الباعة، والبقال واللحام وأجراؤهما، وملايين العاطلين عن العمل، والملايين ممن يعيشون تحت مستوى الفقر، والتلميذ والطالب، هم الذين يلقِّنون الأسلحة بأجسامهم ودمائهم ذخائر حية لهزم نظام الاستعباد والسخرة والاستغلال والظلم، والجوع، والبرد، والمرض، من خارج القلعة الحصينة المغلقة، وفي طينة المجتمع وعلاقات الإنتاج، ويدركون ويَعُون، رويدا رويدا، بممارساتهم القتالية والحربية، برنامجهم السياسي والنظام المعرفي لممارساتهم الثورية. إن "رجل الشارع" في سورية يُعلن اليوم بصوت مرتفع أن لا فائدة من "السياسيين".
ثورة التنسيقيات بدأت، وما تزال في شهرها السابع، في حالتها العفوية. ذلك أن انعكاس الأوضاع المعيشية والحياتية لدى وعي وممارسات القوى الشعبية، انعكاسٌ لكل ما تعانيه في حياتها اليومية ومصيرها ومستقبلها المجتمعي والسياسي والقومي من آلام وإحباطات وعذاب وظلم واستغلال وإهانات. إن كل هذه المعطيات المادية تُتُرجِم، من جهة، عن نفسها منذ سبعة أشهر في ممارسات ثورية، تلقائية وعفوية مناهضة للسلطة. وتُعَبِّر، من جهة ثانية، عن معرفة سياسية بالتاريخ مجبولة بعجينة آلامها وعذابها. عجينة الآلام والعذاب، هي نفسها ترجمة عن أوضاعها وظروفها المادية التاريخية والموضوعية. كي ما تنتقل، اليوم والآن، هذه المعرفة والممارسة من الحالة العفوية والانعكاسية إلى العمل والمعرفة المنظَّمة بمعناها السياسي المادي، حيث تتكون الاستراتيجية الثورية، والبرنامج السياسي الثوري الذي يستجيب للواقع، وحيث تندرج وتنساق، بصورة معرفية منظَّمَة، كل الممارسات الثورية في الظروف الموضوعية للصراع المجتمعي وثيق الصلة بنمط الانتاج الاقتصادي، والوضع العالمي والإقليمي، والتكوين الاقتصادي المجتمعي، والتشكيلة السياسية، كي ما يُنْجَز هذا الانتقال من الممارسة والمعرفة العفوية إلى الممارسة والمعرفة السياسية المادية والتاريخية، فإن التنسيقيات لن تجتاز العتبة ما بين الممارسة والمعرفة العفوية، والممارسة والمعرفة المُنَظَّمَة والمادية، ما لم يَنبَثق عنها يسار ثوري يوحِّد ما بينها في تنظيم مركزي واحد، ويسلِّحها ببرنامج سياسي واستراتيجية ثوريين، ويُحَمِّلها أيدولوجيةٍ تَدْحَض وتفنِّد مؤسسات المعسكر المعادي للقوى الشعبية. ما بعد إنجاز هذا الانتقال، فإن التنسيقيات الثورية تستطيع أن تَحمِل مُكْرهة، وبالرغم عنها، السلاح ضد السلطة لإسقاطها.
إن التنسيقيات في سورية وُلِدَت من رحم مجتمع القوى الشعبية، ليس، فقط، كي تقود ثورة الخامس عشر من آذار إلى إسقاط السلطة، وإنما كي تخوض، علاوة على ذلك وفي المقام الأول، معركة الثورة خلال المرحلة الانتقالية، ومن ثم الحرب السياسية المجتمعية من أجل ترجيح موازين القوى السياسية إلى جانب الأكثرية المجتمعية، أي أصحاب الدخل المحدود وحلفائهم، على طريق التطور والنمو والازدهار.
لقد تكوَّنت التنسيقيات في وقت مبكر من ثورة الخامس عشر من آذار، ليس من رحم المجتمع السياسي الذي كان ينتظر "الإصلاح السلمي التدريجي" وينام على وسادته الناعمة، وإنما ظهرت على الساحة الميدانية من أعماق تاريخ من حالات نضالية، قومية وطبقية وتحررية ووطنية تمتد وتمتد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. حتى إذا ما اختل التوازن الهش الذي كان مستقرا بين الأجور وأسعار المنتجات، ومنها بوجه خاص المواد الغذائية والبضائع ذات الأهمية الحيوية لحياة الأسر المُفْقَرة والتي تعيش، حسب عارف دليلة، دون مستوى الفقر، ويزيد عددها، حسب المصدر المذكور، عن خمسين بالمائة من عدد السكان، وقد تفشَّت البطالة وبوجه خاص بين الشبان ما دون الثلاثين سنة من العمر، حتى إذا ما اختل التوازن الهش في نمط الإنتاج الرأسمالي في سورية بين الاستثمارات التي وُظِّفت في الاقتصاد الريعي بدل أن تُسْتَثمَر في الاقتصاد الإنتاجي، ورَجَحت كفة الاستثمارات المالية على الاستثمارات الصناعية والزراعية الإنتاجية، وعمَّت، بالإضافة إلى ذلك، أزمات السكن والمستشفيات والمدارس والجامعات، وولَّت المساعدات المالية التي كانت تُغدَق من الأمراء والمشايخ على النظام السوري بدون حساب بعدما انتهى العهد الذي كان فيه الجيش السوري يتمختر في لبنان، وانتهى ايضا العهد الذي كانت السلطة تُسَيَّر اقتصاديا باقتصاد الدولة الاجتماعية الراعبة بفضل الثروة التي كانت تهطل على النظام من آل سعود وأمثالهم في شبه الجزيرة العربية والخليج، حتى إذا ما اجتمعت كل هذه الظروف الموضوعية المادية، انفجرت ثورة عفوية تفتقد للبرنامج السياسي والاستراتيجية والقيادة السياسية. بتعبير آخر، إن التنسيقيات يتيمة الوالدين، السياسة المادية والإيديولوجية الثورية، تدلَّل بقوة، ليس فقط على انعدام أي رابط لها بالمجتمع السياسي، وإنما تفيد، علاوة على ذلك، أنها خرجت على الأحزاب إن لم يكن ضدها، وتقدَّمت بصورة عفوية على مسارٍ من طريق يمتد عبر الزمان؛ هذا النهر المتجدِّد المياه والمتغيِّر، وهو نفسه التاريخ.
كانت شعارات الثورة بدأت في مطلع الأمر بمناهضة الفساد العام والشامل، قبل أن تَطغى عليها الشعارات المطالبة بالحرية والديمقراطية. إلى أن دخلت التنسيقيات الثورية، ما بعد مرور فترة وجيزة، بمعركة مع المؤتمرات التي تلاحقت في خارج البلاد وداخلها، وتمخَّضت عن برامج واستراتيجيات زجَّت بالثورة إما تحت أقدام السلطة أو في أحضان النظام الرأسمالي العالمي، وخَلَت من أية إشارة إلى علاقة الثورة بالأحوال المعيشية المتردية لأكثرية الشعب، ولم تتبنى المطالب المعيشية والحياتية للقوى الشعبية، وفسخت التكوينات السياسية والمجتمعية والاقتصادية لسورية وثورتها عن الأزمة العالمية للنظام الرأسمالي، والعولمة النيوليبرالية، والإمبريالية الجديدة. فإذا ما جاء الشهر السابع من تاريخ الثورة، تكشَّف المجتمع السياسي عن انحرافات خطيرة أو خيانات للثورة صريحة. هنا "زعيم" سياسي ميتافيزيقي يؤكد "أن المجتمع العربي والدولي يتعيّن عليه وقف استباحة دماء الشعب السوري"، وهناك "قيادي" مثقف من التيار الليبرالي يطالب ب/"لحماية الدولية للمدنيين"، وفي كل مكان يجول هؤلاء وأولئك عبر العواصم العربية والأوروبية وواشنطن والقنوات التلفزيونية مطالبين دول العالم بالاعتراف بمجلسهم اليميني الليبرالي، صديقَ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. إن التنسيقيات الثورية، إذا ما جَمَعْنا حصاد الشهور السبعة الماضية من تاريخ الثورة، واستشفَّينا آفاق المستقبل، هي وحدها صاحبة الثورة، وذاتها الحية، المتناقضة والمتطورة. إنها وحدها الباقية وسط مهرجِّين في اسطنبول والقاهرة وغيرهما من عواصم العالم يستجدون رؤوس الأموال لسرقة الثورة أو إجهاضها قبل أن تقضي عليهم التنسيقيات، وتحيلهم من مستحاثات تاريخية إلى غبار منثور ومدثور.
خلال سبعة شهور من تاريخ الثورة، فقد أضحت التنسيقيات، بالرغم من أنها متناقضة في ما بينها، تفتقد إلى الانسجام والتناغم، جزءً لا يتجزأ من لبنة المجتمع السوري. هي التشكيلة السياسية المجتمعية التي تتكاثر من حيث الحجم، وتكتسب، من حيث الكيف، خبرة ووعيا بالعمل الميداني. بل، وإنها تقود الثورة بأسلوب سلمي حتى اليوم، في مواجهة نظام عسكري استغلالي قوامه الأمن والعنف. أضف إلى ذلك، أن التنسيقيات هي التي تَكْشُف يوما بعد يوم عن مدى قماءة هذا المسخ الذي يَمنح نفسه صفة "تمثيل الشعب السوري"، من حيث هو المجتمع السياسي المنبثق عن المجتمع. هي، التنسيقيات، التي تؤكد كل يوم أنها ليست، فحسب، مستقبل الثورة، على عاتقها يتوقف استمرار الثورة واتساعها وتغيير المجتمع والسلطة معا، وإنما هي أيضا مُكَوِّن من مكوِّنات مستقبل سورية المجتمعي والسياسي بصورة عامة. لذا، فإن أي برنامج سياسي ثوري لا يدعو إلى تعزيز التنسيقيات، والالتفاف حولها، أو الاندماج بها، ويُحْجِم عن المناداة بالعمل اليومي الدؤوب من أجل تطوُّرِها واتحادها في منظمة ثورية تَجْمع ما بين المركزية واللامركزية، ولا يَعْتَرف أيضاً أن التنسيقيات هي البديل للمجتمعين السياسي والعسكري، إن أي استراتيجية ثورية تمتنع عن منح التنسيقيات دورا سياسيا مجتمعيا في الدولة والمجتمع الجديدين الآتيين، أو المولودين من الآن فصاعدا، إنما تحفر للثورة قبرا جدرانه قلعة مصفَّحة بهياكل الدبابات السورية والأطلسية. لا خيار سياسي مادي وتاريخي آخر أمام الثوار الأحرار سوى التنسيقيات. فلنتفحص الساحة الميدانية للمعركة الناشبة داخل المجتمع السوري، من جهة، وبين التنسيقيات والمجتمع السياسي، من جهة ثانية.
ثمة خندقين اثنين في جبهة الثورة. التنسيقيات التي تسير وتُسَيِّر الثورة، والثورة المضادة من "هيئةٍ" و"مجلسٍ" يتربعان فوق التنسيقيات لسوقها كالدواب إما إلى مرأب الجيش، وإما إلى مستودعات الأطلسي في قطر وتركيا. ما بين هذين الخندقين متسع من المكان يتسع لانقسام الجيش على نفسه. الأمر الذي سيؤدي، بالتالي إلى إسقاط الحكم دون أن يُمَسَ بالنظام، وينتهي إلى تحديث ارتباطات السلطة السورية بالعولمة النيوليبرالية وامبريالية الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وتكريس السلطة والمجتمع السياسي، وتكريس الدولة في خدمة وحماية الرأسمالية. في جميع الأحوال، تبقى التنسيقيات وحدها مصدراً للثورة ومستقبلها. إن البرنامج السياسي الثوري هو المؤهَّل لإمداد التنسيقيات، طالما أضحت جسما محرِّكا في المجتمع السوري مجبولا بعجينته، بأسباب البقاء متن مؤسسات الدولة الحديثة المقبلة على المدى البعيد، فيعترف بها الدستور الجديد ويكرِّس لها، من حيث هي مجالس أو سلطة رابعة للرقابة على السلطات الثلاث. باختصار شديد: إن تكوين التنسيقيات، ممارساتها وأفكارها، مهما كانت أدنى من المعرفة المادية المنظَّمَة في الوقت الراهن، فإن هذا التكوين مزروع في تراب مجتمع القوى الشعبية، ولن تستطيع أية سلطة بعد اليوم أن تقتلع من الميدان ثمرة خضراء تبكي وتفرح وتلمس بحواسها، وتتحرك وتقاتل. ثمرة لشجرة يانعة تطورت حواسها إلى أفكار، وأفكارها إلى ثورة متجدِّدة كانت جاءت منها.
لكن التاريخ، هذا المعلوم المجهول، وإن كان، من حيث هو موضوع المعرفة المادية، موضعا للتنبؤ بما يحمله من احتمالات، إلا أن ما هو مخفٍ في التاريخ من جراء شموليته وكليته، وبالرغم من أن السياسة المادية هي الكل، فإن ما هو باطن ومجهول في التاريخ لا يتبيَّن للمعرفة والسياسية الماديتين إلا ما بعد ظهور ما هو مخفِ من التاريخ إلى حيز الواقع. ولا يكون للمعرفة الإلمام به إلا بعد مضي زمنٍ قوامه التغيُّر والتحوُّل والتطور والصراع المجتمعي، السياسي والإيديولوجي. فإذا ما تغلَّبت اليوم الدعوات إلى "توفير الأمن الدولي للمدنيين" من أجل ما يسمُّونه "حقن دماء السوريين على النداء القائل "اوهبوا كل شيء للثورة"، فإن ثورة الخامس عشر من آذار ستُجهَض وتُسرَق وتَتَقاسم مكاسبَها السلطتين السورية والرأسمالية العالمية. بيد أن التنسيقيات بحد ذاتها باقية، بالرغم من ذلك، للإعداد لثورة جديدة ناضجة، لن تلبث أن تشتعل بعدما يتبيَّن للسياسة والمعرفة الماديتين أن ثورة الخامس عشر من آذار لم تكن سوى حركة ثورية لما قبل الثورة.

خاتمة: ثورة السياسة، سياسة مادية
يُروِّج المجتمع السياسي الذي يُرهب الثوار الأحرار من الثورة لفكرة مؤداها أن "دماء الشعب لا تقَدّر بثمن"، وأن الانتهاء من الثورة بأسرع وقت ممكن "حقنا للدماء" ضروري وممكن، ما دامت الاستعانة بالمجتمع الدولي صاحب الزراع الأطلسية الملطَّخة بدماء الشعوب في البلقان والعراق وأفغانستان، وباكستان، وليبيا، إلخ، هي أقصر طريق بأرخص الأثمان. مقولة مقدَّسة، من وجهة نظر السياسة الليبرالية، النفعية، التجريبية، الكلاسيكية والماكيافيلية. إلا أنها، بالمقابل، ومن وجهة نظر سياسة مادية نقدية، تُفيد أن أصحابها يطمحون إلى إسقاط السلطة أو السيطرة على الحكم بدون ثورة، وذلك بالاعتماد على السلطات المسيطرة في سورية والعالم، إما بالانقلاب العسكري وإما بالتدخل الخارجي، ولسان حالهم يقول: إن التدخل أو الانقلاب العسكري يفيد المجتمع السياسي للخلاص من هذه الثورة "المصيبة" التي لا ندري من أي جاءتنا. إن دعاة التغيير والإصلاح بدون ثورة يطمحون "التحديث الديمقراطي" المزعوم ل/"دولة" وسلطة رأس المال، بحيث تُقنَّن المِلكية بحقوق جديدة ومصانة من قِبل الدولة وأمنها القضائي وعسكرها، وبحيث تَلتَحق أيضا سورية بالعولمة النيوليبرالية، وتَنضم إلى "السوق الحرة المتوسطية" المزمع تشييدها بقيادة الرأسمالية الأوروبية في نهاية العقد الحالي، وتُعرَض أيضا قوة العمل، وهي كل ما يملكه أصحاب الأجر المحدود من مِلكية، في سوق العمل الدولية والاستثمارات الرأسمالية العالمية، بأرخص الأسعار. إن "دولة القانون" المزعومة لن تكون، إذا ما جاءت على ظهر دبابات أطلسية أو سورية أو كلاهما معا، أكثر من دولة مسخ وسيطة ما بين سلطة الرأس المال العالمي، وسلطة البورجوازية السورية، العسكرية منها، الإدارية والتقليدية الشرقية.
إن ثورة الخامس عشر من آذار، أيا كانت الفرص المتاحة أمامها من النجاح أو الفشل والنهب، تَراها تُحْدِث اليوم، بالرغم من كل هذه الاحتمالات والتكهنات، واحدة من أهم الثورات. ثورة معرفة وعمل، ثورة عملياتية. ثورة أَنتجت التنسيقيات. التنسيقيات التي بثَّت الرعب في صفوف المجتمع السياسي الذي يجري وراء التنسيقيات لاهثا لا يدري كيف يقبض ويسيطر عليها، بعدما تجاوزت التنسيقيات كل الإثنيات الطائفية، والتعصب القومي، والمجتمع السياسي، والخطاب التخويفي للسلطة والسياسيين المحنكين، يمينيين ويساريين، وكات ثم صارت ثورة مستمرة، لا قيادة تسيُّرها في دهاليز فئران السياسة، ولا تنظيم يقمعها ويكبتها، ولا مذاهب فكرية جاهزة لكل زمان ومكان تعميها عن رؤية الحقيقة شفافة وعارية.
يا ويل السياسيين. هذه الثورة، بالرغم من أنها ما تزال حتى اليوم عفوية، وتفتقد للبرنامج السياسي والاستراتيجية الثوريين، فإنها هائمة على وجهها في الشوارع تطالب بإسقاط النظام وإعدام رموزه. بيد أن ما هو أهم من هذا وذاك، هو إنها لم تَسْقط في الخطاب الميتافيزيقي الديني منه، والأخلاقي، والفلسفي. إن هذه الثورة تحمل معها بوادر لقطيعة مع الدين والأخلاق والفلسفة، طالما هي تُعوِّل كل الآمال على الثورة، والعمل السياسي الثوري، من حيث هو المصدر والمعيار للدين والأخلاق والأفكار. إنها منفتحة، وهذا هو الأهم، نحو القطيعة مع سياسة السياسيين من شتى مدارس السياسة الليبرالية الكلاسيكية، طالما هي تصم أذانها عن سماع عويلهم، وتنتقد تصريحاتهم عبر قنوات التلفزيون، وترفض الانصياع لخطاباتهم. حتى أن الاعيب هذه القنوات واستعراضات نجومها من أهل السياسة المحترِفة، تتقدمها "الجزيرة" و"العربية"، بدأت تتكشف أمام الوعي العفوي للقوى الشعبية، من حيث هي تروِّج للثورة المضادة، الطابور الخامس وأعداء الثورة، في الدوحة واسطنبول وعواصم البلدان الرأسمالية. نعم، إن القوى الشعبية في سورية فقدت منذ عقود ثقتها بالسياسيين. لكنها، على كراهيتها لهم، لم تكره سياسة الثورة وتطورت مع الأحداث، وصَقَلَت وعيها، واستعدت بصمت للخامس عشر من آذار.
الثورة هي مصدر السياسة المادية. كانت الثورة ما قبل الخامس عشر من آذار، دفينة وإن كانت غير ميِّتة، مخفية وإن كانت متحركة، تحت المباني والمزارع والمصانع والمدارس والجامعات ودور الثقافة والأسواق ومخازن المواد الغذائية، ومستودعات المازوت ومحطات الكهرباء والماء، وما تحت أحزاب اليسار النائمة. هي الثورة المادية المتخفية دوما وأبدا تحت الأرض، والتي تظهر إلى ميدان المعركة عندما تتوفر الظروف الموضوعية والسياق التاريخي أمام ظهورها، فتجدِّد وتغيِّر الممارسة والوعي الثوريين. ويَحْدُث عنها ثورة معرفية. إن مادية التاريخ تستعد بصورة مستديمة، وإن كانت غير مرئية، لتجديد العالم وتجديد نفسها. الثورة مادة التاريخ تعيش في الأنفاق المتحركة للمجتمع تحت أسس المدن والمزارع والمصانع والأسواق في الأنفاق. إنها ثورة مادية مخفية، وإن كانت دوما حيَّةً، في أنفاق التاريخ والسياسة غير المرئية على السطح. هي القطيعة مع ميتافيريقا الدين والأخلاق والفلسفة كمصدر للسياسة، والانتقال منها مجتمعة ومتفرقة إلى التاريخ، مادية التاريخ، والسياسة المادية المستمَدَّة من التاريخ المجتمعي والإنساني، والحياة المتطورة. السياسة المادية مصدرها تاريخ الإنسان الاجتماعي، وتاريخ المجتمع والإنسان، وتاريخ الطبيعة والكائنات الحية. السياسة المادية هي الكل، كل التكوين الاقتصادي المجتمعي، وكل التشكيلة السياسية ونمط الإنتاج الاقتصادي، وقد تخلَّصت من كل سياسة مصدرها الدين والأخلاق والفلسفة، وانقطعت عنها تحت تأثير المتغيِّرات التاريخية. أول هذه المتغيِّرات ظهور التشكيلات المجتمعية الثورية التي تُحدِث ثورة في المعرفة والممارسة. أول هذه المتغيِّرات، أن الطبيعة والكائنات الحية تطورت وصارت إنسانا، ثم تحوَّلت الطبيعة والإنسان إلى مجتمعٍ، ثم أضحى الإنسان إنسانا مجتمعيا. عن هذه الحالات من التطور والتحوُّل نشأت السياسة المادية، من حيث هي وليدة التاريخ المادي الذي يُنتج السياسة الثورية من أجل تغيير المجتمع والعالم.
التنسيقيات هي وحدها التي تفكَّك المعضلة الإيديولوجية للثورة، عندما ينبثق عنها اليسار الثوري ليضع استراتيجية وبرنامج سياسي ثوريين مجتمعيين، ويَنشُر إيديولوجية ليست أمرا آخرا سوى السياسة المادية التي تقوض وتفنِّد كل الإيديولوجيات المناوئة لثورة التحرر والنمو والتطور، والمعادية لمجتمع القوى الشعبية والانسان الاجتماعي.
إن العمل، كل عمل فعلٌ ذكيٌ، ولا يلبث عبر صيرورته التاريخية الزمانية، المتغيرة والمتحولة والمتطورة والمتصارعة، أن يصبح مفهوما ونظرية. مستقبل التنسيقيات يبدأ من حيث انطلقت الممارسة العفوية، ويصير مع الأزمنة إلى استراتيجية ثورية، إي معرفة منظَّمة بالواقع المادي، وممارسة منظَّمة تشي بأن الظروف الموضوعية للثورة في سورية قد نضجت، ولن تلبث أن تقود إلى انتصار الثورة. لذا، فإن المهمة الأولى التي تواجه اليسار الثوري في برنامجه السياسي، هي تنظيم معارف التنسيقيات وممارساتها، والانتقال بها إلى ممارسة معرفية منظمة. برنامجٌ واستراتيجيةٌ قوامهما الدولة والثورة، وموازين القوى المجتمعية والسياسية، ونمط الإنتاج الاقتصادي، والتكوين الاقتصادي المجتمعي، والتشكيلة السياسية، والحزب ، والصراع الطبقي، والحركات الاجتماعية والنقابية، وغير ذلك من تكوينات السياسة المادية.
الثورة، قبل أن تكون سقوط النظام، هي المتغيَّرات العميقة والجذرية التي تطرأ على الواقع التاريخي للمجتمع، وما تحمله معها المتغيِّرات من قطيعة مع الإيديولوجية التي كانت سائدة ما قبل الخامس عشر من آذار، إيديولوجية العنف وتراكم رأس المال بقوة السلاح والرعب، بعدما انهارت كل سلطات الدولة، بما في ذلك السلطة القضائية. قطيعة مع القيادات السياسية والفكرية التي كانت توجِّه الحركات الاجتماعية والسياسية "بعقلية الإصلاح التدريجي السلمي". هذه الإصلاحية التي ما تزال في الشهر السابع من تاريخ الثورة هي التي تسوق باليسار التقليدي إلى متاحف المستحاثات. قطيعة، أيضا، مع الصلة التي كانت تنظِّم العلاقات ما بين المجتمع والسلطة. علاقات تبعية المجتمع للسلطة التي تنَتخب الشعب، كما تَنتَخب رؤوس "المجلس الوطني السوري" و"هيئة التنسيق الوطنية" قياداتها الوسطية وقواعدها من أعلى القمة إلى أسفل القاعدة. قيادات تَنتَخب القواعد !!! فإذا ما جمعنا هذه الحالات من القطيعة، فإن المحصِّلة أو التركيب بينها ليس من طبيعة القطيعة نفسها، أو تحصيل حاصل لها، أو جمع حسابي كيميائي، فيزيائي ورياضي، أو حتى اجتماعي وفلسفي. إنما التركيب الناتج عن هذه الحالات من القطيعة هو تاريخ جديد، ثوري لأنه يُغَيِّر القوانين والشرائع والدستور والحقوق والعلاقات السياسية المجتمعية، ويمس نمط الإنتاج الرأسمالي بالتعديل، ويغير الوعي، والعادات والتقاليد اليومية، أي يُقَوِّض الإيديولوجية التي كانت سائدة، وذلك بانتظار متغيّرات على المدى المتوسط والبعيد توفّر الفرص لثورة الانتقال إلى الاشتراكية.
ثورة الخامس عشر من آذار لن تستعيد حركة 23 شباط/فبراير 1966 اليسارية، ولن تُعيد بناء الوحدة السورية المصرية التي اغتيلت بأيدي الرجعية العربية والدولية في العام 1961، ولن تعود بالتاريخ إلى ما قبل "الحركة التصحيحية" للجنرال السفَّاح (16 تشرين الثاني 1970)، ولن تحيِّي شهداء الثورة الفلسطينية الذين قُتِلوا برصاص الجيش السوري، ولن تحرِّر فلسطين، ولن تمحو من الذاكرة ما كان يعانيه الشعب الكردي من ظلم واستغلال خلال تاريخ طويل من القهر والقمع، ولن تعيد الحياة إلى جمال عبد الناصر وفرج الله الحلو، ولن يَغفر السوريون لأنفسهم ما ارتكبته سلطاتهم المستبدة من جرائم فظيعة في لبنان. المجتمع السياسي في سورية وقَفَ دوما عاجزا أمام هذه المنعطفات التاريخية العظمى، إن لم يكن قد شارك فيها، وكرِّس لها عن وعي أو عن غير وعي. ثورة الخامس عشر من آذار، وإن كانت عاجزة عن مسح الماضي من التاريخ، فإنها مؤَّهلة لتسطير صفحات جديدة في تاريخ الثورات، إذا ما هي تمخَّضَت عن يسارٍ ثوريٍ، وتَخَطَّت المجتمع السياسي، وعَزَّزَت التنسيقيات بتنظيم سياسي مادي، وسلَّحَتها بإيديولوجية ثورية، لتضحى ممارسة معرفية مادية./.

حسان خالد شاتيلا
تشرين الأول/أكتوبر 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مانيفستو الثورة السورية
صلاح بدرالدين ( 2011 / 11 / 4 - 08:08 )
بحث الأستاذ الكريم حسان خالد شاتيلا المنشورحول الثورة السورية أول وثيقة فكرية سياسية ثقافية جادة وموضوعية تبحث في تاريخيتها وطبيعتها وجوهرها وقواها ومنطلقاتها ونقاط ضعفها وعوامل قوتها واستمراريتها ومهامها الراهنة والمرحلية والاستراتيجية وكذلك تحدياتها ان كانت من السلطة الاستبدادية الحاكمة أو الجماعات السياسية التقليدية التي تتقمص ثوب المعارضة وتجد بين سطور البحث الكثير من الأقوال المأثورة والاستنتاجات الصحيحة والاستخلاصات النظرية المعبرة وقد استوقفني المقطع التالي : - كما تَنتَخب رؤوس -المجلس الوطني السوري- و-هيئة التنسيق الوطنية- قياداتها الوسطية وقواعدها من أعلى القمة إلى أسفل القاعدة. قيادات تَنتَخب القواعد !!! - انه استنتاج نظري مبدع لحالة قائمة فعلا
أدعو كل الوطنيين السوريين الى قراءة واستيعاب هذه الوثيقة الهامة التي أعتبرها بمثابة - مانيفيستو - الثورة السورية
كل التقدير والاحترام للكاتب المفكر

اخر الافلام

.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح


.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز