الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في اللحظة الرمزية السورية.. علمان وعالمان يفترقان

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2011 / 11 / 24
الادب والفن



في جنازة الشاعر بابلو نيرودا الحزينة الصامتة إلى المقبرة، تحت أعين فوهات بنادق الجنرال بينوشيه، نزلت قرنفلة حمراء من شرفة في الطريق على الجثمان، ففجّرت براكين الصمت، وأشعلت الحناجر بنار الهتاف في وجه البنادق، مزيلة خلال هبوطها البطيء الصامت كل ما حاولت البنادق بناءه من جدران الخوف ما بين الجسد العاري ووجه الموت...
قرنفلة حمراء واحدة، غير مسلّحةٍ سوى بلون تويجاتها، أثارت الرعب في قلوب جنرالات تشيلي، وكادت أن تطيح بديكتاتورية. قرنفلة حمراء واحدة لكنها اختزنت في تويجاتها النارية كل تاريخ تطلعات المقهورين إلى الحرّية...
إنها الرموز/ مرافقة أحلام الإنسان وتعبيرات أعماقه عما يتوق.. بكلمة، بحركة، بشكل أو بلون؛ على كهوف البدائيين مثلما على اكتشافات رواد الفضاء، على رسائل المحبين مثلما على الدروع وقبضات الأسلحة، على جدران الغرف المغلقة مثلما في سماء المظاهرات.. بؤر الآمال ونوافذ الروح في لحظة بلوغها أوج انحباساتها.. الرموز/ حركة، شكل ولون التوق عندما تبلغ اللحظة التاريخية نهايات دقاتها، الرموز/ تمظهرات معاني رقص الإنسان على خيط الصراط.. الرموز/ شكل ومعنى افتراق عالم عن عالم...

هكذا يحدث الأمر في سورية الآن.. في اللحظة التاريخية التي بلغت فيها الثورة السورية مع فشل استجابة بشار الأسد للمبادرة العربية، اكتمال إحدى ذرى مراحلها الأهم، ويا للمصادفة، الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من عام ألفين وأحد عشر/ "جمعة تجميد العضوية"، حيث لا يستطيع نظام بشار الأسد تنفيذ مطلب الجامعة العربية منه إيقاف القتل وسحب الدبابات وإطلاق سراح المعتقلين، ولا يستطيع استبدال القتل إلا بالقتل، وحيث لا تستطيع الثورة عند هذا سوى إزاحة كل وعود النظام من بال المراهنين على قدرته في الإصلاح، وكل الشعارات المترددة ولاءات النعم البائسة من أوهام المعارضة البائسة الممثلة في هيئة التنسيق بالحوار مع النظام، لتبقي على طرحٍ واحد هو رحيل النظام بكل أركانه، وليبلغ الاكتمال مداه في هذا الطرح، بانعتاق السياسة عن أستذة محنّطيها والتحامها في الفعل الثوري الذي يحدّده الشارع، وبتعبيرات الثورة الأشد عمقاً عن هذا الاكتمال/ الرموز، بدءاً من تحوّل الجملة الخاتمة في أنشودة إبراهيم قاشوش: "ويلا إرحل يابشار"، على ذات إيقاعه إلى الجملة الخاتمة التي تحسم الصراع: "وجهّز نفسك للإعدام".. وانتهاءً بالرمز الأهم: علم الجمهورية الذي سال منه اللون الأحمر دماً إلى الشارع من أجساد الشهداء، وزال تماماً ليظهر مكانه اللون الأخضر، لون الربيع السوري، المميز لعلم الاستقلال، ولتظهر النجمة الثالثة الحمراء على خلفية الأبيض/ نجمة الحرية التي غيبها نظام الاستبداد في سجونه منذ عهد الوحدة المصرية السورية، وعادت لتعطي لونها للنجمتين الخضراوتين، رمزاً للحرية والعدالة والمساواة...
علمان، وعالمان يفترقان، هي سورية الآن...

العلم السوري الذي اعتمده النظام البعثي منذ انقلاب الثامن من آذار عام 1963م، وثبته حافظ الأسد عام 1980م بمواصفاته المأخوذة من علم الجمهورية العربية المتحدة المكون من ثلاثة ألوان هي الأسود والأبيض والأحمر، مع نجمتين كل منهما ذات خمس شعب لونها أخضر، ولا أهمية لتفاصيل كونه مستطيل الشكل، عرضه ثلثا طوله، ويتكون من ثلاثة مستطيلات متساوية الأبعاد بطول العلم أعلاها باللون الأحمر وأوسطها باللون الأبيض وثالثها باللون الأسود، وتتوسط النجمتان المستطيل الأبيض.. علم يمثل عالماً يمضي ليصبح ماضٍ... عالمٌ ابتدأ عام 1958م بسذاجة عسكر سورية لصنع وحدة مالبثت أن تكشفت عن استغلال وإلغاء للحياة السياسية الديمقراطية واستشراء لأجهزة المخابرات وقتل للديمقراطيين، واستمرّ عام 1963م بانقلاب حزب البعث على "الانفصال" فارضاً قانون الطوارئ الذي ألغى الحياة السياسية وجعل سورية ألعوبة في مغامرات يسار البعث؛ وتكرّس بانقلاب حافظ الأسد عام 1970م فارضاً دستور الاستبداد الذي يحوّل الرئيس إلى إله بوضع كل السلطات بيده، ومشيعاً ثقافة الخوف بارتكاب مجازر حماة وحلب وجسر الشغور وتدمر، ومدمّراً بنية المجتمع السوري التعددية المتسامحة بالتمييز الطائفي وارتهان الطائفة العلوية لمخططات حافظ الأسد الشيطانية في تمزيق اللحمة الوطنية؛ وتحوّل إلى عالم مسخٍ عام 2000م بارتكاب إثم التوريث لوريث قاصر هو بشار الأسد، محدود الرؤية ومعاق عن تجاوز أمراض وعقد الأب، فارضاً على المجتمع عبادة التفاهة، وواقفاً سداً ممانعاً في وجه حرية سورية، وجاثياً مطأطأ الرأس والجسد أمام المحتل الصهيوني، ومطلقاً بعنجهية الجبن في الشوارع قطعان الشبيحة مثل زومبي ينهشون لحوم الناس، ويقتلون الأطفال ويغتصبون النساء.. تحت راية علم يمتدّ كيلومترات من الكذب والاحتيال والوهم بالقضاء على ثورة الشعب...

والعلم السوري الذي خفق بخجل في جوانح الثوار منذ بدء الثورة، وامتدّ خافقاً ومرفرفاً طيلة ثمانية أشهر من الهتاف والقتل إلى جانب العلم الأول مسيلاً لونه الأحمر جداول دم تنساب منه في شوارع الثورة ومجبراً إياه على التماهي والتلاشي فيه مع بلوغ الثورة ذروة التحوّل إلى مرحلة أخرى في الصراع مع نظام القتل/ علم الاستقلال عن المحتل الفرنسي، الذي رفع لأول مرة في سماء سوريا في 12 يونيو (حزيران) عام 1932م، وتحددت مواصفاته بمقاييس الطول ضعف العرض، والتقسيم إلى ثلاثة ألوان متساوية متوازية، أعلاها الأخضر فالأبيض فالأسود، على أن يحتوي القسم الأبيض منها في خط مستقيم واحد على ثلاثة كواكب حمراء ذات خمسة أشعة، وعلى أن تدل ألوان العلم على الثورة العربية الكبرى، حيث الأخضر للإسلام عموماً، والأبيض للأمويين، والأسود للعباسيين، والنجوم الحمر للعلياء والبطولة ودماء الشهداء، كما تمّ رفعه في سماء سوريا في 17 أبريل (نيسان) من عام 1946م بعد جلاء الفرنسيين عن سوريا واستمر حتى عهد الوحدة المصرية السورية عام 1958م... علمٌ يمثل عالماً يأتي ليصبح مستقبلاً.. عالمٌ ابتدأ نسجه في نهاية السبعينات مع البرنامج الوطني الديمقراطي الذي نصبته القوى الوطنية الديمقراطية على حامل التجمع الوطني الديمقراطي، ليتم ضرب طليعته/ الحزب الشيوعي السوري، المكتب السياسي (حزب الشعب الديمقراطي السوري حالياً)، سجناً ونفياً وقتلاً، وليغيّب رمزه رياض الترك سبعة عشر عاماً في زنزانة منفردة لا يعلم مقرها إلا سدنة النظام... وابتدأ إظهار نسيجه عام 2000م مع أول جملة تطلق على جدار الخوف من الرجل نفسه الذي تجرّأ بعد موت حافظ الأسد مباشرة على قناة الجزيرة بقولة: "الآن مات الديكتاتور"، داعياً إلى التغيير والمصالحة مع إعادة المظالم إلى أهلها، ليعيده الوريث مرة أخرى إلى السجن... وانتظم النسج مع ربيع دمشق عام 2002م على أيدي المثقفين السوريين ومنتدى جمال الأتاسي الذي تديره سهير الأتاسي... وظهرت الألوان مع إعلان دمشق برئاسة الدكتورة فداء الحوراني التي تحولت إلى رمز وردة سورية الأسيرة باعتقالها مع قادة الإعلان، وخفقت قلوب الشباب مع تلوّن النسيج بشمس ثورات الربيع العربي... وتكرّس الإيمان في الألوان بقدوم التغيير مع مقال رياض الترك: "لقد ولّى زمن السكوت" الذي قطع الطريق على الادعاء الأجوف من بشار الأسد بأن سورية لن تلتحق بركب الثورات لأنها ممانعة، ووشت صفحات الإنترنت جملته الشهيرة: "لن تبقى سورية مملكة الصمت" قبل ثورة الخامس عشر من آذار بأيام... وابتدأ ظهور العلم كاملاً في البيوت مع تقدّم ثورة الحرية والكرامة، وابتدأ زحف العلم إلى الشوارع مع إيغال بشار الأسد بقتل الشعب والتمثيل بالجثث، جنباً إلى جنب مع العلم القديم، بحرص من سياسيي الثورة على هذا الترافق دون قطع لكي يتم ترسيخ الثورة على الأرض... وابتدأ اللون الأخضر باحتلال السماء بعد ترسخ الثورة على الأرض حيث لاعودة عن رحيل النظام ومحاكمة رئيسه، وبعد القطع الصارخ من العالم أجمع أن نظام بشار الأسد نظام قاتل، يمثل بجثث الأطفال ويغتصب النساء ويقطّع أجسادهنّ أشلاء، وحسمت صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد على الفيسبوك أمر الافتراق بتخصيص يوم الأربعاء الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام ألفين وأحد عشر، لعلم الاستقلال... ليسود هذا العلم شوارع الانتفاضة مع حلول اللحظة التاريخية التي بلغت فيها الثورة السورية أوجها في الافتراق القطعي عن عالم النظام القديم، ودخولها مرحلة الصراع الجديدة التي تخوض فيها حربها لكنس عالم القتل المستبد، وتشييد عالم سورية الديمقراطية الذي يمثل فيه لون العلم الأخضر لون الربيع السوري، والأبيض الأمويين، والأسود العباسيين، وتسطع نجومه الحمراء الثلاث بالحرية والعدالة والمساواة.

[email protected]
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى