الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار وتحديات الربيع العربي

زكرياء الفاضل

2011 / 12 / 5
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011


اليسار وتحديات الربيع العربي
لعل الفكرة السائدة اليوم في مجتمعاتنا، بخواصها وعوامها، هي القائلة بالظهور المفاجئ للربيع العربي والاستيقاظ المباغث لشعوبنا المقهورة. كما أن الكل يتحدث عن ظاهرة لا سابق لها في تاريخ مغربنا ومشرقنا، بل ويجعل منها حدثا تاريخيا غير متزامن مع ما يعرفه العالم من تحولات وأزمات. هذه الرؤية، لما تعرفه بلادنا من حراك شعبي جماهيري، لا تستند إلى أسس تاريخية علمية، إذ التاريخ بنيان طوبه أحداث مترابطة لا يمكن بناء حاضرها من دون ماضيها. لذلك فإن ما آلت إليه أوضاع الأنظمة الشمولية بالبلاد ماهي إلا نتيجة حتمية لزخمة (بفتح الزاي وكسر الخاء) سلطانها، الذي رتن السلطة بالفساد واستبد بالبلاد والعباد وعمّق الفجة بين الأقلية المحظوظة والأغلبية المنبوذة، فهوى عريش هذه الأنظمة الوهنة حين رجّ عروشها هوف شظف عيش شعوبها، التي خرجت في ربيع عطر زكي معلنة عن مولد جديد لتاريخها النضالي المجيد من أجل حقها في العيش الكريم وتقرير المصير. لهذا لا يمكن أن يكون الربيع صحوة مفاجئة، كما يحلوا للبعض وصفه، بل هو حصيلة نضال عظيم أزمن ولازم مسيرة الجماهير الشعبية نحو الانعتاق والحرية؟
فمنذ خروج شعوبنا من عهد الاحتلال المباشر ودخولها في مرحلة الاستعمار الجديد وهي تناضل في سبيل استقلاليتها الاقتصادية والسياسية وبناء دولة القانون وتحقيق مجتمع العدالة الاجتماعية. وطليعتها في هذا الدرب الشاق والشائك كان اليسار وعلى رأسه الأحزاب الشيوعية، التي باعت نفسها للشعب والوطن ولم ترض عنهما بديلا. فالأحزاب الشيوعية كانت دوما، ولا تزال كذلك، القلب النابض للجماهير الشعبية وضميرها الحي والمتوقّد في معاركها مع الإقطاعية والبرجوازية الطفيلية، تساندها في حملها الثقيل ومسيرتها المستدمية النقابات الشريفة عمالية كانت أم طلابية كما هو الشأن عندنا بالمغرب. فتأثير الأحزاب الشيوعية وحلفائها من مؤسسات المجتمع المدني بارزة كجبال الأطلس الشامخة. وهذا ما لاحظناه مع اندلاع الثورة بتونس الخضراء، إذ سطع نجم حزب العمال التونسي كالشمس في كبد السماء على عكس باقي التنظيمات الأخرى، التي تخاذلت وتراجعت، في انتظار النتائج لتسطو على عمل غيرها وتجني ثماره، كما حصل في مصر، حيث لم يلتحق تنظيم الإخوان المسلمين إلا بعد ما توضّحت الصورة وأشرق نور التغيير. ورغم ذلك استطاع التياران العلماني واليساري المصريان فرض احترام شعاراتهما وآرائهما والتعامل معها من منطلق الجدية. و قد تكون اليمن وليبيا حالتين استثنائيتين في ظاهرة الربيع العربي، إلا أن أمرهما يحتاج إلى تريث وتبصّر في موضوعهما.
عند الحديث عن اليمن، فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أنها ليست صنعاء فقط، بل وعدن أيضا بمحافظاتها التي لا تزال تتذكر الحكم الاشتراكي وتطالب بفك الوحدة مع الشمال المنخور جذعه بالفساد السياسي والاقتصادي والمنهوش لحمه بجرثوم العشائرية والقبلية. بينما الجنوب استطاع التخلص من هذه الآفات الاجتماعية بفضل السلطة الديمقراطية التي حكمته باعتراف يمنيي الشمال أنفسهم، وهذا يعني أن روح الديمقراطية ما تزال مرابطة بعدن ومحافظاتها.
بالنسبة لليبيا فإن الأمر قد يختلف لكون نظام الديكتاتور البائد خلّف أجيالا من الأميين في كل المجالات الحيوية للدولة والمجتمع، حيث كانت المناصب توزع ليس بمعايير الكفاءة، بل بمقياس الإخلاص للنظام وإقامة الولائم ودفع الرشاوي. فإما أنك ثوري أو غير ثوري، فإن كنت ثوريا فيمكنك الحصول على منصب، مثلا، سفير أو ديبلوماسي من عيار مستشار ثقافي أو سياسي.. رغم أنك لم تعمل بوزارة الخارجية ولو دقيقة واحدة، وتجهل البروتوكولات الديبلوماسية، ولا علاقة لك بالعلوم السياسية أو السياسة ذاتها، ومستواك الفكري أقل من محدود.
إذا دور اليسار وطليعته الأحزاب الشيوعية حقيقة لا يجب طمسها أو التنكر لها إذ لولا هذه الأحزاب، التي خاضت معارك ضارية مع الإقطاعية والبرجوازية الطفلية منذ الاستقلال النسبي، لما عرفنا اليوم شيئا اسمه الربيع العربي. لكون التيارات الأخرى، بما فيها الأصوليين، كانت دوما عماد الأنظمة في استبدادها بشعوبنا وركيزتها الأساسية لتمرير القرارات السياسية على جماهيرنا الشعبية، وهذا ما شهدناه مؤخرا بالمغرب (الدستور القديم في حلة جديدة والانتخابات البرلمانية). ونحن نرى اليوم كيف يحاول حزب العدالة والتنمية، الملكي أكثر من الملك، محاربة القوى اليسارية الشريفة ومساعدة النظام في الالتفاف والتحايل على مطالب الجماهير الشعبية المناضلة من أجل تحقيق ملكية برلمانية. وهذا ليس بغريب عن الأصولية ما دامت أنها من ابتكار الأنظمة الرجعية، بوحي من الإمبريالية العالمية، لمكافحة المد اليساري والسيطرة على الجامعات والنقابات ومكونات المجتمع المدني، التي كانت منبرا يساريا وأرضية تواصل له مع جماهير الكادحين والطلبة في الستينيات والسبعينيات وإلى حدود الثمانينيات. فكيف يمكن الانتظار من قوى مختلقة لتكون اليد اليمنى للسلطة الشمولية ومجبلة على الطاعة لها أن تناضل من أجل حرية وكرامة الشعوب؟ ففطرتها الإقطاعية وعقيدتها الحكم الشمولي، وهذا ما أكده كاتب عام العدالة والتنمية ليلة تعيينه، في اجتماع مع فرع الحزب بالدار البيضاء، حين أوصى أعضاءه بثلاث فقال: أولا أوصيكم بدينكم، ثانيا أوصيكم بملككم، ثالثا أوصيكم بالوطن. أي أنه نطق بشعار الملكية: الله – الوطن – الملك، مع تقديمه للملك على الوطن، وهذا اجتهاد منه يحسب له في الدنيا والآخرة.
لذلك نرى أن خوف الأنظمة الاستبدادية يأتي من الجانب اليساري الشريف، الذي لا يقبل مساومة في مبادئه ولا مقايضة في قضايا الشعب. فهي تعمل على قمعه بدنيا (الاعتقال والاختطاف والمحاكم الصورية والتهم الملفّقة) وسياسيا (خلق أحزاب منزلة ما بين المنزلتين مشوشة ومشوهة لليسار الحقيقي) وإعلاميا (تزوير الحقائق وتشويه الوقائع ومحاصرته إعلاميا). ويساعد هذه الأنظمة البوليسية في حملتها ضد أبناء أوطاننا الشرفاء جيوش من الملتحين بفتاويهم الضالة، ودور السينما التي لا تعرض إلا وجهة نظر هوليود، فالسينما سلاح خطير وفعال في عملية غسيل الأدمغة. وإذا كان القمع البدني لا ينال من يسارنا الشريف المناضل، فإن الحصار الإعلامي وتشويه الحقائق وعمسها وتزوير الوقائع يترك أثره في المجتمع. فلا غراوة أن تفتر شعبية أحزابنا بعض الشيء، ولكنها لن تضمحل، بل ستسترجع قوتها وانتشارها بعد حين غير بعيد.
لكن إلى جانب هذه الأسباب الموضوعية المذكورة أعلاه لهذا الفتور، هناك عوامل أخرى ذات طبيعة ذاتية وتتعلق بالاستراتيجية والتكتيك لأحزابنا. فمن الناحية الاستراتيجية، لم يهضم اليسار الفكر الاشتراكي العلمي في العمق رغم تشبعه به، وتعامل معه كالسلفيين والنصوص المقدسة. فهو، على سبيل المثال، لم يفصل بين البرنامجين: الأدنى والأقصى، وجعل من الثاني الهدف الأول والأخير دون مراعاة ظروف الزمان والمكان وخصوصيات المجتمع. وتعامل مع النضال بنوع من الرومانسية والعاطفية واختار سياسة المواجهة في ظروف كانت تتطلب التبصر والحكمة والذهاء السياسي، فتلقّى ضربات قوية وقاسية فقد من جرائها خيرة الرفاق المناضلين (لوائح أسماء الشهداء والمفقودين طويلة بطول نضالنا مع الأنظمة الرجعية)، مما جعل عموم الجماهير تصد وتعزف عنه، خوفا من قمع النظام وبطشه، رغم تعاطفها معه وإدراكها لمصداقيته.
من الجانب التكتيكي، وهو جانب لا يقل أهمية، لم يحاول اليسار مراعاة ظروف مجتمعه الفكرية والعقائدية والتعليمية ودخل في صراع مباشر مع معتقدات مجتمعه، مما جعل خصومه يحققون انتصارا معينا عليه في المجال الدعائي والإعلامي. خصوصا التيار الأصولي، الذي تعامل مع الظروف التاريخية بذهاء واستطاع أن يكوّن له قاعدة جماهيرية في المجتمع لا يستهان بها رغم أنها لا تشكل تلك الأغلبية التي من شأنها تمكينه فرض وجهة نظره على المجتمع، لكن هذه القاعدة تعطيه قوة من حيث تأطيرها وتنظيمها لا يمكن إغفالها.
والذي زاد الطين بلة والنار حطبا هي انشقاقاته، التي لعبت، وتلعب، دورا حاسما في معاركه مع خصومه الطبقيين، فكل يعتبر نفسه مالك الحقيقة المطلقة والباقي أصحاب بدعة، وكل بدعة في ضلالة، وكل ضلالة في النار، وكل حزب أو فصيل يعتبر اشتراكيته هي الاشتراكية الحقة، فصرنا قبائل وطوائف وأحزابا تسير في الأرض قاصية، فأكلت منا الذئاب ما اشتهت وطاب لنفسها. إنها السلفية بعينها رغم يساريتها، مما يبرهن على أننا درسنا التاريخ، ولكننا لم نتتلمذ عليه للأسف الشديد.
رغم كل هذه العلل المزمنة ليسارنا فإن الانتفاضات الشعبية الأخيرة أعطته، وتعطيه، فرصة لتجديد نفسه وتعزيز نشاطه و ابتكار سبل أنجع لنضاله، لكن هل سيستفيد من هذه الدروس ويستخلص العبر منها؟
فالربيع العربي أظهر مدى نضج ظروف التغيير واستعداد الجماهير الكادحة لتحقيق هذا التغيير، حيث انتفضت ضد أوضاعها المزرية وسياسة أنظمتها اللاشعبية، وبوصلتها الوحيدة في هذه الانتفاضة تجربتها المرة مع الوعود الكاذبة. فاعتصمت بالميادين وجالت، وتجول، الشوارع منادية بالإصلاح لا الترميم والكرامة لا الصدقة دون أن يكون لها منار منهجي يضيئ سبيلها ويرسم لها خريطة الطريق. وفي هذه الظروف الناضجة نرى كيف أن يسارنا يكتفي بالمساندة والوقوف إلى جانب الجماهير في صرختها وانطلاقتها العفوية وغير المؤطرة نحو الحرية. وذاك برهان على خلل بمنهجية يسارنا في تعامله مع الجماهير وضعف أساليب نشر وعيه الطبقي بينها. فالتجربة التونسية والمصرية والمغربية عرّت عن المستور وأخرجته من الكواليس إلى الخشبة، إذ ارتمت الجماهير الكادحة في أحضان خصومها الطبقيين بالتصويت لصالحهم في الانتخابات كدليل على ضعف الدعاية اليسارية، التي لم تغادر الأجواء الأكاديمية رغم تبجحها بالجماهيرية. وعلينا الاعتراف بهذه الحقيقة مع أنفسنا حتى نتبين مواطن الضعف عندنا.
إن ماسبق لا يعني أن تيارات الإسلام السياسي أقوى وأكثر شعبية من اليساريين والعلمانيين، فالحقيقة على عكس ذلك وغير مطابقة لما تروج له وسائل الإعلام الرسمية والمأجورة. لكن حساباتنا الحزبية الضيقة جعلتنا شعوب وقبائل برج بابل. فقوة حركات الإسلام السياسي مستمدة من ضعفنا نحن وليس من قوتها هي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الفئات الشعبية التي لحد الآن عازفة عن الحراك السياسي بشكل عام وملتهية بالبحث عن لقمة العيش أو أقعدها المرض أو هي ببلاد المهجرأو تلك المنتمية لعقيدة غير الإسلام أو.. إلخ، علاوة على تفرقة صفوفنا، فإننا سنكتشف أن تيار الإسلام السياسي لا يملك قوة تمكنه من الاستيلاء على السلطة لوحده. إضافة إلى امتلاك شعوبنا تجربة معينة مع أنظمة الإسلام السياسي من خلال إيران وأفغنستان (حركة طالبان) والسودان، وما أظنها أنها راغبة في تكرار تجربة هذه البلدان. علاوة على تصريحات قادة جبهة الإنقاذ الإسلامي، في أواخر الثمانينيات، بأن الجزائر عرفت ديمقراطية واحدة هي التي أوصلتهم للسلطة.. لكل هذه الاعتبارات فإنّ الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية تستطيع أن تحد من انتشار الفكر السلفي بمجتمعاتنا، لكن شريطة أن توحد صفوفها وأن تنزل إلى الشارع بلغة مفهومة للعوام والخواص وأن تبتعد عن كل ما قد يجعل الجماهير تنفر منها. وما تصويتها على ما يسمى بالتنظيمات الإسلامية المعتدلة إلا دليل على رفضها للتطرف ونبذها للتشدد ورغبتها في عيش حياتها تحت شعار "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وهي رسالة واضحة للجميع بما فيهم التيار السلفي الذي حصل على نسبة ضعيفة للغاية بالانتخابات في مصر. وكل شيء ممكن في السياسة ولا وجود للمستحيل. يبقى فقط إلى أيّ حدّ سيكون الخيار التكتيكي موفقا لليسار في نضالاته مع خصومه الطبقيين. وإلى أي حد سيستطيع توظيف واستخدام آليات التواصل والإعلام الحديثة كالشبكة العنكبوتية وشبكات الاتصال، التي أبانت عن قوتها وفعاليتها في تحريك الجماهير. وهذا بدوره يتطلب آليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية والخروج عن النمط التقليدي بحيث لا بد من إنشاء لجن خاصة ومشرفة للدعاية والتواصل مع الجماهير، وعدم الاكتفاء بإنشاء المواقع الحزبية بل هناك ضرورة في إنشاء مدونات ترفيهية ورياضية وأدبية..إلخ هادفة تعمل على جلب واستقطاب الشباب الذي بات يقضي جزءا مهما من يومه في الفضاء الفرضي ويهتم بالألعاب السخيفة أو المواقع المشبوهة. وخير نموذج لاستخدام الشبكة، بما فيها الفيس بوك والتويتر، موقع الحوار المتمدن، إذ بات آلية تواصل دولية وناجحة بفضل سياسة طاقمه، الذي يتمتع بروح تعددية وديمقراطية كبيرة تظهر من خلال سماحه لنشر مقالات بعض خصوم اليسار والعلمانية، في الوقت الذي لاتسمح فيه هي لنا حتى بنشر تعاليقنا فبالأحرى مقالاتنا. وهذه سياسة ناجحة تؤكد عدم إقصائية الفكر اليساري والعلماني وروحه الديمقراطية وعقيدته التعددية، بقي أن يتم مشروع القناة الفضائية لتساعد في النهضة الجديدة لليسار وفك حصاره الإعلامي.
إذا علينا تنمية وتطوير مناهجنا في التفاعل مع الجماهير والابتعاد عن التعصب والتشنج الفكري الذي يعاني منه الكثير من الرفاق. فالدعاية موهبة تصقلها علوم عدة ولها أساليب وطرق عديدة، ازدادت وتعددت بفضل الفضاء الفرضي والتقدم التكنولوجي، لذلك ليس في إمكان أي كان، رغم إخلاصه، أن يصبح داعية. كما أن الحلقات والمحاضرات غير كافية لنشر الوعي، لأنه عادة يحضرها المتسيّس وغالبا يكون حاملا لفكر معين ويحضر لفرض وجهة نظره أكثر من الاستماع للرأي الآخر. ولا بد أن نستوعب أنّ الدعاية فن والفن، على عكس العلوم التي لا تكون إلا في المؤسسات العلمية، يكون حيثما ذهبت: في الشارع والبيت والمقهى والملعب والدكان والسوق.. ويعتمد أساليب الجذب التي منها النكتة والقصة والفرجة والمسرح والسينما والرياضة والغناء والمخيمات، التي تقام لأبناء الشعب العاجزين عن دفع مصاريف السفر في العطل، ودعم العاطلين ليس بالتظاهرات والمقالات الصحفية فقط بل وبإيجاد حل لأزمتهم المادية ولو مؤقتا، لأن الجائع لا يمكنه الانتظار حتى يوم النصر، فهو يريد أن يعيش اليوم، وأن يعول أهله الليلة، وأن يخرج من الضيق المالي، ولو نسبيا، الساعة أي أطعم أولا المواطن، ثم حدثه في الفكر.. والأهم من كل هذا هو الاهتمام الكبير بالأطفال والمراهقين جيل الغد. فصبي اليوم هو شاب الغد ورجل بعد غد، إن أعددته أعددت قاعدة جماهيرية اشتراكية تبني بها دولة القانون ومجتمع العدالة الاجتماعية.
هذا عن يوم غد، أما اليوم فعلى الأحزاب اليسارية أن تعمل في ثلاثة اتجاهات:
أولها مساندة الجماهير في نضالها المستمر ضد خصومها الطبقيين بفضح نواياهم الحقيقية، وتوعية هذه الجماهير بخدع خصومها، من خلال جلسات مع الأهل والجيران والأقارب والأصدقاء وأهل الحارة وهكذا، وحثها على مقاطعة الراديو والتلفيزيون الرسميين ومنحها البديل لذلك بأنشطة ترفيهية هادفة وثقافية ورياضية.. كل حسب ميوله مع الابتعاد عن اللغة الأكاديمية والمصطلحات الغامضة ونبذ التعرض للعقيدة لأن خصمنا ليس الدين بل أصحاب الأمر فيه، وكثير منا يعلم قصة الكردينال الذي حمل البندقية وقاتل مع الشعب ضد الديكتاتورية بأمريكا اللاتينية.
ثانيها العمل على إعداد نفسها للقيام بالدور الريادي في تحقيق مطامح شعوبنا بعد فترة معينة، كل بلد وحسب ظروفه، لأن البرجوازية التي استلمت اليوم، أو ستستلم غدا، السلطة لن تغير من الواقع شيئا، وقد لا تستغرق في الحكم مدة طويلة، لأن الجماهير تنتظر الوفاء بالوعود ولا أظن البرجوازية فاعلة ولعدة أسباب أهمها شعبوية هذه الوعود. لذلك وجب استغلال الفترة لتقوية صفوف اليسار وتعزيز روابطه بالجماهير الشعبية المرابطة بساحة النضال.
لذلك يجب، وهنا يكمن الاتجاه الثالث، تشكيل جبهة موحدة لكل القوى اليسارية والديمقراطية لمناهضة الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي كي نتمكّن من توجيه الانتفاضات الشعبية في المسار الصحيح، ونستطيع أن نقف في وجه محاولات التفاف القوى الرجعية واحتيالها على مطالب جماهير الربيع العربي.
إذا الفرصة أمامنا وعلينا اغتنامها وإلا وجدنا أنفسنا، ربما، في تراجع لسنوات أو عقود. لكن لا يجب أن ننسى أنّ الجبهة عمل تكتيكي ظرفي من أجل جمع شمل الصفوف في مواجهة خصم عنيد يمتلك حلفاء طبقيين، ويحتكر الإعلام ويسود الإدارة. لهذا، في مرحلة لاحقة، على اليسار بكل أطيافه الجلوس حول مائدة مستديرة للوصول إلى حد وسطي يسمح بالتحول إلى حزب موحّد. في نهاية المطاف اليسار، بكل فصائله يسعى إلى بناء مجتمع إشتراكي تتحقق فيه الدولة المدنية وتتساوى فيه حظوظ المواطنين دون ميز عنصري أو طائفي أوعقائدي أو طبقي. والاشتراكية قد تكون لها أشكال مختلفة وأساليب متنوعة، وفي النهاية إنما الإشتراكية هي التي يتحقق فيها العيش الكريم للمواطن، أما أن تكون لينينية أو ماوية أو شيئا آخر، فهي حسابات حزبية ضيقة الخاسر فيها هو الشعب الذي يؤدي ثمن العصبية الحزبية.
في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال فقط، أتعجب حينما يتحدث الكثير من الرفاق عن الطبقة البروليتارية وخصومها الطبقيين، وقد نسوا أن البروليتارية لا تكون إلا في المجتمعات الصناعية المتقدمة، حيث تشكل فعلا طبقة منتجة ذات وزن في الإقتصاد الوطني وبالتالي قوة سياسية فعالة. فهل مجتمعاتنا متقدمة وصناعية؟ حسب معرفتي المتواضعة البلاد العربية بلاد زراعية في عمومها والعمال لا يشكلون، إن وجدوا، ذاك الوزن، الذي يسمح لهم بأن يكونوا قوة إقتصادية وسياسية في أوطاننا، في حين أن الشغيلة عندنا يمكنها أن تلعب ذاك الدور الذي تلعبه البروليتارية في الدول المتقدمة والصناعية. كما أن هؤلاء الرفاق يجهلون، أو يتجاهلون، أن الرأسمالية اليوم قد تحولت من إنتاجية إلى مالية تستغل شعوبا كاملة وليس طبقة منتجة فقط. إن رفاقنا يتعاملون مع النصوص الماركسية اللينينة أو الماوية أو غيرها بقداسة تعتم بصيرتهم وتدخلهم في عتاهة، تماما مثل السلفيين. لا أدري كيف سيكون وضع هؤلاء الرفاق عندما ستظهر وسائل إنتاج آلية كما هو الشأن في اليابان. إن أيام ماركس ولينين كان الإنتاج يعتمد على القوة العضلية فقط وساعات وأيام العمل شبه غير محددة، بينما اليوم هناك الآلات والإنسان الآلي وساعات وأيام عمل محدودة و..
طبعا هذا لا يعني أنه ليس هناك طبقة سائدة وأخرى مسودة، أو لم يعد للظلم الاجتماعي مكان في حياتنا. إنما ما أقصده هو وجوب الخروج من السلفية اليسارية والإبحار في دوامة التطور الحاصل في العالم والبحث فيه كي تستنير طريقنا وشعوبنا بالمنار الصحيح.
إن أحزابنا اليوم في أمس الحاجة لمفكرين ومنظرين قادرين على إنزال الفكر الاشتراكي العلمي من علياء الأكاديمية إلى أرض الجماهير الكادحة والمناضلة، خصوصا وأن مجتمعاتنا أمية في غالبيتها، للخروج من النخبوية وهي مهمة ليست بالسهلة. فالمشكلة كامنة في ضعف التنظير والدعاية والعجز عن تكييف الفكر الاشتراكي مع ظروف وعقلية مجتمعاتنا الشرقية وأضع خطا عريضا ودسما تحت كلمة "شرقية" بكل ما من معنى لها.
هناك ثغرة أخرى وتتعلقة بالقيادات الحزبية، التي تنتقد حكر السلطة من طرف الأنظمة وهي نفسها متشبثة بكرسي القيادة ولا تفسح المجال للشباب. فهل يمكن لهذه القيادات أن تحقق الديمقراطية ونظام التناوب على السلطة؟ ففاقد الشيء لا يعطيه. صحيح أن السياسة تحتاج إلى خبرة وحنكة لا تأتي إلا مع الزمن، ولكن لا بد من تشجيع الشباب على تحمل المسؤولية، لأن الخبرة والحنكة تأتي بالممارسة. ولدينا عناصر شابة، من رفاق ورفيقات، موهوبة ولها إمكانيات فكرية وعلمية جيدة تسمح لها بالقيادة على مستويات تنظيمية مختلفة. لكن الاختيار يجب أن يكون دون تمييز جنسي، لأننا نمارس السياسة والسياسة هي فكر والفكر جنسه محايد. لذلك من العار أن يلجأ بعض الرفاق، على غرار الأحزاب البرجوازية، إلى نظام الكوتا العنصري ، الذي يكرس السلطة الآبوسية ما دام الرجل هو الذي يحدد نسبة مشاركة المرأة. إنه نظام إقصائي محتال يتبث سلطة الرجل على المرأة. فالمسؤولية يجب أن يحددها، أو على الأقل هكذا نريد لها، المستوى الفكري والكفاءة الشخصية، وليس نسبة مائوية يتفضل بها الرجل ذو العقلية والفكر الآبوسيين على المرأة.
إذا كنا نعتبر أنفسنا يساريين حقيقة فإنه يجب علينا النضال ضد هذه النظرة الذكورية والآبوسية للمرأة، والتعامل والتفاعل معها من منطلق كفاءتها الفكرية وموهبتها في تدبير الأمور، لا من منطلق عضوها التناسلي. إنها النظرة البرجوازية والسلفية لها، فلا تتشبّهون بمن هم في ضلالة وقد خرجتم من الظلمات إلى النور.
وإلى الأمام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اعتذار
زكرياء الفاضل ( 2011 / 12 / 5 - 20:18 )
أعتذر للقارئ عن ما جاء بخصوص السلفين بمصر حيث كتبت أنهم حصلوا على نسبة صغيرة من الأصوات والحقيقة غير ذلك. لكن ساعة كتابة هذه السطور كانت الأخبار تفيد أنهم حصلوا على 5 بالمائة فقط. وقد طلبت من المسؤول، في رسالة إلكترونية مرفوقة بنسخة معدلة، أن لا ينشر النسخة الأولى وأن ينشر الثانية الممعدلة، لكنه لم يفعل رغم توصله بها لسبب أجله ويعلمه هو.
مرة ثانية عذرا على هذا الخطأ غير المقصود.
وشكرا

اخر الافلام

.. آثار القصف الإسرائيلي على بلدة عيترون جنوبي لبنان


.. ما طبيعة القاعدة العسكرية التي استهدفت في محافظة بابل العراق




.. اللحظات الأولى بعد قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلا في حي السلط


.. مصادر أمنية عراقية: 3 جرحى في قصف استهدف مواقع للحشد الشعبي




.. شهداء ومفقودون في قصف إسرائيلي دمر منزلا شمال غربي غزة