الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهندسة اللاإقليدية

هشام غصيب

2011 / 12 / 23
الطب , والعلوم


أثارت مصادرة التوازي في نظام إقليدس الهندسي زوبعة عاتية منذ ضمنها إقليدس كتابه “الأصول” أو “الإسطقسات”، استمرت لمدة تنوف على ألفي عام. إذ يظن أن إقليدس نفسه لم يكن مرتاحاً لاعتبارها مصادرة أولية وتردد كثيراً في ذلك، وأنه عندما عجز عن اشتقاقها منطقيا من مسلماته الأخرى، اضطر إلى تثبيتها في نظامه بصفتها المصادرة الخامسة. وبالطبع، فقد توالت محاولات اشتقاقها مذاك وطوال العصور القديمة والوسيطة والحديثة، وعلى أيدي الرياضيين الإغريق والعرب والأوروبيين، لكنها أخفقت جميعاً.


وفي العشرينيات من القرن التاسع عشر حصلت انعطافة كبرى في النظر إلى هذه المعضلة تمثلت في عمل غاوس الألماني ولوباتشفسكي الروسي وبلياي المجري. فبدلاً من محاولة اشتقاقها، افترض أولئك الرياضيون الأفذاذ نقيضا لها، أي افترضوا الآتي: إذا كان هناك خط مستقيم ونقطة خارجه على سطح مستوٍ، فإن هناك أكثر من خط مستقيم يمر في هذه النقطة ويكون موازيا للخط المستقيم، بمعنى لا يتقاطع معه مهما امتدت هذه الخطوط المستقيمة. هذا ما افترضه غاوس ولوباتشفسكي وبلياي في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وحاولوا بناء نظم هندسية متكاملة على أساس هذا التعديل في نظام إقليدس، وبطريقة إقليدس المنطقية ذاتها. وكان هدفهم من ذلك أن يبينوا ضرورة مصادرة التوازي ببيان استحالة نظام هندسي منطقي متكامل من دونها. لذلك توقعوا أن يوصلهم افتراضهم الجديد إلى طرق منطقية مسدودة وإلى تناقضات منطقية تفجر نظمهم الجديدة من داخلها. لكنهم فوجئوا بعكس ذلك تماماً. إذ توصلوا إلى نظم هندسية منطقية ومنسجمة مع ذاتها ولا تقل تماسكاً عن نظام إقليدس الهندسي، ولم يصلوا إلى أي طريق منطقي مسدود ولا إلى تناقضات منطقية مربكة. لذلك خلصوا إلى نتيجة ثورية خطيرة مفادها أن نظام إقليدس الهندسي ليس النظام الهندسي الوحيد الممكن، وأن هناك نظماً هندسية لاإقليدية ممكنة، ومن ثم أن نظام إقليدس لا يمثل حقيقة مطلقة لا يمكن تجاوزها ولا صورة مطلقة للمعرفة اليقينية التي لا يرقى إليها الشك. فالنظم البديلة محكمة ومنطقية ومتماسكة بالقدر ذاته، وإن اختلفت عن نظام إقليدس في بعض مسلماتها وفي جلّ نتائجها وقضاياها الهندسية. قد لا نستطيع تخيل هذه النظم، كما نتخيل نظام إقليدس ومسلماته وقضاياه. لكن ذلك لا يعني شيئا فيما يتعلق بالمشروعية المنطقية لهذه النظم. فمسألة تخيل القضايا والعلاقات الهندسية لا تتعلق بالمشروعية المنطقية، وإنما تتعلق بطبيعة ملكة التخيل عند الإنسان وتركيبها وعملية تكونها بالعلاقة مع بيئة الإنسان، وربما أيضا تتعلق بالطبيعة الهندسية لبيئة الإنسان المحدودة. لذلك، فإن قدرتنا على تخيل الهندسة الإقليدية وعجزنا عن تخيل الهندسة اللاإقليدية لا يدعمان معقولية الأولى وينفيان معقولية الأخرى، وإنما لا يدخلان أصلاً في مسألة معقولية النظم الهندسية.



وبالطبع، فما كان من الممكن أن تمر مثل هذه الثورة المدوية على نظام منطقي صاغ العقل الجمعي على صورته ومثاله لمدة ألفي عام، بسلام وهدوء ووئام. لذلك آثر غاوس، المتمرس بشؤون الدنيا، الصمت وأخفى اكتشافه العظيم في أدراجه المغلقة تفاديا لصدام مع قوى الرأي السائد لا تحمد عقباه. أما لوباتشفسكي وبلياي فقد دفعهما حماسهما الكبير لهذا الاكتشاف العظيم إلى المجازفة براحة بالهما وسمعتهما بنشر أبحاثهما في هذا المضمار. وقد صح تخوف غاوس في هذا المضمار. إذ جوبه الرياضيان العظيمان بزوبعة من السخرية والاستهزاء والازدراء، أعقبها إهمال لهما، حتى إن طلابهما أداروا ظهورهم إليهما وابتعدوا عنهما حتى مماتهما. ومع ذلك، فقد ظل هذا الاكتشاف الثوري يتوهج ويصعد نجمه حتى هيمن على الوسط الرياضي الأوروبي وفرض نفسه عنوة عليه، جاراً وراءه عشرات الرياضيين الكبار. وسرعان ما أثبت الرياضي الألماني كلاين أن درجة تماسك النظم الجديدة وانسجامها الداخلي لا تقل عن نظيرتها الإقليدية. فكان ذلك وتداً جديداً في مدماك الهندسة اللاإقليدية. وبرز السؤال الخطير عن مدى انطباق الهندسة الإقليدية على العالم المادي، أي على المكان الذي يشكل مسرح الأحداث المادية. إنها بالتأكيد تنطبق ضمن الخبرة المحدودة التي لا تتخطى المجموعة الشمسية. لكنها إلى أي مدى تنطبق على المسافات الشاسعة؟ فلئن كانت تنطبق موضعيا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها تنطبق مجريا وكونيا. أي نظام هندسي ينطبق على الكون؟ وكيف نجيب عن هذا السؤال؟ بالمنطق والرياضيات أم بالتجربة والقياس؟ هذه هي الأسئلة التي انبثقت في الوسط الرياضي إبان القرن التاسع عشر، ووجدت طريقها إلى الفيزياء عبر ألبرت آينشتاين في الخمس الأول من القرن العشرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارة إسرائيلية في محيط منطقة الصناعية بمدينة غزة تخلف شهداء


.. سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد الردّ الإسرائيلي




.. أنفلونزا الطيور لدى البشر.. خطر جائحة مُميتة يُقلق منظمة الص


.. يعد أكبر مجمع للأبحاث في إيران.. تعرف على قدرات مركز أصفهان




.. -إيران تهدد بمهاجمة محطات الطاقة النووية الإسرائيلية-